"عصي الدمع"، مسلسل الكاتبة دلع الرحبي والمخرج حاتم علي، يخالف ما اعتادته اعمال تلفزيونية اجتماعية عدة، فهو ينغمس في الهموم"الصغيرة"لأبطاله ثم يراهم في لوحة المجتمع العامة، ولكن من دون فذلكلة ، أو إذا شئنا الوضوح، من دون اسقاط الوعي الخاص بالكاتب واعتباره مقياساً وحكماً صائباً. ولعل مشهد الحشود المتدافعة ، وما تثيره من صخب في ردهات قصر العدل ، تكثيف معبّر، بالغ الدلالة على ذلك كله. مسلسل"عصي الدمع"يتجنب في حكايات أبطاله تقديم ذرى دراماتيكية ، بل هو يذهب على العكس من ذلك تماماً، أي إلى الأحزان الممكنة والمحتملة ، بل إذا شئنا الدقة، التي تعصف - غالباً - بالبيوت ومن فيها من أفراد ، يغفلون عادة وفي زحام بحثهم الدؤوب عن أسباب الرزق، عن ملاحظتها، فإذا هي فجأة تعلن أنها خرّبت حياتهم وحوّلتهم إلى بشر منهكين ، تعصف بهم أوجاعهم"الصغيرة"، فتبدد طاقاتهم، على العيش بسوية طبيعية ، إذ يتكشّف الوعي الحقيقي نقيضاً مباشراً لأفكارهم التي اعتقدوا طويلاً أنهم يؤمنون بها حقاً ، وأنها قانون حياتهم اليومي. في كل نقلة درامية تسرد وقائع"عصي الدمع"، يتعمد المخرج حاتم علي أن يقدم لقطة عابرة ، لشرفة بيت ما من بيوت دمشق، ومع اللقطة العابرة ، عبارة ما تفلت من يوميات أهل بيت تلك الشرفة. تملك هذه العبارات إشارات دالة على مرجع تخفيه الجدران . هنا تكتمل اللقطة العابرة، السريعة بصياغة المناخ الشامل لمجموع حكايات الأبطال، الذين يجدون أنفسهم - على اختلاف مواقعهم ووعيهم - يعيشون حياة أبرز ما فيها الإيقاع السريع، وما يفرضه من لهاث. وحده"رياض المرادي"يحاول من خلال التصاقه بالموسيقى من جهة، وبفن الطبخ من جهة اخرى ، أن يقدم معادلاًَ صعباً، وشائكاً بين الرغبات المادية وبين ما تحتاجه الروح من رهافات الفن ووعيه معاً، ولكنه مع ذلك ، لا يعدو أن يتحول في مخيلة المشاهد إلى رجل من أفكار، يتبين بسهولة أنه أيضاً قد سقط في فخ التنافر مع هموم الحياة الواقعية ومشكلاتها الحقيقية ، وفي القلب منها مشكلة العلاقة مع الآخر، حبيبة وزوجة وابناً. هي بمعنى ما جولة بانورامية في سقوط فن التربية الاجتماعية سقوطاً مدوياً، في زمن شديد الفردية ، لا يصغي كثيراً لأهمية الأفكار المثالية قدر إصغائه لمتطلبات الحياة المعيشية اليومية، حتى أن فكرة الاحتفاظ بالبيت القديم كدلالة رمزية لوجود العائلة وتماسكها ، لا تقدر أن تواجه زحف فكرة طاغية تقول بتحويل البيت القديم إلى مطعم سياحي. "عصي الدمع"، لا يقدم حكاية تقليدية ذات بداية ونهاية، إنه يقدم حكايات يحثنا كمشاهدين أن نبحث لها عن بدايات صنعتها، ناهيك أنه يدفعنا كي نبحث لها عن نهايات ترضينا، ونراها منطقية وصائبة، فالبدايات مثل النهايات تماماً، لا تقع في مخيلة الكاتبة قدر ما تقع في شكل حياتنا ومضامينها ، وبالذات في الوعي الاجتماعي الذي يسيطر عليه التماثل. مما لا شك فيه تحتاج الدراما التلفزيونية السورية هذا اللون من الكتابة، التي تنبذ من اهتمامها رتابة الموضوعات، والتي تنبذ - بقصدية جميلة - إلقاء عظة اجتماعية ، متماسكة شكلاً، وشديدة التهافت فعلاً، ذلك أن الهموم التي تبدو في العادات الدرامية السائدة ، هامشية وعابرة، هي في الحقيقة الأهم والأجدر بالمعالجة ، وأكاد أقول أن الدراما التلفزيونية العربية، والسورية بالذات تحتاج في المقام الأول إلى تجزئة قضاياها الكبرى وهذه مهمة تتطلب تواضعاً شجاعاً، يفهم أن الدراما هي بمعنى ما غوص في التفاصيل والجزئيات . مرة أخرى يقدم حاتم علي معالجة إخراجية تأخذ جماليتها من بساطتها، وبالذات من صدق العلاقة بين الشكل والمضمون، بالابتعاد عن الفذلكة وثرثرة الصورة ، وبالاهتمام الناجح بإدارة الشارع بوصفه مكاناً، وبوصفه حاضنة للأبطال قدر اهتمامه بإدارة ممثليه، ففي"عصي الدمع"تمكن ملاحظة حضور صورة الحياة اليومية في دمشق باعتبارها جزءاً حيوياً من وقائع الحكايات ، لا تفصيلاً زائداً عليها. "عصي الدمع"دراما اجتماعية تنفتح على وجع الناس، ينجح خلالها حاتم علي ودلع الرحبي في استنطاق حيوية المشهد التلفزيوني وتقريبه من السينما ، فالصورة هنا تأخذ جماليتها من بلاغتها في التعبير عن مضمونها الدرامي حقاً.