لم تعد الدراما التاريخية السورية عوداً غضاً يتوجب التعامل معه بالحماية والخوف على مستقبله، خصوصاً في ظروف العرض الحديثة، مع انتشار الفضائيات التي تتيح لقسوة حكم المشاهد على العمل الفني فرصاً كبيرة، وذلك عبر الضغط على زر "ريموت كونترول" والعزوف عن المشاهدة، وإذا كان للنقد مهمة، فإنه يشكل جرس انذار مبكر، لأن عملية صناعة الدراما اقتصادية، وبالتالي، مفتوحة على التنافس، وتبدو النوعية عاملاً حاسماً في تقرير موقع هذا المنتج في هذه السوق الصغيرة، التي تطل على مجتمعات متباينة الطلب على الاعلان بمعناه التجاري والسياسي والثقافي، وتتباين المواصفات المطلوبة التي تتمثل بالرقابات المتنوعة ليصبح الشرط الأقسى هو المتفق عليه، إلى درحة تداخل الفن مع الشرط الإعلامي للمحطة، مما يولد عوامل طارئة مادية ومعنوية تتدخل في صياغة صلب المضمون الفني بالاضافة إلى شكله، مما يبيح لنا توصيف هذا الفن الجديد بأنه فن "تحت الرعاية" أو بتفاول أكثر الفن "الأكثر رعاية"، وهذا يؤدي في أكثر الحالات إلى سلوك طرق متشابهة يتم القضاء عبرها على التنويع، الذي يعتبر من أوليات البث التلفزيوني نظراً إلى عمومية المشاهدة. هذه العمومية التي تتطلب المقدرة الحقيقية على جذب المشاهد، والاخلاص والوعي التام لمصلحته. ومن هذه المقدرة بالذات يظهر تمايز المبدعين من صنّاع الدراما التلفزيونية، أي بقدر مقدرتهم على تمثل الثقافة الموسوعية، شرطاً أساسياً للعمل الفني من موقع قيادي مخرج. كاتب، سينوغرافي، بحيث يستطيع هؤلاء مناورة الشرط الإعلامي عبر استيعابه، والخوض في تجارب تتناسب ومشروعهم الفني من جهة، وتنوع أدواتهم من جهة ثانية، فلا تبدو شطارتهم المهنية المبهرة في أحد اختصاصات هذه الصناعة قادرة على الخضوع بشكل ساذج للشرط الاعلامي، الاعلاني، وبالتالي الدخور في فوضى الارتجال جراء شعارات تميز أداتة من أدوات وأنواع الانتاج الفني. ومع هذا لا يبدو الشرط الرقابي أو الاقتصادي كافياً لتفسير السيطرة الكمية للعمل التاريخي في دراما التلفزيون آخذاً في طريقة التنوع، ولا يبدو المسلسل التاريخي ضمن هذه الكمية دسماً أو مغرياً للمشاهد إلا في استثناءات قليلة ومعدودة، لأنه يخضع بالنتيجة إلى آلية نقدية مختلفة عن آلية نقد السينما والمسرح، لأسباب هي في صلب نوعية المشاهدة ومن صلب أداة العرض ذاتها، التي تعني بالمعلومة في المقام الأول، وبالتالي فإن تقديم العمل الفني، خصوصاً عبر تكرار النوعية، وتكرار البث في المحطات المتنوعة يخضع لتمحيص شديد لاكتشاف الخطج والصواب في المعلومة التاريخية والاجتماعية، وحتى الدرامية من ناحية الفكرة والمعلومة البصرية المتمثلة بالديكور والمكياج والاكسسوار وتنفيذ المعارك والقتال... الخ، من ناحية الشكل. ويبدو الرهان على نجاح العمل في جذب المشاهد الأمي أو "المكره على المشاهدة" هو نوع من نسف عوامل تكوين المبدع ذاته، عبر خضوعه للشرط الانتاجي السائد رقابياً واقتصادياً. هذا الخضوع يدفع الكثيرين باتجاه انتاج ما هو سائد ومحايد من خلال العودة إلى التاريخ الذي لا يشكل المجال الأسهر للتناول فحسب، بل يعبر عن النوعية الثقافية والمعرفية المشاركة في صناعة المشهد الدرامي التلفزيوني. ففي حين كان المسلسل التاريخي في السبعينات وبداية الثمانينات يأخذ موقفاً نقدياً من التاريخ، تحول خلال السنوات الأخيرة إلى تقديم مواقف متصالحة مع التراث لينتقل الزمن الكامل الذي يسعى إليه الناس من المستقبل إلى الماضي، وبالتالي فإن الرؤية النقدية تتحول إلى نوستالجيا وحسرة وغرق في الماضي التي لا تشوبه شائبة، وينتصر فيه الخير المتمثل في القيم البسيطة والبدئية والثابتة، عن طريق صراع يدور بشكل ثانوي، معاكساً الدراما كتوين، لأن نتائجه معروفة سلفاً، في آلية تؤكد على خير الثابت الماضي. وتتحول بذلك كل الأعمال الدرامية التاريخية إلى أعمال متشابهة تتبدى في خروج طرف درامي خارج السكونية ثم العودة إليها وتأكيدها في أبهى صورها. هكذا نوع من العودة إلى التراث لا تحكمه فقط آليات السوق وحدها، بل الطاقة المعرفية لدى صناع الدراما، فالتاريخ بالاضافة إلى كونه سهل "التشغيل" بسبب مساحاته المترامية وتعدد وجهات النظر فيه يحمل المقدرة على الارتجال، ويتحول إلى "حكاية الجدة" فيستطيع الصانع الانعطافل به وتأويله وحتء تحميله ما لا يحتمل، بل حتى كشف السذاجة الحرفية في إعادة صياغته، لكنه يبقى زمن الصلاح والصالحين الذي يعطي للتاريخ جلاله، في محاولة غير مقصودة طبعاً القصد يحتاج إلى معرفة للعيش في الماضي وعلى حسابه. وذلك على المستوى المعرفي والنفسي والحضاري، وبالتالي خلق منظومة فكرية ماضوية تعتمد الحقيقة الواحدة بشكل نهائي، إضافة إلى الحياد والبساطة والقيم الطوباوية إلى درجة حصول مفارقة حقيقية بين هذه الأعمال كشكل ومضمون، وأداة توصيل تعتمد آخر منجزات العصر، فيبدو تقديم العمل التاريخي الدرامي المتلفز بهذا الكم محاولة لتطويع العصر إنسان " منجز إنساني في السياق الماضوي. ولا تخرج الفانتازيا التاريخية كصنف درامي أفرزته المفاهيم السابقة الذكر إلا بمقدرتها على التسطيح، حيث تشكل الرحابة الماضوية مساحة مثلى لارتجال شح المعرفة، فإلغاء الزمان والمكان يقدم "للجدة" الطاقة على التلاعب البسيط والساذج بالحكاية بحيث تصبح قواعد السرد البصري والحكائي غير خاضعة لأية قوانين معرفية، فالجدة وصانع الدراما الفانتازية، لا يعرفان ماذا تعني القبيلة من الناحية الاجتماعية والسلطوية، على سبيل المثال، فيقومان بارتجال شكل هو بين "المدينة الحديثة" و"جمهرة الإنسان البدائي". وهكذا ينسحب الشح المعرفي على باقي مقومات العمل الفني، فالشخصية الدرامية هي أيضاً وليدة العماء، تقبع بين الفيلسوف وبائع البندورة، مخلصة للعديد من الطباع والنماذج التربوية، أما البيئة فهي بين بين جبال صحراوية مكسوة بالأحراش أو مزدانة بشواطئ البحيرات، والملابس هي بين الروماني والأموي والعباسي والعثماني، أو ابتكار من مخيلة مهلوسة ضحلة المعرفة، حيث تجد الفارس يتجلب عشرات الأمتار من القماش الموشى لا يبدله طوال المسلسل فيتعثر به حتى يستل سيفه ويقاتل كي يخلصه من الأغصان. أما ألوان الملابس فهي أيضاً ملتبسة بين أحمر فينيقياً وألوان الفوسفور الألمانية الحديثة، والديكور يتلطى بين خيام الجبال والبحيرات وبيوت الطين في الصحراء. أما الاكسسوار فحدث ولا حرج، لأنك ترى تماثيل النسور الضخمة إلى جانب الخيام، داخلها ترى آخر صرعات المفروضات المعدنية المستقاة من عصر النهضة الأوروبية. بالانتقال إلى الماكياح فإنه سشيء ما" على حد المسافة الفاصلة بين ماكياج مارلون براندو في "السفينة بونتي" ودي كابريو في افتتاح حفلة خيرية، هذالا بالنسبة إلى الرجال. أما السيدات بطلات العمل، فحدث ولا حجر حرج، فهو في مكان ما بين ماكياج وتصفيف شعر السهرة واخر اعلان تجاري متلفز عن مواد التجميل النسائية. أما الصراع، لب الدراما، فهو لسبب ما يقع بين ثورية "البروليتاريا الرثة" ووعيها الطبقي، وتململ أحد الرعاة من مفاسد الاستعمار الروماني - اليوناني - العثماني - الفرنسي الانكليزي - ومن ثم تصرفه بوعي وحكمة توازي حكمة كرومويل، واطلاق شرارة ثورة منظمة محكمة يقتل فيها من المستعمرين عبر هذا الكم من الأعمال عدد لا يقل عن عدد سكان فرنسا. هكذا يسترسل صنّاع العمل الدرامي الفانتازي في صياغة أي شيء، وكل شيء، لأسباب انشائية بصرياً وحوارياً، مطمئنين تماماً إلى تقبل الناس العودة إلى زمن الكمال، تبدو هذه العودة حقنة مخدرة تساعد على تجاوز الأخطاء المعرفية الفاحشة، تحت غطاء الضجيج البصري المسمى تجاوزاً "إبهاراً بصرياً" مع أنه يفتقد إلى أبسط قواعد الإبهار البصري، ونقصد الرحابة الاقتصادية التي تتميز بنيتها التحتية بالطاقة على الابتكار وصناعة أشكال مبهرة من ديكورات وملابس ومكياج وحتى بيئات شرطية. لكن في ظرف العمل الفانتازي الحالي، فإن هذا الشرط يبدو استبدالياً للغاية، مقارباً المسرح في أبسط صوره الشرطية، إذ يتحول السرد البصري إلى مسرح عرائس يفتقد إلى الكثير من شروط تشكيل الصورة، في قدرتها على وقعنة الحدث الدرامي والسرد الحكائي، وبالتالي الحصول على حال "عدم تصديق" نظراً إلى عدم نفوذ الشرط الفانتازي يمتلك قواعد فنية خاصة إلى مخيلة المشاهد لتمتد يده بعد مسلسلين أو ثلاثة إلى زر تغيير القناة. مسؤولية انتاج عمل درامي تلفزيوني خطيرة لأنها تعتمد على التكرار، الذي يرسب - عبر بنيته - الكثير من المفاهيم والقيم في وجدان المشاهد.