عرض التلفزيون السوري بقناتيه الأولى والفضائية خلال شهر رمضان الفائت مسلسل المخرج حاتم علي "الفصول الأربعة"، والذي اشتركت في كتابة حلقاته ريم حنا ودلع ممدوح الرحبي، ولاقى متابعة كثيفة من جمهور المشاهدين. "الفصول الأربعة" دراما اجتماعية، اعتمدت الكوميديا الخفيفة، من خلال ملامسة القضايا اليومية في حياتنا المعاصرة، حيث شاهدنا من خلال حلقات المسلسل المنفصلة حكايا متعددة عن حياة عائلة واحدة، تنوعت الموضوعات فيها، وعكست ردود أفعال إنسانية مباشرة تجاه ظواهر حياتية بسيطة في أغلب الأحيان، وإن تكن على علاقة عميقة وحميمة بجوهر الحياة الاجتماعية الراهنة، فأثارت في نفوس المشاهدين مشاعر جياشة وشجوناً ذات صلة بأهواء الناس الخاصة أفراداً ومجتمعين، خصوصاً في الحلقات التي قدمت قصصاً تتناول مراحل عامة جسدتها شخصيات من الحياة الثقافية والفنية التي شكلت ما يشبه وجداناً جمعياً، كما في الحلقة عن عبدالحليم حافظ أو الشاعر الراحل نزار قباني. "الفصول الأربعة" طيف واسع من الألوان الزاهية حيناً، والقاتمة في أحيان أخرى، لما يموج به الواقع الراهن لحكايات الحب والزواج وتكاليف العيش، وحتى الأمزجة الفردية، طيف يقارب الواقعية في تفصيلات وجزئيات دقيقة مرة، ويقارب الفانتازيا مرة أخرى في قالب فني حمل رشاقة القصة القصيرة الناجحة والتي يقدمها المخرج من خلال شخصيات لا تنمو خلال العمل، بل هي تجيئه مكتملة ناضجة، لتقدم ومنذ لحظة ظهورها على الشاشة، تصرفاتها وردود أفعالها. وهي بنائية درامية تنسجم مع فكرة القصة القصيرة، أو إذا شئنا الدقة: التمثيلية القصيرة. هنا اعتقد ان المخرج حاتم علي نجح في تكثيف حكاياته الدرامية إلى الحدود القصوى والتي سمحت بخلق توازن فني ناجح تماماً بين المضامين السردية للحكايات، وبين ايقاع العمل ككل، والذي ظل ايقاعاً يتناغم مع استجابات المشاهدين فحقق المتعة الفنية، لعمل كان طموحه منذ البداية، تقديم كوميديا خفيفة، من دون التقيد بما آلت إليه الكوميديا التلفزيونية الراهنة من بؤس وتهريج، إذ أن الكوميديا هنا لا تقصد إلإضحاك المجاني، بل وضع المشاهد في صورة المفارقات الاجتماعية اليومية. أهم ما يميز "الفصول الأربعة"، ولعله أهم عوامل جذب للمشاهدين هو ابتعاد العمل منذ الحلقة الأولى عن الموضوعات الكبرى، إذ اختار موضوعات من الحياة اليومية، بل إنه في إحدى حلقاته الأجمل والتي حملت عنوان "الجبال لا تلتقي"، لامس موضوعة عامة وكبيرة هي حرب تشرين الأول اكتوبر 1973، ولكنه حرص على ملامستها من جانبها الإنساني ذي العلاقة المباشرة بمشاعر الناس الذين خاضوا تلك الحرب ومن خلال شخصيتين أولاهما من سورية والثانية من المغرب، فقدمهما في إطار حكاية عالية الشجن وذات أبعاد إنسانية رقيقة. كان لافتاً في "الفصول الأربعة" تنوع المناخات الجمالية التي قدمها المخرج والتي تحققت من خلال النماذج المختلفة وحتى المتباعدة الأمزجة والتكوين الاجتماعي للأبطال الذين عكسوا تلاوين وأطيافاً اجتماعية واقعية ارتفعت معها جمالية أداء الممثلين وهم نخبة من أبرز الممثلين السوريين وان لفت الانتباه بسام كوسا بتمكنه الفائق من المحافظة على وتيرة أداء عالية لشخصية "نجيب" خلال قصص العمل الخمسة والثلاثين، وكذلك جمال سليمان الذي قدم أداء عفوياً فيه الكثير من بساطة التعبير وجمالياته، كل ذلك إلى جانب أداء الفنانين الكبيرين خالد تاجا وسليم صبري. تجربة "الفصول الأربعة" تعيد تذكيرنا من جديد بفن المسلسل التلفزيوني ذي القصص المستقلة، أو الحلقات المتصلة - المنفصلة، والتي سبق للكاتبة ريم حنا أن خاضتها مع أمل حنا في عملهما الناجح "مذكرات عائلة" قبل ما يقرب من عامين، وها هي تعود إليها ثانية ولكن مع كاتبة أخرى هي دلع الرحبي وفي تجربة مختلفة. اعتقد ان هذا اللون من الدراما التلفزيونية يحمل خصوصية هامة، إذ يضع المشاهد في كل حلقة أمام حكاية جديدة مع الاحتفاظ بنفس الأبطال الدراميين الذين أحبهم والذين يرغب في رؤيتهم في ملابسات أخرى، وقصص مختلفة، وهي ميزة عكست نفسها في كثافة متابعة المشاهدين، الذين تجدد شوقهم لمتابعة العمل، خصوصاً ان "الفصول الأربعة" - ومع تباين مستوى حلقاته - لم يقدم حلقة واحدة يمكن أن توصف بأنها باهتة أو رتيبة، بل حافظ في العموم على حرارة القصص التي قدمها، والتي قدمها المخرج من زوايا رؤية جديدة في كل مرة اكسبت المسلسل عموماً رشاقة افتقدها كثير من الأعمال التلفزيونية التي احتشدت طيلة شهر رمضان. وإذا كان "الفصول الأربعة" قد نجح على المستوى الجماهيري، فإنه على المستوى الفني نجح أيضاً في تقديم مخرج يعرف كيف يختار موضوعات عمله، تماماً مثلماً يبرع في تقديم تلك الموضوعات في قوالبها الفنية الجميلة والمبتكرة، في ساحة فنية تتلاطم فيها أمواج التجريبية المنفلتة من أية ضوابط بالتقليدية الصارمة والرتيبة. واعتقد ان تجربة حاتم علي الاخراجية - ومن خلال "الفصول الأربعة" ومن قبله "السفر" - تجربة تستحق التحية، إذ هي تبحث عن نفسها في الموضوعات ذات الصلة بحياة الناس وهمومهم وتحرص في الوقت ذاته على تحقيق بنائية فنية راقية.