الفرحة التي يحرص الاسرائيليون على اظهارها عبر عدسات الكاميرات، عند استقبال وفود المهاجرين الجدد والتركيز على الاطفال الذين يظهرون كمن خرجوا من نار جهنم في طريقهم الى"جنة عدن"ليست فرحة كاملة، هي بالأحرى قناع لوقائع مختلفة. ليس فقط لان هؤلاء يدركون ان التجارب السابقة للقادمين الجدد، بمعظمهم، لم تشجع نسبة كبيرة على البقاء في اسرائيل. وليس فقط لان هؤلاء يواجهون المشاكل والمصاعب وربما التمييز العنصري والاستعلاء من الاسرائيليين القدامى، بل لأن المسؤولين يدركون ان من بين هؤلاء، من يأتي من دون عائلته وسيقذف الى الشوارع ليكون وسيلة سهلة للنصب والاحتيال وسلعة مربحة للتجار وافراد العصابات. لا نتحدث هنا عن تجارة الاطفال المعروفة في العالم، ولا عن اطفال يختطفون من اهاليهم للاتجار بهم. الحديث عن ظاهرة باتت تقلق المسؤولين الاسرائيليين الذين ادركوا اليوم ان لا قدرة لهم على السيطرة عليها والحد منها ولا حتى معاقبة كل المجرمين من هؤلاء التجار، هكذا اجاب اكثر من مسؤول توجهنا اليه بأسئلة حول هذه الظاهرة. اطفال وصبايا وفتيات وشبان، معظمهم من اثيوبيا ونسبة ليست قليلة من روسيا، يصلون برفقة عائلات يهودية مهاجرة الى اسرائيل من دون ان تكون لهم اي صلة قرابة بهذه العائلات. معظم الاطفال ليسوا يهوداً ولكنهم جميعاً جاؤوا من عائلات فقيرة عاجزة عن تربيتهم ووافقت على ارسالهم الى اسرائيل باعتبار ان حياتهم ستتحول الى سعادة وهناء بعيداً من الفقر. بعض العائلات لم يتلق مقابلاً لقاء التفريط بالأولاد لكن هناك ايضاً من قبض المال... قالوا انهم سيضمنون حياة سعيدة لأولادهم في اسرائيل وأيضاً يحصلون على اموال تساعدهم على توفير الحد الادنى من المتطلبات الحياتية. … والنتيجة: - عشرات وربما المئات من الاطفال يطوفون الشوارع الاسرائيلية من دون مأوى وفي حالة فقر لا توصف. والمسؤولون لا يستطيعون اعادتهم الى أهاليهم لأنهم لا يعرفون عنهم شيئاً. - عشرات الصبابا والشابات تحولن الى ضحايا للابتزاز الجنسي والمالي. - نسبة ليست قليلة سجنوا داخل البيوت على مدار ساعات طويلة مكبلين حتى عودة صاحب البيت خوفاً من الخروج من البيت والكشف عن الحقيقة. وما هي الحقيقة؟ في اسرائيل أنشئت وزارة منذ تأسيس الدولة العبرية اطلق عليها اسم وزارة الاستيعاب مهمتها الاهتمام بشؤون المهاجرين وضمان توفير حياة اجتماعية واقتصادية تشجعهم على البقاء وتشجع الآخرين على المجيء اليها. ومن ضمن ما توفره الوزارة مخصصات شهرية لكل فرد في العائلة، قروض اسكانية بشروط سهلة تضمن شراء البيوت بمبالغ مخفضة وهبات وغيرها من المغريات المالية التي ادرجت ضمن"سلة الهجرة". و"سلة الهجرة"هذه كانت العنوان الرئيسي لنشاط العصابات والمافيا التي اوجدت صلة بين مندوبيها في اسرائيل واثيوبياوروسيا. هناك حالات كانت فيها عائلات اسرائيلية قادرة على الانخراط في هذه التجارة من دون علاقة بالعصابات وكسبت اموالاً طائلة. وزور بعضهم المستندات واضاف اسماء الاطفال والشابات الى عائلته ونجح بتضخيم عدد افراد العائلة التي قررت الهجرة الى اسرائيل، من دون ان يتمكن اي مسؤول اسرائيلي من كشف الامر. الوكالة اليهودية، التي يفترض ان تكون على علم بتفاصيل اليهود الآتين من مختلف ارجاء العالم، كما تذكر في نشراتها، لم تنجح بعد في منع وقوع المشكلة قبل حدوثها. وقالت سابين حداد، وهي مسؤولة احصاء السكان في وزارة الداخلية الاسرائيلية، ان عملية الكشف عن التزوير هي واحدة من اعقد وأصعب المهمات التي يمكن القيام بها في المكاتب المسؤولة عن احضار المهاجرين الى اسرائيل. وتضيف:"هذه الظاهرة موجودة منذ سنوات ولكن المسؤولين في اسرائيل لم يتعرفوا اليها الا من فترة قصيرة بعد الكشف عن حالات عدة لضحايا ضاقت بهم الحياة وعثر عليهم في الشوارع او تمكنوا من الهرب من البيوت التي احتجزوا فيها وتوجهوا الى الشرطة. وهناك حالات كشف عنها بواسطة الجيران الذين علموا بما يعاني منه الضحايا". وتقول حداد:"فقط السنة الماضية كشفت وزارة الداخلية، لوحدها، عن اربعين حالة لأطفال وصلوا من دون اهاليهم وقذفوا الى الشوارع. هؤلاء بموجب القانون يجب طردهم من اسرائيل ولكن في كثير من المرات لا نتمكن من طردهم لعدم معرفة العنوان الذي يجب نقلهم اليه إذ لا وجود لأي سجل منظم للعائلات وخاصة في اثيوبيا. وفي مثل هذه الحالة لا يمكن التصرف بموجب ما يمليه علينا القانون". ومع هذه الصعوبات بينت الاحصاءات الرسمية انه طرد من اسرائيل منذ مطلع هذه السنة 27 طفلاً، 17 منهم من اثيوبيا وعشرة من روسيا. وخلال السنوات الاخيرة تم طرد 1115 طفلاً وفتى تحت سن ال18 عاماً، 75 في المئة منهم من اثيوبيا. أكثر القضايا اثارة في هذا الموضوع كانت حادثة قتل شابة اثيوبية تدعى فوفيت ووفليم، 22 عاماً قتلها صديقها لأنها قررت تركه. ففي حينه تبين ان الضحية غير يهودية، خلافاً لما كان مسجلاً في الوثائق التي عرضت عند وصولها الى اسرائيل في احدى حملات هجرة اليهود الاثيوبيين الى اسرائيل. فقد وصلت مع جارها اليهودي، الذي كان قد بات خبيراً في اسلوب الاحتيال والابتزاز وكسب المال عن طريق الاطفال والشابات. فهذا كان قد وصل الى اسرائيل قبل ان يحضر الفتاة وعلم بكل الحقوق التي يحصل عليها القادمون الجدد وكان شاهداً على اكثر من حالة لاطفال وصبايا من اثيوبيا وصلوا بواسطة آخرين من دون اهاليهم بهدف كسب المال. وقرر خوض التجربة وكسب المال فعاد الى اثيوبيا واقترح على عائلة الفتاة، وهي عائلة فقيرة، ان يخفف عنها عبء مصاريف ابنتها"وينقذها من الجحيم الذي تعيشه"باحضارها الى اسرائيل، وهي بدورها تعمل وتجمع المال لمساعدتهم. وفي التحقيق في ملف هذا اليهودي المتهم، تبين ان العائلة لم تتردد في الموافقة بل باعت حصاناً وحمارين ووفرت له المال الذي طلبه لضمان حياة افضل لابنتها. بعد الموافقة توجه الرجل الى القنصل الاسرائيلي في"اديس بابا"وادعى امامه انه عثر على ابنته التي انجبها من زوجته الثانية ولم يتمكن من احضارها معه في حملة الهجرة السابقة التي وصل فيها الى اسرائيل وبأنه لا يستطيع العودة، الان، من دونها. بالنسبة للقنصل، فان كل يهودي اضافي يصل الى اسرائيل هو هدف يسعى هو وغيره من المسؤولين لتحقيقه. فكانت الموافقة وانهاء المعاملات بأسرع ما يمكن. ووصلت فوفيت مع جار عائلتها اليهودي الى اسرائيل. ولكن الصورة التي رسمتها لحياتها بقيت مجرد حلم. فمنذ اليوم الاول لوصولها الى اسرائيل بدأت معاناة اقسى واصعب واخطر من حياة الفقر في اثيوبيا: خوفاً من كشف الامر احتجزت داخل بيت في حي فقير جداً وكان جار عائلتها يقفل باب البيت منذ لحظة خروجه الى العمل في الصباح وحتى عودته بعد الظهر لتتحول في ما بعد الى خادمة مطيعة لأوامره. واستمر الوضع على حاله لمدة سنة حتى كشف الامر احد الجيران ووصلت التفاصيل الى مسؤول الاستيعاب في الوكالة اليهودية ويدعى شلومو مولا الذي اتخذ الاجراءات التي ضمنت اخراج الفتاة من البيت وضمن للشابة فوفيت حياة مستقلة وهادئة. في هذه الفترة تعرفت الى صديقها وبعد اشهر عدة قررت تركه فكان رده برصاصة قضت عليها. حادثة هذه الفتاة كشفت عن عشرات الحالات لاثيوبيين يعيشون في اسرائيل وحيدين وفي ظروف قاسية، وخصوصاً الاطفال الذين يقذفون الى الشوارع بعد ان تحصل العائلة التي اشترتهم او الشخص في بعض الاحيان، على المخصصات والحقوق كافة من وزارة الاستيعاب. ومن بين القصص التي كشفت ان هناك عائلات يهودية لا تنجب الاطفال وهي لا ترغب بالهجرة الى اسرائيل ولكن بعد ان وصل الى مسامعها عن هذه التجارة المربحة قررت ان تخوض التجربة. احد ملفات التحقيق يتحدث عن امرأة احضرت من خمس عائلات اثيوبية خمسة اطفال. وتمكنت من الحصول على مستند مزور تم فيه تسجيل الاطفال الخمسة مع العائلة وكأنهم عائلة واحدة. وفي سياق التحقيق في الملف كشف ان هناك مسؤولين اسرائيليين يعرفون بهذه الظاهرة ولكنهم يغضون النظر عنها. فأحد جيران هذه المرأة كان يعلم بتفاصيل هذه التجارة ويشعر بالقلق على مصير الاطفال، ويقول انه صدم عندما شاهد مع جارته، وبشكل مفاجئ، خمسة اطفال تدعي انهم ابناؤها مع انها تعيش في حيه منذ سنوات والجميع يعلم انها عاقر. فتوجه هذا الجار الى المسؤول الاسرائيلي الذي يسجل العائلات التي ترغب بالهجرة الى اسرائيل وابلغه بالحقيقة، لكن المسؤول صرخ في وجه وقال:"لا تتدخل في شؤون لا علاقة لك فيها". اما الأساليب التي لا تقل خطورة عن قذف الاطفال في الشوارع فتكون في جلب فتيات واستغلالهن جنسياً ومالياً. وهناك عشرات الفتيات، اللواتي وصلن مع عائلات يهودية او رجال يهود بعد ان اقتنعت العائلة بأن حضور الفتاة الى اسرائيل سيضمن لها مستقبلاً افضل، تحولن في اسرائيل الى ضحايا لهؤلاء التجار. أحد الملفات الذي يتحدث عنه المسؤولون في وزارة الاستيعاب ويعتبرونه مثالاً صارخاً يكشف بشاعة استغلال الفتيات، هو ملف رجل في السادسة والخمسين من عمره وصل الى اسرائيل مع عائلته لكنه بعد سنوات طلق زوجته وترك البيت. وبعد اشهر عانى من ضائقة مالية ومن وحدة. فاختار الاسلوب الاسرع والاضمن لحل مشاكله، فعاد الى اثيوبيا واقنع عائلتين بانه يعيش حياة رفاه وسعادة في اسرائيل وان مئات الفتيات اللواتي وصلن الى اسرائيل يعملن بمبالغ طائلة. واقترح على العائلتين جلب ابنتيهما. وكغيره من المزورين اقنع القنصلية الاسرائيلية ان الفتاتين ابنتاه، بعد ان كان دربهما على كيفية الرد على الاسئلة المتوقع ان يوجهها اليهما المسؤول الاسرائيلي. وكي يضمن نجاح مهمته اعطاهما اسمين يهوديين. وبالفعل نجح باحضارهما الى اسرائيل ولم يكسب من مخصصاتهما ومستحقاتهما من وزارة الاستيعاب فحسب، بل حولهما الى ضحايا له وبعد اشهر حملتا منه. وقد علم المسؤولون في مركز الهجرة بأمريهما فتم نقلهما الى ملجأ ضحايا الاعتداءات الجنسية. وبعد انجابهما تحول الطفلان الى عائلتين للتبني في حين واصل المسؤولون اجراءاتهم لاعادة الفتاتين الى اثيوبيا. المافيا المنظمة في روسيا عملية نقل الاطفال والفتيات والشباب تتم بشكل اسهل واكثر تنظيماً. ويعود ذلك لتدخل المافيا بالموضوع ولعملها بشكل منظم عبر موقع خاص على الانترنت. وفي اسرائيل يدركون تماماً تفاصيل العمل الذي شرحته سابين حداد كالآتي:"الى جانب العمل عبر موقع الانترنت يتم نشر اعلانات في الصحف الروسية تحت عنوان"من يريد ان ينتقل الى اسرائيل ليعيش بهناء"ويكون التجاوب كبيراً وخصوصاً من قبل الشابات والشبان. ومنظمو هذا العمل يدفعون الرشا لعائلات يهودية لا تريد الهجرة الى اسرائيل مقابل الحصول على وثائق ميلاد لافراد العائلة يتم تزويرها واضافة اسماء جديدة لاثنين او ثلاثة ممن يوافقون على الذهاب الى اسرائيل. وهكذا يمكن لخمسة او ستة الوصول عبر الوثائق المزورة كعائلة واحدة. اضافة الى ذلك هناك من يشتري شهادات ميلاد لفتيات او شباب توفوا في روسيا وتوافق العائلة على بيع الشهادة التي يتم تزويرها". وتقول حداد ان في اثناء التحقيق باحدى القضايا تبين مثلاً ان ثلاث فتيات روسيات مسجلات على اسم شهادة ميلاد واحدة تعود لفتاة روسية توفيت قبل سنوات". وفي ملف آخر تبين ان احدى العائلات الروسية التي وصلت الى اسرائيل وهي مؤلفة من اربعة اشخاص لا تربط أي منهم علاقة قرابة بالآخر. وبعد وصولهم الى اسرائيل توجه كل الى مكان عمله. وقد كشف أمر هذه العائلة، بعد ان قرر احدهم التجند في الجيش. فبعد سلسلة من المعاملات الضرورية تبين ان الاسم الذي يحمله مزيف مما دفع المسؤولين في الداخلية الاسرائيلية الى البحث عن الاسم الحقيقي في روسيا وبعد اكتشاف الامر اعتقل الشاب المجند. وتقول حداد ان الوزارة اتخذت جميع الاجراءات لطرده لكن الجيش رفض واعلن عنه مجنداً متفوقاً ويحاول حالياً احضار عائلته من روسيا. ويعترف المسؤولون في وزارة الداخلية الاسرائيلية بانه لم تتخذ الاجراءات الكافية للحد من هذه الظاهرة ولا يتوقعون النجاح في ضبط المتهمين ولا الكشف عن جميع الحالات، الا انهم يبذلون جهوداً في التحقيق اكثر عبر الاطراف اليهودية المسؤولة في كل بلد يأتي منه المهاجرون وتشديد الاجراءات في اثيوبياوروسيا. ومن بين المقترحات التي يتم نقاشها الزام كل من يستخدم هذه الاساليب باعادة جميع الاموال التي حصل عليها كمخصصات من وزارة الاستيعاب عن الاشخاص الذين حضروا معه بطرق مزورة. اما الاطفال فتقول سابين ان قصتهم اكثر تعقيداً:"هناك الكثيرون ممن يقذفون الى الشوارع ولا يمكن الكشف عن الجميع. وهناك من يكشف امره من طريق الصدفة وهؤلاء لا يمكن اعادتهم الى اهاليهم لعدم معرفة اي تفاصيل عنهم، ما سيترك المئات منهم في ملاجئ وحاضنات على أمل التوصل الى وسيلة تعيدهم الى أهاليهم.