على عكس ما قد يخيل الى كثر من الذين يتحدثون عن"الموجة الجديدة"في السينما الفرنسية، لم يكن هذا التعبير، حين ظهور السينما التي انتمت الى هذا"التيار"اسماً رسمياً له، بل كان اسماً عاماً أطلقته الصحافية فرانسواز جيرو في مقال لها في مجلة"الاكسبرس"على كل ما هو جديد في نتاجات الأجيال الشابة في الميادين كافة. أما حين طبق التعبير على السينمائيين الطالعين حديثاً في ذلك الحين، فإنه استخدم للسخرية منهم لا أكثر. ولكن حدث له، مع مرور الزمن أن ترسخ وصارت تعرف به تلك الأفلام التي ولدت في فرنسا خلال النصف الثاني من سنوات الخمسين. واليوم، طبعاً، صارت"الموجة الجديدة"جزءاً من تاريخ السينما، وثمة في العالم كله سينمائيون يعلنون، في شكل أو آخر، انتماءهم الى هذه الموجة... ولكن، غالباً، في خلط تام بين الموجة، كتيار سينمائي شكلي وتقني، وبين المجلة التي كانت وراء ذلك كله: مجلة"كراسات السينما"... ذلك ان القسم الأكبر من السينمائيين الذين حققوا أول أفلامهم خلال النصف الثاني من سنوات الخمسين، كانوا إما نقاداً يكتبون في هذه المجلة، وإما قراءً لها متحمسين، وإما من حواريي الناقد الكبير أندريه بازان، الذي كانت كتاباته، منذ أواسط الأربعينات، تحض على ابداع سينما جديدة، بأساليب جديدة وأفكار جديدة. الجزائر منطلقاً في هذا المعنى وفي الكثير من التفاصيل، تكاد"الموجة الجديدة"الفرنسية تكون شبيهة بپ"الواقعية الجديدة"الايطالية... لكن الفروقات بين التيارين كبيرة، حتى وإن كان كل منهما ولد من رد فعل على حرب ما: الحرب العالمية الثانية بالنسبة الى التيار الايطالي، وحرب الجزائر بالنسبة الى التيار الفرنسي. ولنقل هنا ان في رأس الفروقات، ان سينما"الواقعية الجديدة"في ايطاليا ولدت من رحم العامل الاجتماعي وفي انطلاقة سياسية يسارية واضحة، ولأهداف ايديولوجية لا لبس فيها. أما"الموجة الجديدة"في فرنسا، فهي -على يساريتها - كانت أقرب الى نزعة فوضوية انسانية عامة، تجد جذورها في السينما الأميركية نفسها، ولا سيما في سينما هوارد هاوكس وألفريد هتشكوك. في ايطاليا، ثارت السينما على الفاشية وعلى تاريخ يزيف الواقع. أما في فرنسا فإنها ثارت على بلادة سينمائية مستشرية، كما على سلطة سياسية يمارسها آباء هزموا ولا يعرفون ان العالم يتغير ونبض الشارع يتغير. واذا كان السينمائيون الايطاليون انطلقوا وهم يعرفون ماذا يريدون... فإن زملاءهم الفرنسيين انطلقوا وهم يعرفون فقط ماذا يرفضون. أولئك جاءوا من السياسة والمجتمع والنضال الايديولوجي. وهؤلاء جاءوا من صراع الأجيال والإرث السينمائي العالمي نفسه. ومهما يكن من أمر، فإن حياة"الموجة الجديدة"كانت، وللأسباب نفسها، أطول كثيراً وأقصر كثيراً من حياة"الواقعية الجديدة". فإذا كانت هذه الأخيرة دامت عقداً من السنين، فإن"الموجة الجديدة"كتيار لم تدم أكثر من نصف دزينة من السنين... لكنها كأفراد دامت طويلاً وهي في بعض الحسابات لا تزال مستمرة الى اليوم. ذلك، خصوصاً، أن ثورتها الشكلانية، وكانت أهم ما فيها، عرفت كيف تعم سينمات العالم كله وتغري سينمائيين كثراً فيه، وقد ساعد تطور التقنيات وانتشار اللغة التلفزيونية على ذلك. نظرية وتطبيق والحقيقة اننا بقولنا هذا، نكون قد لامسنا جوهر الموجة الجديدة، كما تجلت، أواسط الخمسينات، في سينمائيين أتوا من مصدرين مختلفين انما غير متناحرين: الأول هو الفيلم التسجيلي القصير، والثاني الحركة النقدية، تجمع بين الاثنين حركة نوادي سينما كانت واسعة الانتشار وحصناً للتقدم الفكري في فرنسا، عند زمن الانعطاف بين الجمهورية الرابعة ومفاسدها، والجمهورية الخامسة جمهورية شارل ديغول ووعودها. وازدواجية المصدر هذه، هي ما جعل المؤرخين يتحدثون عن تضافر بين النظرية الحركة النقدية والتطبيق حركة السينما التسجيلية، لإيجاد سينما كان - على أية حال - منطلقها الأساس تمكّن كلود شابرول من تحقيق فيلم أول هو"سيرج الجميل"بكلفة ضئيلة جداً - حصّل المبلغ من ميراث زوجته -، وصلت الى أقل من 15 في المئة من كلفة أي فيلم فرنسي في ذلك الحين. وكان فيلماً صوِّر في أماكن حقيقية ومن دون نجم شباك، وفي لغة تقترب من حدود استخدام الكاميرا كقلم للكتابة بحسب تعبير شهير لألكسندر استروك، ما أتاح مجالاً للارتجال... وكأن الفيلم صار شريحة من الحياة نفسها. وقد حقق الفيلم حين عرض نجاحاً جماهيرياً، وردود فعل نقدية، كشفت لبعض المنتجين المغامرين امكانات واسعة، فراحوا يوظفون أموالاً زهيدة ? آملين، عن صواب، أن ينالوا في مقابلها دعماً حكومياً مماثلاً، ما جعل بعض الأفلام يحقق أرباحه حتى قبل أن ينتج! -، وتتالت الأفلام تباعاً، وبعضها متجاوزاً، فنياً وتقنياً، لپ"سيرج الجميل"من بعيد جداً:"العشاق"1959 للوي مال،"الضربات الپ400"1959 لفرانسوا تروفو،"على آخر رمق، 1960 لجان - لوك غودار،"لولا"1960 لجاك ديمي، وأيضاً"أبناء العم"1959 لشابرول نفسه... ويمكننا أن نضيف الى هذه الأسماء المؤسسة:"هيروشيما باجي"1959 لآلان رينيه، وپ"انا... أسود"لجان روش 1957 وأفلاماً لآنييس فاردا... وغيرها. لغة تجديدية طبعاً هذه الأفلام ليست كل أفلام"الموجة الجديدة"بل هي ارهاصاتها الأولى... ولعل من الأفضل القول انها الأفلام التي أسست ووضعت القواعد، لأن ما تلا ذلك، مع بداية سنوات الستين، واذ راحت ثورة الأجيال الشابة تتحرك في كل القطاعات في فرنسا، انتقلت الموجة الجديدة من شكلها التأسيسي الجماعي، الى أشكال أكثر فردية، ظلت دائماً على علاقة بالاندفاعات الأولى - وأحياناً عمقتها كما لدى آلان رينيه الى حين، وجان - لوك غودار دائماً -، ولكن كي تخلق توجهات جديدة، دائماً في مجال اختيار المواضيع الأقرب الى الحياة، ولكن في أغلب الأحيان في مجال ابداع لغة سينمائية تجديدية مثلاً في مجال التعبير عن العواطف الانسانية والعلاقات كما لدى تروفو، أو في مجال خلق رؤية جديدة لسينما التشويق المستمدة مباشرة من هتشكوك، كما لدى شابرول، أو في الامعان تعمقاً في النضال السياسي، كما لدى غودار. منذ البداية، اذاً، لم يخفِ أصحاب"الموجة الجديدة"تعلقهم بأنواع معينة من السينما الأميركية، وهو ما عبرت عنه بوضوح مجلة"كراسات السينما"التي اكتشفت وأعادت اكتشاف سينمات، كانت تعيش في الظل وعلى الهامش في هوليوود سينما دلمر دايفيز، جون هسنون، بعض أفلام مانكفتش... وصولاً الى فرانك كابرا أو ألقت أضواء تفسيرية جديدة على سينمات معروفة، انما غائمة المعنى في هوليوود، تحت وطأة الأبعاد التجارية، واستنكاف الأميركيين عن أي تحليل أو تفسير عميق. ولكن، ألا يضعنا هذا كله، أمام خلطة غريبة بعض الشيء؟ وطالما اننا نتحدث هنا عن ثورة في الشكل تستوحي أصلاً سينما أميركية كانت"مشبوهة"في ذلك الحين تحت ربقة هيمنة النقد اليساري، أَفَلَسنا كمن يحكم على التيار حكماً مسبقاً؟ على الاطلاق... فإذا كانت"الموجة الجديدة"خلطت ثورة الشكل بثورة المضمون، ووحدت في ثورة تجديدية الى الأمام"سينمائيين يساريين ويمينيين، فإنها عرفت في الوقت نفسه كيف تقيم تناسقاً، في أفلامها، بين أخلاقية تقدمية مستقاة من سيد الواقعية الجديدة الايطالية، روبرتو روسليني، وديناميكية ماكرة مستمدة من سيد تقنيات التشويق في السينما الهوليوودية ألفريد هتشكوك. والمدهش أن هذه الخلطة المزدوجة نجحت، وحتى باعتراف الناقد ميشال سيمان، أحد أقطاب النقد المضاد في مجلة"بوزتيف"التي كانت المنافس الرئيس لپ"كراسات السينما"، وبالتالي بكرت في فتح النار على"الموجة الجديدة"، اذ ان سيمان سيكتب في العام 1983:"لن يكون في وسعنا أبداً التقليل من أهمية ظاهرة الموجة الجديدة ... اذ لا مراء في أنه كان لها صدى كبير في أرجاء العالم كافة، حيث لم يكن له شبيه بعد الحرب، اذا استثنينا الواقعية الجديدة في ايطاليا. فالموجة الجديدة حررت عدداً من السينمائيين الشبان. واذ أقول هذا، لا بد من أن أشير أيضاً في الوقت نفسه الى ان هذه الموجة بدت كوكباً من الصعب الاحاطة به. لكن من المؤكد أنها كانت ظاهرة صراع أجيال، وسيطرة على السينما الفرنسية، أكثر منها حركة ايديولوجية أو جمالية". ومن الواضح هنا أن سيمان يعبر في هذا الموقف عن حيرة الحياة الثقافية الفرنسية ازاء هذا التيار. فإذا كان النقد اليساري مال في البداية الى اعتبارها ثورة بورجوازية صغيرة، لن يفوتنا أن نتذكر ان جورج سادول وسارتر اليساريين تحمسا لها. أما لويس اراغون فإنه أعلن دائماً تعصبه الحقيقي لسينما جان - لوك غودار. اذاً، وسط هذه المواقف المتشابكة، كانطلاقتها نفسها، عاشت"الموجة الجديدة"حياتها لتحلّق، منذ النصف الأول من سنوات الستين، بسينمائييها وقد صاروا أكثر نضجاً وفردية، عبر أفلام رائعة مثل"جول وجيم"لتروفو وپ"بيارو المجنون"وپ"الاحتقار"لغودار وپ"الحب المجنون"لجاك ريفيت وخصوصاً"العام الماضي في مارينباد"لآن رينيه... وهي أفلام يشكل كل منها على طريقته منطلقاً جديداً للموجة الجديدة وقد أضحت اسماً تقنياً، متخلصة من أية أبعاد ايديولوجية كان يمكن أن تنسب اليها، بطريقة أو بأخرى. الحلقة المقبلة: "السينما الحرة"في بريطانيا