تدين موجة «نوفيل فاغ» (الموجة الجديدة) السينمائية الفرنسية بولادتها -في ستينات القرن المنصرم- وبتغييرها وجهَ السينما ولغتَها، لنوع موسيقي تزامن بروزُه مع ولادتها، ففي فيلم للمخرج فرانسوا تروفو «جول إي جيم»، غنت جان مورو أغنية «لو توربيّون»، وألف جورج دوليرو وفريديرك ميتيران موسيقى فيلم «لوميبري» للمخرج غودار... والموجة السينمائية ونظيرها الموسيقي برزا في مرحلة تاريخية: فرنسا كلها تؤيد ديغول، في وقت رهصت الصناعة الفنية، وعلى رأسها السينما، بالرغبة في التحرر من قيود الأعراف والعادات قبل هبوب رياح أيار (مايو) 1968. وتزامن بروز جيل جديد من المخرجين السينمائيين مع بروز دفعة جديدة من الموسيقيين، ولم يفلح أيٌّ من موسيقيي مرحلة ما قبل «الموجة الجديدة» في الانتقال الى عالم موسيقى ما بعد «الموجة». وحده بول ميسراكي «المخضرم» غرّد خارج السرب، ولحّن موسيقى فيلم جان-لوك غودار «ألفافيل» وموسيقى «لي بون فام» للمخرج كلود شابرول. كان موسيقيون، من أمثال موريس جار وأنطوان دو هاميل وميشال لوغران، في الثلاثينات من العمر، شأنَ المخرجين السينمائيين الذين يشاركونهم أعمالهم، وهم أرسوا انفصالاً بين الموسيقى والفعل في المشهد، ولم تعد هذه (الموسيقى) ترافق الفعل فحسب، بل صارت تساهم في نفخ المعنى في المشهد ورسم معالمه ومعانيه. وخير مثال على هذا الضرب من الفصل، هو مشهد اجتياز نهر «دورانس» بجنوب شرق فرنسا في فيلم غودار «بييرو لو فو». يومها، خلَّف المشهد هذا في أنطوان دو هاميل أثراً بالغاً، فألف موضوعاً موسيقياً خاصاً به (المشهد)، واقترح اللحن على غودار من غير أن يعلمه بأي مشهد يرفقه. وانتخب غودار المشهد نفسه الذي أوحى لدوهاميل القطعة الموسيقية، وحذف المؤثرات الصوتية منه (المشهد) لترافق موسيقى دوهاميل الصورة. وقبل أعوام، عرض مشهد اجتياز النهر هذا في مؤتمر حضره دو هاميل. ومن دون الموسيقى يبدو المشهد هذا عادياً: شخصان يعبران نهراً، لكن موسيقى دو هاميل نفخت فيه معنى تراجيديا الفاجعة: شخصان ينحوان نحو الموت. وانحسرت موسيقى الجاز ال «إلينغتونية» (نسبة إلى الموسيقار إدوارد إلينغتون) أمام حركة مد جاز «بي بوب» (be-bop) التي قدمها أعلام مثل مايلز دايفيس في «السقالة». لكن دايفيس اعتزل إثر هذا الفيلم تأليفَ موسيقى افلام الشاشة الكبيرة. وعرَّفت أفلام بولانسكي المشاهدين على موسيقى البولندي كريستوف كوميدا، وهذا ألف موسيقى «الرحيل» لصاحبه سكوليموسكي. وترددُ صوت موسيقى الجاز الحديث البولندي في فيلم يكرم المخرج تروفو يبعث الدهشة في النفوس. لكن الحياة المديدة لم تكتب لهذا النوع من الجاز، فمع بروز تيار موسيقى «البوب»، أطاح شكلٌ موسيقي جديد من بنات الحداثة الجازَ عن عرشه. وحدْسُ ميشال لوغران كان في محله، فهو شعر أن الامور تتغير، وأن صفحة من صفحات الموسيقى تطوى، وراهن على رياح التغيير القادمة من الولاياتالمتحدة حاملةً معها لوناً موسيقياً جديداً. و«الموجة الجديدة» كانت بمثابة منصة وثب عليها موسيقيون فرنسيون محليون الى عالم الشهرة الدولية، فهي سلطت الضوء على موسيقيين من أمثال ميشال لوغران وموريس جار وجورج دوليرو الذين سلكوا درب الشهرة العالمية، إثر لمعان نجمهم في أفلام الستينات الفرنسية، ف «الموجة الجديدة» لقيت صدى كبيراً في الخارج (خارج فرنسا). وإثر وفاة الموسيقي دوليرو، كرّمه المخرج مارتن سكورسيزي، وأعاد استعمال موسيقى مشهد كاميل في «لوميبري» في فيلمه «كازينو». *خبير في الموسيقى، عن «ليبيراسيون» الفرنسية، 31/12/2011، إعداد منال نحاس.