تروي كتب الأدب أن أحد المقربين من بعض الولاة دخل عليه يوماً فقال له: يعلم الوالي أصلحه الله أن لديه بقرة سمينة وأن عندي ثوراً أقرن؟ فقال الوالي نعم. فقال الرجل فإن بقرة الوالي قد نطحت ثوري فقتلته! فقال الوالي: هذا شأن بين الحيوانات ولا دخل لنا فيه. فقال الرجل مهلاً أصلح الله الأمير فإن العجلة دعتني إلى رواية القصة معكوسة، فإن ثوري الأقرن هو الذي نطح بقرة الوالي فقتلها. فقال الوالي وقد اعتدل في جلسته: ويحك! أعد علي القصة من جديد. لعل في هذا القصة الطريفة مدخلاً مناسباً لفهم كثير من المعضلات القانونية الدولية اليوم. وحيث إن كثيراً من الأمور السياسية الدولية قد يسهل فهمه مقلوباً، فلنقلب الأمر - كما فعل صاحب القصة الأولى - ولنتخيل على سبيل المثال أن الاتهامات التي تَنسُبُ إلى رئيس الولاياتالمتحدة تهديده قصف قناة"الجزيرة"الفضائية كانت موجهة إلى سورية وليس إلى الولاياتالمتحدة! فكيف نتوقع أن يكون موقف مجلس الأمن؟ ترى هل سيتردد المجلس في شجب المحاولة التي لم تتم ولم يتبين بعد من وراءها؟ وهل سيكتفي المجلس بإرسال بعثة لتقصي الحقائق على وجه السرعة؟ ثم هل سيظل الأمين العام للأمم المتحدة متحلياً بحكمة الصمت كما فعل في الأولى أم أنه قد يرى النطق بالحق أوجب في هذه؟ أسئلة قد لا تحوجنا إلى أن نلتمس إجاباتها عند خبراء القانون الدولي في دهاليز المنظمة الدولية، ولكنها قد تثير عند كل من يقرأ هذا المقال تساؤلاتٍ حائرةً عن صدقية مجلس الأمن اليوم. تساؤلاتٌ تبدأ في بحث حقيقة حياد مجلس الأمن وتنتهي بمقارنة وضع المنظمة الدولية الحالي بسالفتها عصبة الأمم في آخر أيامها. فواقع الحال ينبئ اليوم بأن عجز مجلس الأمن عن كبح جماح الولاياتالمتحدة وطموحاتها وتهديداتها ضد عدد من دول العالم بدءاً بحربها ضد أفغانستان ثم الاعتداء الكاسح على العراق والتهديدات الحالية ضد سورية، سوف يدفع بالوضع الأمني الدولي إلى الهاوية كما حدث في نهاية عهد عصبة الامم. وإذا كانت عصبة الأمم تتحمل مسؤوليةً جسيمةً في عدم مقدرتها على درء الظروف التي قادت إلى قيام الحرب العالمية الثانية ومن ثم إنهاء عهد العصبة ذاتها، فإن مسؤولية مجلس الأمن - وهو الجهة المنوط بها حفظ الأمن والسلم الدوليين - تتعدى مسؤولية العصبة بكثير. فمسؤولية المجلس اليوم لا تتوقف عند مجرد عدم قدرته على وقف العدوان الأميركي المتكرر فحسب، بل إنها تتعدى ذلك إلى إنه سمح لنفسه بأن يكون أداة في يد الإدارة الأميركية الحالية تسيره حيث تشاء. وبهذا صارت التجاوزات الأميركية للقوانين والأعراف الدولية ليس فقط تحت سمع وبصر مجلس الأمن، بل باسم الشرعية الدولية أيضاً. ففي آذار مارس 2003، فشلت الولاياتالمتحدة في استصدار قرار من مجلس الأمن يجيز لها شن حرب على العراق، لكنها استطاعت بعد غزوها العراق والمخالف للمادة 42 من ميثاق الأممالمتحدة، استطاعت أن تستصدر قرار مجلس الأمن الرقم 1483 2003 والقاضي بإرسال ممثلية للأمم المتحدة وقوات دولية إلى العراق ليكون الاحتلال الأميركي - البريطاني للعراق شرعياً من أعلى هيئة دولية في القانون الدولي. يجيء هذا التمرد الأميركي"الشرعي"على القانون الدولي ضمن سلسلة من الهيمنة الأميركية على المنظمة الدولية لم يكن مبدأها أحداث أيلول سبتمبر 2001. فالسيطرة الأميركية على الأممالمتحدة بدت واضحة منذ نهاية حقبة الحرب الباردة وأُفولِ الخصم العنيد للسياسات الأميركية في مجلس الأمن قبل أقل من عقدين من الزمان. لكن أحداث أيلول 2001 ساهمت بشكل مباشر في إعانة الولاياتالمتحدة على تسخير المنظمة الدولية لخدمتها في تحقيق أغراضها السياسية بكل الوسائل وبأسرع الطرق الممكنة. فقرارا مجلس الأمن 13682001 و1373 2001 اللذان صدرا بعيد أحداث أيلول 2001 منحا الولاياتالمتحدة شيكاً مفتوحاً للحرب ضد سمي بالإرهاب من غير تحديد أهله أو مكانه أو زمانه. وقد استفادت الولاياتالمتحدة أيما استفادة من هذه الفرصة ليس في حشد بقية دول العالم خلفها في هذه الحرب الغامضة تحت ما عرف بباب"من ليس معنا فهو ضدنا"فحسب، بل في استصدار قرارات أخرى من مجلس الأمن أيضاً للحصول على صلاحيات غير محدودة في مواصلة بسط نفوذها وسيطرتها على دول العالم باسم الشرعية الدولية. وبهذا استطاعت الولاياتالمتحدة مرةً أخرى أن تستغل ورقة مجلس الأمن لتحقيق مصالحها الدولية بشكل مباشر في كل ما تريده. فنرى على سبيل المثال أن دولاً كأفغانستان أو العراق أو سورية أو السودان نالت حظاً وافراً من اهتمامات المجلس ليس لكونها دولاً تهدد الأمن والسلم الدوليين بقدر كون هذه الدول ماردةً على قبضة الولاياتالمتحدة وتحقيقاً للرغبة الأميركية في معاقبة الفارين من قبضتها باسم"الشرعية الدولية". ولعل نظرةً سريعةً الى قرارات مجلس الأمن التي صدرت منذ نهاية الحرب الباردة تبين لنا خطر الهيمنة الأميركية في داخل أروقة هذا المجلس. ففي أفغانستان وحدها نجد أن مجلس الأمن استطاع أن يصدر أكثر من عشرين قرار قبل أحداث أيلول 2001 وبعدها، منها قرارات المجلس ذوات الأرقام: 1267 1999 و1333 2000 و1363 2001 و1368 2001 و 1373 2001 و1378 2001 و1383 2001 و1386 2001 و1388 2002 و1390 2002 و1401 2002 و1413 2002 و1419 2002 و1414 2002 و1444 2002 و1453 2002 و14712003 و 1510 2004 و1536 2004 و1563 2004 و1989 2005 و1623 2005. وأما عن العراق فإن الولاياتالمتحدة قد وجدت فرصةً مبكرةً لتهيئة المجلس ضده بدأت منذ عام 1990 بقرار مجلس الأمن الرقم 660 1990 والذي يطالب العراق بالانسحاب من الكويت، ثم بالقرار الرقم 678 1990 الذي أذن للدول الأعضاء استخدام جميع الوسائل اللازمة لإخراج العراق من الكويت ومن ثم بقية قرارات مجلس الأمن ذات الصلة، ولاسيما قراراته: 6611990 و686 1991 و687 1991 و688 1991 و715 1991 و986 1995 و1248 1999 و1360 2001 و1382 2002 و 1409 2002 و1441 2002 و1443 2002 و1447 2002 و1454 2002 و1472 2003 و1476 2003 و1483 2003 و1490 2003 و1500 2003 و1511 2003 و1517 2003 و1518 2003 و1538 2004 و1546 2004 و1557 2004 و1619 2005 و1737 2005. بل إن أوضاع سورية ولبنان التي جاءت متأخرة نسبياً في أولويات مجلس الأمن نرى أنها قد حظيت بعدد لا بأس به من قرارات المجلس خلال الفترة الأخيرة شملت القرارات: 1461 2003 و1559 2004 و1583 2005 و1595 2005 و1624 2005 و1636 2005. أما السودان فقد حظي هو الآخر بعدد من قرارات مجلس الأمن بعدما اكتشف المجلس عبر وسيطه الأميركي أن الأمور في دارفور آلت إلى ما لا يجوز السكوت عليه فصدرت ضده من قرارات مجلس الأمن: 15472004 و1556 2004 و1564 2004 و1574 2004 و1585 2005 و1988 2005 و1990 2005 و1991 2005 و1627 2005. يجيء هذا الاهتمام من جانب مجلس الأمن بتطبيق القوانين الدولية على هذه الدول خصوصاً ليس جزاءً لهذه الدول على تجاوزاتها القانونية الدولية، وانما لأن هذه الدول كانت بعيدةً عن اللحاق بالركب الأميركي الذي يقيها شر غضبة المجلس. ولا يخفى على مجلس الأمن أن تجاوزات إسرائيل في ممارساتها ضد الشعب الفلسطيني أو وحشية روسيا في صد المقاومة الشيشانية أو بشاعة استخدام القوة من جانب الولاياتالمتحدة ذاتها في التعامل مع المقاومة العراقية، لا تقل سوءاً عن تصرفات الدول التي يشقى المجلس بشجب أعمالها في كل آن، ولكنها سياسات الدول التي ترعى هذا المجلس. واذا كان مجلس الأمن يرى أن من واجبه القانوني الدولي أن يشجب بشدة قرار هدم تماثيل بوذا من قبل حكومة طالبان لكونه أمر يتعارض مع اتفاقية لاهاي 1954 القاضية بالحفاظ على الممتلكات الثقافية والآثار، فإن المجلس قد لا يجرؤ على شجب ترك المتاحف العراقية عرضة للسلب والنهب من جانب القوات الأميركية بعد دخولها إلى العراق رغم أنه أمر محظور بموجب المعاهدة الدولية ذاتها. ويرى مجلس الأمن أيضاً أن أحداث دارفور أمر يقلق الأمن والأمان في أفريقيا، وهو أيضاً لا يتأخر في تأدية مهمته بكل أمانة حين يطلب منه اتخاذ قرار حازم وعاجل بشأن"تفجيرات إرهابية"في مدينة لندن، ولكنه قد يرى أن الأمر أقل خطراً في ما يتعلق باستخدام أسلحة محرمة دولياً في فلوجة العراق وإن ذهب ضحيتها آلاف الأبرياء. وأما الأمين العام للأمم المتحدة فإنه يستطيع بكل شجاعة أن يشجب خبر محاولة اغتيال مذيعة لبنانية لكونه أمراً وحشياً بربرياً لا يتفق والقوانين والأعراف الدولية، لكنه قد يرى أن من الحكمة أن يتحلى بالصمت إذا ما رأى الطائرات الإسرائيلية تقصف شيخاً مقعداً على كرسيه المتحرك قبل سنتين، أو حين يرى اعتداءات إسرائيل المتكررة على الفلسطينيين العزل في كل يوم. ومن هذا الباب فإن معالي الأمين قد يرى بحكمته الثاقبة أن لا داعي ل"إحياء فتنة"اتهام العراق بحيازة أسلحة الدمار الشامل التي أثيرت في مجلس أمن منظمته وإن تبين كذبها، فهو وإن كان يعلم أن من واجبه كأمين عام للأمم المتحدة أن يطلع العالم على ما هو حق، إلا إن في ترك هذه"الفتنة"راحة. الأمر المثير للسخرية هو أن سفير الولاياتالمتحدة الجديد لدى الأممالمتحدة السيد بولتون غير راض عن"تعاون المنظمة مع حكومة بلاده"، وقد صرح بأنه ينوي أن يستهل مهمته كسفير لبلاده بتطويع المنظمة الدولية للتعاون الكامل مع بلاده. ولكن الأمر المثير للقلق، هو أن العالم الذي لم تضمد جراحاته بعد من ويلات الحرب العالية الثانية، يكاد - بسبب هيمنة وغطرسة الولاياتالمتحدة - وجمود وسلبية مجلس الأمن، يكاد يشرف اليوم على حلقة أخرى ما هي ببعيدة مما تعرض له العالم بسبب تحديات ألمانيا له آنذاك. ولعل من نافلة القول، أنه لا بد للمجتمع الدولي من وقفة صادقة مع نفسه يحاسب فيها مجلس الأمن ما دامت هناك فرصة للمحاسبة قبل أن ينقض ثور الوالي على بقية قطيع البقر كما فعل ثور الوالي الألماني قبل سبعين عاماً! * أستاذ القانون الدولي في جامعة الملك فيصل.