جاءت ولادة القرار الحاسم الرقم 1441 في مجلس الأمن خريف العام 2002 بعد صراع محتدم داخل الادارة الاميركية، وشد حبال بين الولاياتالمتحدةوبريطانياوروسيا وفرنسا والصين، ورهان فاشل للقيادة العراقية على روسيا و"اصرارها" على تعطيل صدور القرار. فبغداد أدركت أنه أخطر وأهم قرار يصدر عن المجلس منذ القرار 678 1990 الذي اعطى الدول الأعضاء صلاحية استخدام "كل الوسائل الضرورية" لاجبار العراق على الخروج من الكويت وتلقينه درساً لغزوه أراضيها. وأدركت بغداد ايضاً ان القرار 1441 صنع من القرار 687 1991 تاريخاً، إذ أن قرار العام 2002 وضع شروطاً جديدة وفتح صفحة غير تلك التي سجلها قرار العام 1991 من اجل اعادة تأهيل العراق بعد أن ينفذ كل مطالب لجنة تجريده من اسلحة الدمار الشامل. فإذا كان عنوان القرار 687 "تدجين" العراق، فإن عنوان القرار 1441 هو اعلان حرب معطوف على اذعان وإخضاع في ما سُمّي رسمياً قرار "الفرصة الأخيرة". ولئلا يُسمَح للقيادة العراقية بأن تتصرف إزاء هذا القرار كما فعلت إزاء قرارات سابقة، لجهة رفض "التعامل" معها ثم الموافقة عليها مُجبَرة لاحقاً، نص القرار 1441 على برنامج زمني لقبول العراق به ولعودة المفتشين اليه، ولتقرير يقدم إلى مجلس الأمن. وتشابكت البرامج الزمنية في القرار مع البرامج الزمنية في تحضيرات الحرب التي تبقى مُتوقَّعة مطلع العام 2003. رفضت بغداد التعامل مع القرار 986 ثم وافقت على برنامج "النفط للغذاء" بموجبه. رفضت التعامل مع القرار 1284 الذي تبناه مجلس الأمن في كانون الأول ديسمبر 1999، ثم عادت عام 2002 لتوافق على تنفيذه عملياً، وكأمر واقع، عبر الموافقة على "التعاطي" مع الرئيس التنفيذي للجنة الرصد والتحقق والتفتيش انموفيك هانس بليكس، ثم منسق ملف الأسرى والمفقودين والممتلكات الكويتية يوري فورونتسوف. عام 2002 يمكن اعتباره عام استدراك القيادة العراقية، ولكن، ربما، بعد فوات الأوان. فالمفتشون عادوا ليس كما ارادت بغداد عندما حاولت استباق صدور القرار 1441، وإنما عادوا بصلاحيات ألغت التفاهمات السابقة بما فيها الترتيبات الخاصة بالقصور الرئاسية، ومنحوا صلاحيات تعتبر سابقة، مثل استجواب العلماء والمسؤولين العراقيين خارج العراق. ولأن القيادة العراقية ادركت جدية ادارة جورج دبليو بوش وعزمها على اجتياح العراق، إذا رفضت الاذعان والانصياع، تبنت استراتيجية الامتثال. لكن الامتثال من وجهة النظر الأميركية لم يعد واضح المعالم، لا سيما أن الادارة منقسمة بين دعاة حرب في وزارة الدفاع ومكتب نائب الرئيس وبين دعاة استنفاد الديبلوماسية بتحالف دولي مع تأكيد العزم على استخدام القوة، كما تريد وزارة الخارجية. القرار 1441 يمكن اعتباره "انتصاراً" لمنطق وزارة الخارجية وكولن باول لأنه وضع ملف العراق في الأممالمتحدة، وجعل الديبلوماسية تستبق أي اجراء عسكري وأعاد المفتشين الى العراق، ما قد يجعلهم العصا في عجلة الحرب. وهذا ما عارضه وزير الدفاع دونالد رامسفيلد ونائب الرئيس ديك تشيني اذ ارادا قطع الطريق على عودة المفتشين لئلا تعرقل مسيرة الحرب. لكن ذلك ليس قرار "تكبيل أيدي" واشنطن، كما قال باول. إنه قرار الخيارات العديدة. القرار الحقيقي النهائي، عائد إلى بوش الذي قرر تبني منطق باول في ملف العراق، بعدما تبنى منطق رامسفيلد وتشيني في موضوع اسرائيل والفلسطينيين. بوش لم يتحدث صراحة عن اطاحة النظام في بغداد عندما وضع تصوره الخاص بالملف العراقي أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة. وليس في قرارات مجلس الأمن أي اشارة او مطالبة بتغيير النظام. بل ان موقف بريطانيا، الحليف الأول للولايات المتحدة في موضوع العراق، اختلف عن الموقف الأميركي في شأن اطاحة النظام. أقله رسمياً، وعبر السنوات الماضية، حتى الخريف الماضي. الأمين العام للأمم المتحدة، كوفي أنان، أوضح ان موقف المنظمة الدولية يستند إلى تنفيذ العراق القرارات، وليس إطاحة النظام. حتى بوش، يتبين عند القراءة المعمقة لما قاله أمام الجمعية العامة في ايلول سبتمبر الماضي، انه وضع الشروط التي تسمح ببقاء القيادة العراقية قائلاً: "اذا كان النظام العراقي يرغب في السلام". لكنه وضع شروطاً افترض ان تنفيذ القيادة العراقية لها يعني زوالها. الواضح في قرار بوش انه أطاح سياسة "احتواء" العراق التي تبنتها ادارة بيل كلينتون، وتبنى استراتيجية الحسم. من هذا المنطلق، لملف العراق جذور في ما يُعرَف الآن ب"عقيدة بوش" المؤمنة بالقيادة الاميركية للعالم على أساس "الخير" في مقابل "الشر"، والمتبنية لضربات "وقائية". وفي البيت الأبيض اليوم رئيس يبسّط الأمور والافعال والناس بتصنيفها بين "شر" و"خير" بمنطق ديني لم يحدث ان سيطر على عاطفة أي رئيس أميركي وفكره، انطلاقاً من قناعاته الدينية المتأصلة. ومما يجعل الادارة الاميركية الحاكمة مخيفة بهذا المقدار ان في صفوفها متطرفين، فكراً وذهناً وقلباً، ينطلقون من أحداث 11 ايلول 2001 كذريعة لفرض هيمنة اميركية مبنية على مزيج من الاستقواء والخوف ورفض اذلال اميركا لأنها "الأعظم". فحرب الارهاب على اميركا غيّرت العالم وقوّت المتطرفين. هؤلاء وجدوا في الرئيس صدام حسين النموذج الأفضل لاطلاق عقيدة جديدة، باعتباره الرجل الذي غزا الكويت، واستخدم الأسلحة الكيماوية ضد شعبه واستبدّ به، ورفض تنفيذ قرارات مجلس الأمن بحذافيرها، وتحايل على تجريد العراق من اسلحة الدمار الشامل. انه "الشر"، وليس "الشرير" فقط، كما يعتقد قطاع واسع داخل الإدارة الاميركية وفي صفوف صناع القرارات والرأي العام. لكن مصير صدام ليس وحده المحرك في حسابات الادارة الاميركية. فصقورها ينطلقون من حسابات استراتيجية ابرزها اسرائيل والنفط وقيام انظمة موالية. وفي اعتقادهم، ان نسف التطرف الأصولي العربي والاسلامي يتحقق عبر اعادة رسم خريطة المنطقة. والمنطقة ستهتز عام 2003 إذا اندلعت الحرب في العراق، والمرجح اندلاعها بين منتصف كانون الثاني يناير ومنتصف شباط فبراير، إلا إذا حدثت معجزة تنحّي القيادة العراقية، أو جاء امتثال العراق بتلك الدرجة من الكمال إلى درجة احتجاج الرأي العام الأميركي على التسرع في الحرب. قانونياً، وبموجب القرار 1441، توجد الصلاحية الشرعية لاستخدام القوة إذا عاد رئيس لجنة المفتشين هانس بليكس، والمدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية الدكتور محمد البرادعي، بتقرير الى مجلس الأمن يؤكد عدم امتثال العراق. عملياً، يوجد في القرار 1441 ما يسمح للولايات المتحدة بأن تعتبره شرعية دولية لشنها الحرب على العراق، اذا ارادت تفسير ذلك بمشيئتها. لكن الإدارة الأميركية ستحرص على بناء ائتلاف دولي للحرب، يتضمن اطرافاً عربية، لأسباب سياسية ومالية، إذ أنها لا تريد ان تنفق من جيبها فقط على هذه الحرب. لذلك، فإن لجزء من العودة الى مجلس الأمن بعداً مالياً، لا سيما ان الدول العربية أوضحت انها مُلزَمة بتنفيذ القرارات الصادرة بموجب الفصل السابع من ميثاق الأممالمتحدة. القرار 1441 صدر بالاجماع عندما جاءت سورية في آخر لحظة بقرار الموافقة عليه، ولهذا دلالات سياسية بالغة الأهمية. سورية، شأنها شأن روسيا مثلاً، ترى ان القرار 1441 وضع العصا في عجلة الحرب، لأنه وضع مصير الحرب في أيدي بليكس والبرادعي وتقريرهما الى مجلس الأمن. رهانهما على امتثال القيادة العراقية. لكن خوفهما ان تكون القرارات الأميركية حُسِمَت لمصلحة الحرب، مهما حدث من اذعان وامتثال وانصياع. يبقى أن الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن وضعت كل حساباتها، سلماً أم حرباً في العراق. فهذه دول لها مصالحها الاستراتيجية والاقتصادية في هذه المنطقة الحساسة. والجديد قد يكون في اقتسام "كعكة" العراق وبيئته، بغير الاعتبارات التقليدية في زمن أميركا ما بعد 11 ايلول.