نقطة العبور من سنة الى أخرى تدفعنا الى التفكير في قضايا الوقت والتوقيت. ويبدو لي أن تطابق ثلاثة مواعيد أواخر الشهر الجاري ينذر بالكثير. ففي 27 منه يقدم المفتشون الدوليون تقريرهم الى مجلس الأمن. وفي اليوم التالي تجري الانتخابات الاسرائيلية. خلال ذلك تستمر الولاياتالمتحدة في تحشيد قواتها في منطقة الخليج، وتقول التقديرات ان هذه المهمة ستكتمل نهاية الشهر. انه توافق ثلاثي حاسم كما يبدو. لنضع جانبا الآن قضية الانتخابات الاسرائيلية، على ان نعود اليها لاحقاً، لنلاحظ ان التوافق بين موعد تقرير المفتشين الدوليين واكتمال الاستعداد الأميركي للحرب ليس من قبيل الصدفة. فقد أدرك المحللون العسكريون الأميركيون منذ أواسط الثمانينات، اثناء رصدهم لمجريات الحرب العراقية - الايرانية، الصعوبات الهائلة التي تواجه حملة عسكرية في عمق الصيف. البريطانيون أدركوا ذلك قبل 85 عاماً، لكن لم يستشرهم أحد!. وفي آب أغسطس 1990 بعدما غزا صدام حسين الكويت حددت ادارة الرئيس جورج بوش الأب منتصف كانون الثاني يناير من السنة التالية موعداً لإطلاق الهجوم المضاد، وتقصدت صياغة خطواتها السياسية قبل ذلك - قرارات الأممالمتحدة، قرارات الكونغرس الخ - في شكل يقود في النهاية الى المواجهة المسلحة. وها هو الوضع نفسه يتكرر الآن، مع فارق أن الصقور في ادارة جورج بوش الابن اضطروا الى كبح جماحهم طيلة سنة كاملة. فقد حضوا الرئيس بعد هجمات 11 / 9 على توجيه ضربة انتقامية الى العراق خلال شتاء السنة التالية لنقل، في كانون الثاني يناير 2002 وذلك اضافة الى الهجوم على أفغانستان. لكن وزير الخارجية كولن باول تمكن لحسن الحظ خلال الخريف السابق من اقناع الرئيس بأن من التهور مهاجمة العراق متزامنا مع أفغانستان، وان من الضروري تأجيل التفكير بالهجوم على العراق الى وقت لاحق. وها نحن الآن في هذا الوقت اللاحق. وفي 2002 مثلما في 1990 نجد أن حدثاً يقع مبكراً من آب أغسطس يحدد شكل وطبيعة الحملة السياسية والعسكرية اللاحقة. فحسب رواية بوب وودوارد التي ليس من الضروري اعتبارها الحقيقة الكاملة عن هذه الادارة، لكن يمكن الأخذ بصحتها في ما يخص هذه القضية بالذات أن كولن باول اجتمع بالرئيس مبكراً من آب أغسطس وأقنعه أن على الولاياتالمتحدة أن تبدو جادة، ولو ظاهرياً، في التحرك من خلال الأممالمتحدة، وليس الاقدام أحادياً على الهجوم كما أراد نائب الرئيس ريتشارد تشيني ووزير الدفاع دونالد رامسفيلد واصدقاؤهما. واذا كنت مقتنعة أن كولن باول أراد لمحاولة التحرك من خلال الأممالمتحدة أن تكون أكثر من "ظاهرية"، فإن ما حصل عليه هو ذلك "المظهر"، ولا يعرف أحد حتى الآن، ربما حتى الرئيس ومستشاروه الأقرب، اذا كان هناك تحت هذا "المظهر" التزام أميركي حقيقي بالتحرك من خلال المجتمع الدولي. ومهما كان من هذا الأمر فقد استعملت الادارة الفترة منذ آب أغسطس الماضي الى الآن للتهيئة السياسية والديبلوماسية، داخل أميركا وخارجها، لمواجهة مع العراق موعدها أواخر الشهر الجاري. وقد أحرزت نجاحاً ملحوظاً في ذلك، ولو ليس على المستوى الذي احرزته ادارة بوش الأب في 1991 - 1992 التي توفر لها استعمال القانون الدولي لتبرير الحرب. خلال ذلك، وحتى مع جهلنا بمدى جدية التزام الرئيس العمل من خلال الأممالمتحدة، فنحن نعلم أن الادارة واصلت خلال هذه الأشهر تحشيد القوات اللازمة لغزو العراق ونشرها في منطقة الخليج. وعلينا ان نتذكر أن هذه عملية هائلة الكلفة، حتى قبل اطلاق رصاصة واحدة. فهذه ليست قوات من الجنود الريفيين مسلحين ببنادق الكلاشنيكوف بمقدورهم العيش على ما يجدونه في الغابات، بل جنود وبحارة وطيارون أميركيون لا يتحركون الا مع معداتهم المتقدمة وشبكات للدعم تقدم لهم حتى على بعد ألوف الأميال من أميركا مستوى معيشياً - الطعام، الخدمات الصحية، الترفيه - يفوق ما هو متاح لهم لو كانوا خارج القوات المسلحة. ومن الفروق البارزة هذه المرة، مقارنة ب1990 - 1991، أن الولاياتالمتحدة ستتحمل كلفة هذا التحشيد والانتشار. اذ لن نجد هذه المرة مساهمة مالية من الحلفاء، كما حصل مع "عاصفة الصحراء" التي ساهمت في كلفتها دول الخليج واليابان وغيرها، بل سيضطر دافع الضرائب الأميركي الى تحمل العبء، الذي بدأ يضغط بالفعل على الاقتصاد الوطني. كما أن الثمن الكامل يتجاوز كلفة العلميات العسكرية نفسها ليغطي، على سبيل المثال، تلك "الرشاوى" المطلوبة لاغراء تركيا وغيرها من دول الشرق الأوسط بالتعاون مع المخططات الأميركية، اضافة الى الثمن السياسي الذي لا بد من دفعه على أكثر من جبهة. من أهم الأمثلة على النقطة الأخيرة أن التركيز القوي على العراق غطى على الحملة العالمية على الارهاب وأيضاً على المساعي لاعادة اعمار أفغانستان. ونرى الآن أيضاً أن هوس الادارة بقضية العراق أدى الى اغفالها الأحمق للتطورات في كوريا الشمالية. أنني على ثقة بأن الكل في الادارة، الحمائم والصقور على حد سواء، مدرك لحجم هذه المترتبات المالية والسياسية والأمنية. واذا اخذنا البعد المالي فلا شك أن من شأن استثمار بلايين الدولارات في أي مغامرة أن يخلق تبريرا ذاتيا لها ويطلق زخما لمواصلتها حتى النهاية. ولنا تخيل اصرار الصقور على المضي قدماً بالقول: "هل يمكننا بعد كل هذا الانفاق على التحشيد العسكري والتهيئة السياسية أن نستدعي السفن والطائرات للعودة الى الوطن؟ كلا بالطبع". كما تصبح الكلفة المالية للتحشيد عنصرا لمنع أي تأخير مهم للهجوم، بسبب الأموال الاضافية التي تتطلبها ادامة تلك القوات في حال التأهب. وكانت هناك مرحلة مبكرة حاول فيها بعض العسكريين استكشاف بدائل تعطي الادارة مرونة أكثر في ما يخص التوقيت. من بين ذلك الاقتصار على انتشار أولي صغير نسبيا في الخليج، تلتحق به القوات الرئيسية بسرعة لدى اتخاذ قرار الحرب - أي أن كلفة ادامة التحشيد الأولي لن تكون عنصراً ضاغطاً عندما يأتي الأمر الى التوقيت. لكن التقارير الأخيرة عن التحركات العسكرية الكبرى نحو الخليج تشير الى أن هذا البديل لم يعد مطروحا. هكذا يبدو الآن أن جناح الصقور في البنتاغون الجدير بالملاحظة انه لا يشمل القادة العسكريين قد نجح في وضع الرئيس في موقف يجبره على اتخاذ قرار حاسم خلال فترة قصيرة. وأكاد أسمع رامسفيلد وهو يخاطب بوش: "يجب استعمال هذه القوة في شكل ساحق وفي وقت قريب، والا فإننا لن نستطيع تحمل التكاليف. وسيكون علينا لاحتواء العبء المالي خفض عدد القوات خلال الصيف المقبل. وربما أمكن اعادة الكثيرين من الجنود في وحدات الاحتياط الى الوطن، بالرغم من انهم جاهزون لشن الحرب. لكن اعادة نشرهم في الخليج بعد شهور تتطلب ثمناً سياسياً ومالياً هائلاً. سيدي الرئيس: قواتنا في الخليج متأهبة الآن، وعلينا اما اطلاقها أو ارجاعها". *** هناك عنصر مهم آخر في قضية التوقيت، وهو الدورة الانتخابية الأميركية. ولا يمكن ان يكون كارل روف، المستشار السياسي لبوش، غافلاً عن أن الحرب على العراق في كانون الثاني يناير 2003 ستأتي في التوقيت الانتخابي نفسه الذي واجهه بوش الأب في 1991، أي بعد عشرة أسابيع على الانتخابات النصفية. وما حصل وقتها أن الانتصار الحاسم والسريع في الحرب السابقة لم يضمن لبوش الأب الانتصار على بيل كلينتون في انتخابات الرئاسة في تشرين الثاني نوفمبر 1992 . والأرجح أن الحسم العسكري في الحرب المزمعة سيكون بالسرعة نفسها، بل انه قد يكون أسرع من حملة الستة أسابيع التي أدت الى الانتصار في 1991 . لكن "مجد" انتصار بوش الأب في العراق 1991 - 1992 لم يستمر أمدا يكفي لفوزه في الانتخاب الرئاسي بعد 22 شهرا على ذلك، فقد تحول اهتمام الناخبين الى قضايا أخرى، خصوصا الوضع الاقتصادي الذي استمر في التردي، بالرغم من أن الحرب نفسها لم تكلف أميركا ثمناً مالياً يستحق الذكر بل هناك من يقول انها حققت شيئا من الربح! أما في 2003 - 2004 فالأرجح ان أميركا، حتى مع انتصار عسكري سريع، ستواجه تداعيات سياسية واقتصادية أقسى بكثير من 1991 . مثلاً: هل سيكون وضع الأميركيين في العراق بعد 20 شهراً من الانتصار العسكري أفضل من وضع اسرائيل بعد 20 شهراً على انتصارها العسكري الساحق في لبنان في 1982؟ ليس ما يدعو الى افتراض ذلك. ان من الصعب عادة ترجمة الانتصار العسكري الى انتصار سياسي، أو أن "مجد" الانتصار العسكري رصيد يتناقص بسرعة مع مرور الزمن. اذن نرجح، من منظور كارل روف، أن التوقيت الأفضل للانجاز العسكري سيكون قبل فترة قصيرة من انتخابات 2 تشرين الثاني نوفمبر 2004 . لكن الواضح أن دونالد رامسفيلد لن يريد هذا التأجيل، وربما يفكر ان في امكانه تقديم انتصار الى الرئيس أوائل 2003، على أن يخطط لانتصار آخر خريف 2004 . *** لم أذكر شيئاً عن القضيتين الأخريين اللتين لا تقلان خطراً، أي اسرائيل وكوريا الشمالية حيث نجد ازدواجية "مزدوجة" في المعيار الأميركي!. كما لم أشر الى المقالة المهمة في مجلة "فورين أفيرز"، التي قدم فيها ريتشارد بيتس حجته المقنعة في أن نتيجة التهديد ب "تغيير نظام" أو زعيم يملك أسلحة غير تقليدية قد تكون بالضبط اطلاق تلك الأسلحة وليس وقف استعمالها. لنأمل أن كل أعضاء ادارة بوش قرأوا المقالة بعناية. لكن ما اريد التركيز عليه مع تسارع الزخم نحو الحرب أن علينا كلنا، داخل الولاياتالمتحدة وخارجها، مضاعفة الجهود لايجاد السبل لوقف الحرب. ان ما يحاوله تشيني ورامسفيلد، على الصعيدين النفسي والمالي، هو اقناع العالم بأن ليس من خيار سوى الحرب، وفي أقرب وقت ممكن، ما يدفع الكل الى اعتبار أن أفضل ما يمكن تحقيقه هو التخفيف من تداعيات الحرب وليس تجنب وقوعها. وقد وصل الكثيرون من الناشطين والمنظمات والحكومات الى هذه القناعة الخطرة. لكن هذا ليس صحيحاً. هناك الكثير من الخيارات التي لم يستنفدها بوش. وأمامنا الفرصة، الى أن تنشب الحرب فعلا، للعمل على تجنبها - ولو أن ذلك قد يتطلب حلاّ يحفظ ماء وجه الرئيس بوش. وعلينا ان لا ننسى أن لا مسؤولية وحماقة بوش وأعضاء ادارته هي التي أوصلتنا الى حافة هذه المواجهة المدمرة. ولذا فإن مسؤولية عدم التراجع عن الهاوية تقع عليهم دون غيرهم. * كاتبة بريطانية متخصصة في شؤون الشرق الاوسط.