منذ سقوط النظام الدولي ثنائي القطبية تحول ملف العراق في السياسة الدولية إلى ملف كاشف ليس فقط لطبيعة وحدود الدور الذي يمكن للأمم المتحدة أن تلعبه في"النظام العالمي الجديد"وإنما أيضا لصدقية المنظمة الدولية نفسها ومدى قدرتها على تطوير وتعديل مسار نظام دولي أصبح طاغياً وغير محتمل. فمنذ وصول جورج دبليو بوش إلى السلطة والولاياتالمتحدة تتصرف على المسرح الدولي بطريقة توحي وكأنها قررت أن تدير ظهرها كلياً ونهائياً للأمم المتحدة، وأن تتعامل معها كمجرد حذاء بالٍ تضعه في قدميها حين تريد ثم تخلعه حين تريد. غير أنها سرعان ما وجدت نفسها بعد ذلك مضطرة للتخلي عن غرورها المفرط والتحلي ببعض التواضع، خاصة مع انكشاف درجة انغماسها في مستنقع عراقي لا قِبل لها بالخروج منه، فبدأت تعود إلى الأممالمتحدة بين الفينة والأخرى لعلها تجد لديها مخرجاً ينقذها من مأزقها المستحكم هناك ويحفظ في الوقت نفسه ماء وجهها الذي يبدو الآن أمام العالم كله قبيحاً بدرجة لا تصدق. ويتداول مجلس الأمن هذه الأيام مشروع قرار قدمته بالاشتراك مع المملكة المتحدة يتعلق بما يسمى"نقل السلطة للعراقيين". ورغم استحكام المأزق الذي تواجهه في العراق فإن عودة الولاياتالمتحدة إلى الأممالمتحدة قد لا تكون هذه المرة أيضا عودة نزيهة ومجردة وصادقة النية. فقد عودتنا الولاياتالمتحدة دائما على أنها كانت، ولا تزال، تسعى لتوظيف الأممالمتحدة كأداة لخدمة مصالحها واستراتيجيتها الكونية، ولم تتعامل معها قط كشريك في إدارة شئون العالم أو كجهاز يسعى لتغيير العالم نحو الأفضل، وكأن لسان حالها يقول"أنا العالم والعالم هو أنا"أو"أنا الأممالمتحدةوالأممالمتحدة هي أنا"، وبالتالي فما يصدر عني من سلوك وتصرفات هو"القانون"وهو القواعد الدولية الواجبة التنفيذ والاحترام. وما زال الجميع يتذكرون كيف تمكنت الولاياتالمتحدة من فرض شروطها على الأممالمتحدة حين انتزعت منها قراراً يضفي شرعية على وجودها غير الشرعي في العراق، ويطلق يدها في التصرف في موارده النفطية وغير النفطية، ويتعامل معها كقوة احتلال غير خاضعة للمساءلة أو حتى للالتزام باتفاقات وبروتوكولات جنيف الأربع الشهيرة لعام 49، وذلك بعد"انتصارها"العسكري السريع والمدوي في حرب عدوانية شنتها على العراق رغم أنف المجتمع الدولي وضد إرادته. ومنذ ذلك التاريخ أصبح بوسع الولاياتالمتحدة أن تعود للأمم المتحدة في كل مرة تحتاج فيها إلى قرار يذلل عقبة تواجهها هنا أو هناك أو يخفف عنها بعض ما تعانيه من متاعب نفسية أو صعوبات مادية أو أزمات أخلاقية. في هذا السياق يبدو طبيعياً أن يتصور البعض أن عودة الولاياتالمتحدة لاستصدار قرار جديد من مجلس الأمن يتعلق بعملية"نقل السيادة"وبكيفية إدارة شؤون العراق خلال المرحلة الانتقالية، هو امتداد للسياسة القديمة نفسها الرامية إلى توظيف الأممالمتحدة لخدمة أجندة السياسة الأميركية وحدها. وربما يكون ذلك صحيحاً من منظور إدارة أميركية تبدو مضطرة حاليا لإحداث تغيير تكتيكي في مناهج وربما في أساليب وأدوات إدارة الأزمة مع الإبقاء على جوهر سياساتها وأهدافها الاستراتيجية. غير أنه بات على هذه الإدارة أن تدرك أن علاقة الولاياتالمتحدةبالأممالمتحدة، وعلى خلفية إدارتهما لملف الأزمة العراقية، بدأت تدخل مرحلة جديدة مختلفة كلية عن المراحل السابقة. ولكي تتضح لنا معالم هذه المرحلة بدقة علينا أن نضعها في الإطار العام لتطور علاقة الولاياتالمتحدةبالأممالمتحدة منذ الاحتلال العراقي للكويت في 2 آب أغسطس عام 1990 حتى الآن، والذي مر، في تقديري، بأربع مراحل متميزة هي مراحل: الخديعة، فالانكشاف، فالازدراء، إلى أن وصلنا إلى المرحلة الحالية والتي يمكن أن نطلق عليها مرحلة الاضطرار للبحث عن نقطة توازن جديدة. مرحلة الخديعة بدأت عقب احتلال الكويت في 2 آب أغسطس 1990، ووصلت ذروتها بصدور قرار من مجلس الأمن"يأذن للدول الأعضاء المتعاونة مع حكومة الكويت باستخدام جميع الوسائل اللازمة لحمل العراق على الانصياع لقراراته من دون قيد أو شرط قبل 15 كانون الثاني يناير 1991"، وامتدت حتى"حرب تحرير الكويت". ولأن نظام صدام حسين الأحمق لم ينتبه إلى أن تحولات خطيرة كانت طرأت على النظام الدولي، خاصة منذ سقوط حائط برلين قبل ذلك بعام كامل، فقد قدمت هذه الأزمة للولايات المتحدة مناسبة مهمة مكنتها من إظهار عجز الاتحاد السوفييتي والتعجيل بانهياره. ولضمان التفاف العالم حولها لجأت الولاياتالمتحدة إلى طرح شعار"النظام العالمي الجديد"الذي تلعب فيه الأممالمتحدة دوراً رئيسياً حالت الحرب الباردة دون تمكينها منه. وتحت هذا الشعار المخادع أصبح ممكناً أن يتخذ مجلس الأمن جميع قراراته في الأزمة استناداً إلى الفصل السابع، وذلك للمرة الاولى في تاريخ الأممالمتحدة، ويفرض على العراق أقسى وأشمل عقوبات في تاريخه. وما إن تم لها ذلك حتى سعت، ونجحت، في الحصول من مجلس الأمن على تفويض باستخدام القوة ضد العراق، وهو ما أدى عملياً إلى تمكينها من اختطاف مجلس الأمن وتولي إدارة الأزمة بشكل منفرد تماماً، ولم تعد إليه من جديد إلا لاستصدار القرار 687 الذي وضع العراق عملياً تحت الوصاية الأميركية. ومنذ تلك اللحظة بدا واضحاً للمراقبين المدققين أن المسألة العراقية باتت مكوناً أساسياً في الاستراتيجية الأميركية الرامية للهيمنة على العالم وعلى منطقة الشرق الأوسط. أما"مرحلة الانكشاف": فبدأت مع نهاية حرب"تحرير الكويت"في نيسان إبريل 1991 واستمرت حتى بداية الإعداد العملي والعلني لعملية"احتلال العراق"في أيلول سبتمبر 2002. وخلال هذه الفترة تمكنت الولاياتالمتحدة من إحكام قبضتها على العراق بالعمل على مستويين: الأول، منفرد، لتحجيم قدرات العراق العسكرية وتنمية وتشجيع القوى المعارضة للنظام، وخاصة الكردية في الشمال و الشيعية في الجنوب، وفرض مناطق حظر الطيران في الشمال والجنوب، والثاني: جماعي، بالإصرار على إطالة أمد العقوبات وتكثيف نشاط لجان التفتيش على أسلحة الدمار الشامل والعمل على استغلاله لخدمة مآرب أخرى. ولم تكترث الولاياتالمتحدة للمآسي الإنسانية التي سببتها تلك السياسة للشعب العراقي أو بتلطيخ سمعة الأممالمتحدة التي أصبحت متورطة في هذه المآسي بشكل أو بآخر. واتضح بالتدريج أن أزمة الكويت كانت نمطاً فريداً وغير قابل للتكرار، وأن مجلس الأمن راح يتعامل مع الأزمات المختلفة وفق معايير مزدوجة، وأنه لا مكان ولا دور يذكر للأمم المتحدة في هذا"النظام الدولي الجديد"الذي يرفعون شعاراته لأنه نظام تسعى الولاياتالمتحدة للهيمنة عليه وتحويل الأممالمتحدة فيه إلى مجرد إدارة من إدارات وزارة الخارجية الأميركية. وفي هذا السياق نجحت الولاياتالمتحدة ليس فقط في تهميش دور الأممالمتحدة وإنما أيضا في تشويه سمعتها والانتقاص من هيبتها ومن صدقيتها، ولم تتردد في توجيه ضربات عسكرية موجعة للعراق من وقت إلى آخر، ومن دون أي استئذان، بدعوى أن التفويض السابق باستخدام القوة ما زال قائماً. وبوصول اليمين المتطرف بقيادة جورج دبليو بوش ومحاولته استغلال أحداث 11 أيلول سبتمبر لفرض المشروع الأميركي للهيمنة بقوة السلاح، دخلت علاقة الولاياتالمتحدةبالأممالمتحدة"مرحلة الازدراء"، وهي المرحلة التي وصلت ذروتها بتحدي مجلس الأمن وشن الحرب على العراق دون تفويض منه ثم العودة إليه لتقنين احتلالها غير الشرعي للعراق، واستمرت حتى قيام الولاياتالمتحدة بالإعلان عن خططها لنقل"السيادة"إلى العراقيين. وطوال تلك المرحلة، والتي بدت خلالها الأممالمتحدة وكأنها طرف مقاوم ولو على استحياء لمشروع الهيمنة الأميركية، تعاملت الولاياتالمتحدة معها بازدراء شديد وبرغبة شرسة في إسكات كل من يجرؤ على مقاومة المشروع الأميركي، حتى ولو أدى ذلك إلى قتل الأممالمتحدة واغتيال القانون الدولي ذاته. غير أن تطور المقاومة العراقية السريعة وغير المتوقعة للاحتلال الأمريكي، وتكشف الحقائق المتعلقة بثبوت خلو العراق من أي أسلحة للدمار الشامل وعدم وجود أي صلة أو علاقة بين النظام السابق وتنظيم القاعدة، وانكشاف الأجندة الخفية لعصابة المنظرين والمخططين لهذه الحرب القذرة في الإدارة الأميركية، خصوصاً أمام الناخب الأمريكي، والسقوط الأخلاقي المدوي للقيم الأميركية في سجن أبو غريب، كل تلك عوامل أدت إلى تزايد الاعتقاد بأن المشروع الأميركي في العراق في سبيله إلى الانهيار إن لم يكن انهار فعلاً. وفي هذا السياق أصبحت الإدارة الأميركية مضطرة للبحث عن غطاء لاستراتيجية خروج كريم من العراق، ولم يعد أمامها سوى الأممالمتحدة لتقديم هذا الغطاء. وهكذا راحت علاقة الولاياتالمتحدةبالأممالمتحدة تنسج خيوط مرحلة جديدة يمكن أن نطلق عليها"مرحلة البحث عن نقطة توازن". وفي تقديري أن هذه المرحلة بدأت بالتقدم رسمياً بالمشروع الأميركي - البريطاني المعروض حاليا على مجلس الأمن والخاص بكيفية التعامل مع عملية"نقل السيادة"وطريقة إدارة العراق خلال المرحلة الانتقالية وما بعدها. البعض يرى أن الإدارة الأمريكية الحالية بدأت تستشعر استحالة فرض مشروعها في العراق ولم يعد أمامها مفر من التسليم بهزيمتها وبالتالي تسليم الملف العراقي، بشقيه السياسي والأمني، إلى الأممالمتحدة كي تديره بنفسها، باعتباره الوسيلة الوحيدة التي تضمن للولايات المتحدة خروجاً غير مهين من العراق. لكننا نعتقد أن الأمر قد لا يكون كذلك. فالإدارة الأميركية الحالية، والتي تستند سياساتها إلى رؤى أيديولوجية وليس إلى حسابات عقلانية أو براجماتية تعتقد أن طريق المناورة ما زال متاحاً أمامها وأن بوسعها أن تلجأ إلى المماطلة وكسب الوقت بحثاً عن وسيلة لتهدئة الأوضاع في العراق ريثما تنتهي عملية الانتخابات الرئاسية، ثم تعود لاستئناف ترميم مشروعها المنهار خلال الفترة الرئاسية الجديدة. ولذلك لا نعتقد أن الولاياتالمتحدة اتخذت قراراً استراتيجياً بالانسحاب من العراق مثلما انسحبت من فيتنام من قبل، وبالتالي فليس من المتوقع أن تقدم التنازلات المطلوبة، والتي يجب أن تتضمن جدولاً زمنياً محدداً للانسحاب العسكري من العراق كي يصبح بإمكان الأممالمتحدة تقديم الغطاء المطلوب لتسوية الأزمة العراقية وإدارة الملف العراقي بسلاسة خلال المرحلة الانتقالية. من هنا فمن المتوقع أن تكون المعركة التي ستدور رحاها داخل مجلس الأمن خلال الأيام والأسابيع المقبلة بالغة العنف، رغم حرص الجميع على أن تبدو هادئة فوق السطح. بل لا أبالغ إذا قلت إن هذه المعركة ربما تكون أهم و أخطر المعارك الدبلوماسية التي شهدتها ساحة الأممالمتحدة في الآونة الأخيرة. فالمسألة العراقية داخل الأممالمتحدة تحولت إلى مسألة تتعلق بمدى قدرة الأممالمتحدة على استرداد كرامتها وهيبتها وإنقاذ القانون الدولي من قبضة القرصان الأميركي. وهي مسألة لن تحل إلا بالعثور على نقطة توازن جديدة تسمح للولايات أن تمارس دورها كقوة عظمى داخل الأممالمتحدة وليس كقوة مهيمنة عليها أو بديلاً منها. ولا جدال في أن الأممالمتحدة تواجه اختباراً صعباً لكن اجتيازه ليس مستحيلاً. * كاتب واكاديمي مصري.