ها هي حقيبة السفر جاهزة، والسائق بانتظاري أمام باب منزلي الكائن في حي «كنزنغتون» اللندني، ليقلني إلى مطار «هيثرو». مسافة العشرين كيلومتراً التي تفصلني عن المطار، كانت تتقاسم مناظرها بين البيوت المزدانة بالحجر الرملي والقرميد الرمادي والأحمر، وبين المروج والسهول الخضراء التي تحتضن أشجار الكستناء المعمرة وبعض شجرات الأرز العتيقة. وبين الحين والآخر كنت أرفع النظر إلى الأعلى، فترتسم في الأفق أسراب الطائرات التي تحط وتقلع من مطار «هيثرو» كل دقيقة... على إيقاع حفيف دواليب حقائب السفر، ووقع خطى المسافرين المتسارعة، توجهت مع غيري من المسافرين نحو الطائرة السويسرية Swiss لتمخر بنا بعد دقائق عباب الفضاء نحو جنيف، مدينة السلام. أقلعت الطائرة، وبدأنا نبتعد عن الأرض رويداً رويداً لنسلم أنفسنا لعالم ما فوق السحاب. وسلكت الطائرة طريقها، وحلقت بنا فوق الأراضي البريطانية قليلاً، قبل أن تنعطف نحو بحر المانش ثم الأراضي الفرنسية. وبعد ساعة وخمس وأربعين دقيقة، أطلت علينا جبال الألب بقممها الشامخة ومناظرها البهية. وبينما كنت تائهاً في تأمل عظمة الخالق الإبداعية المحفورة على تلك الجبال، بدأت الطائرة هبوطها فوق مدينة جميلة، تتوهج وترتاح عند أقدام الجبال. إنها جنيفالمدينة التي اشتقت للعودة إليها من جديد. اليوم الأول هل هذه المرة الأولى التي تزور فيها جنيف؟ بالطبع لا، فزياراتي تتكرر إليها سنوياً. بهذا السؤال استهل سائق التاكسي حديثه معي ونحن نشق طريقنا من مطار جنيف إلى الفندق. ملامحه الشرقية وبشرته السمراء دفعتني إلى طرح السؤال عن جنسيته، فأجابني بأنه تونسي. عندها نسينا الفرنسية والإنكليزية وبدأنا الحديث بالعربية، تارة عن الحياة في جنيف، وتارة أخرى عن «ثورة الياسمين» في تونس الخضراء، لغاية وصولي الفندق حيث ترجلت من السيارة ودخلت عالم «بريزيدانت ويلسون» Hôtel Président Wilson الذي يعتبر لؤلؤة فنادق جنيف والمكان الأكثر تميزاً وشهرة. فكم من ملك ورئيس جمهورية وشخصية عالمية دخلت هذا المكان وأمضت عطلتها فيه. فإذا كنتم من أصحاب المال والثراء، فلا شيء يوازي متعة الإقامة في جناح «رويال بانتهاوس سويت» Royal Penthouse Suite الذي يحتل مساحة 1680 متراً مربعاً في الطابق العلوي من الفندق. الفخامة ثم الفخامة هي العنوان العريض الذي يصح أن نطلقه على هذا الجناح الذي تصل تعرفة الإقامة الليلية فيه الى حوالى 58 ألف يورو. ولكن ماذا سيقدم لكم هذا المبلغ؟ 12 غرفة نوم، 12 حماماً، صالة استقبال رحبة تطل على الجبل الأبيض وعلى بحيرة جنيف، تتوسطها شاشة تلفزيون عملاقة هي واحدة من بين أكبر 3 شاشات في العالم من هذا الحجم أنتجتها شركة «بانغ أند أولفسون» الدنماركية. هنا سيستمتع النزلاء بغرفة خاصة للجاكوزي بديكور مترف مستوحى من الشرق وعبق سحره. وأترك الفندق وغرفه المئة والثمانين وأجنحته الفخمة التي تصل إلى 48 جناحاً، متوجهاً إلى قلب جنيف القديم. وأسير بمحاذاة البحيرة. فتستوقفني نافورتها العملاقة وعملية قذفها الماء في الفضاء بعلو 140 متراً، ثم تتراقص على إيقاع أصوات السياح الذين يتجمعون حولها، لتعود وترتاح على صفحة المياه النقية. فحكاية الحب والوئام بين البحيرة والنافورة طويلة وتعود إلى عام 1886، إذ كانت تستخدم لتقليل ضغط المياه عند الضخ لسكان المدينة، ومع حلول عام 1891 تم تطويرها لتصبح معلماً سياحياً جذاباً وكانت قدرتها في ذلك الوقت 90 متراً فقط. وفي عام 1951 تم تجهيزها بالمضخات الحديثة والإضاءة لتصبح معلم المدينة الأكثر شهرة. وأتابع السير، وأعبر جسر «مون بلان» Mont-Blanc الذي هو نقطة الوصل بين حي الفنادق ومنطقة المنظمات العالمية، وبين شوارع جنيف التجارية ووسطها القديم. رحبت بي هناك أعلام كانتون جنيف، والأعلام السويسرية، وأعلام الكانتونات السويسرية الأخرى، التي ترفرف على جانبي الجسر، والتي تشعر المشاة بأنهم خلال عيد سويسرا الوطني الذي تحتفل به البلاد في الأول من آب (أغسطس). واستقبلتني عند نهاية الجسر ساعة الزهور التي ترمز إلى مكانة سويسرا العالمية في صناعة الساعات، ومنها تعبق رائحة الزهور التي تجتمع في قرصها ويقارب عددها 6500 زهرة. في كل فصل تتبدل وتتلون زهورها لتهدي روادها لوحة ربيعية بطول مترين ونصف المتر على أبواب الحديقة الإنكليزية. ومن المؤكد أن الحديقة الإنكليزية ستنقلكم إلى أجواء فيلم «سريانا»، الذي قام ببطولته جورج كلوني ومات دايمون وصور بعض مشاهده في هذا المكان الساحر. اكتشفت الوجه الآخر من جنيف على متن مركب صغير أبحر بي من نقطة الانطلاق القريبة من الحديقة الإنكليزية، باتجاه مدينة لوزان. والبحيرة تصبح أكثر اتساعاً وأكثر جمالاً ورومانسية كلما ابتعدتم عن جنيف واقتربتم من المدن السويسرية والفرنسية الأخرى. وفي طريق العودة إلى جنيف، سمعت أحد الركاب يسأل المرشدة السياحية عن سبب تسمية البحيرة باسم «بحيرة جنيف» وليس بأي اسم آخر؟ وكان الجواب: «تحمل البحيرة اسمها الحالي بسبب امتلاك سويسرا 60 في المئة من مساحة مياهها، و40 في المئة هو ملك لفرنسا، وكذلك بسبب شهرة جنيف العالمية. أما الفرنسيون فلا يزالون يطلقون عليها اسم «بحيرة ليمان» منذ القرن الثامن عشر». اليوم الثاني آه لو كان باستطاعة جنيف الكلام والبوح عن الأموال والثروات المودعة في مصارفها، لاعتبر ذلك «ويكيليكس» الفضائح المالية في القرن الحالي. عند كل منعطف طريق هناك مصرف يحتضن ملايين لا بل مليارات الدولارات لأسماء بارزة من العالم. وبذلك تكون هذه المدينة السويسرية الصغيرة أشبه بمغارة علي بابا المليئة بالكنوز والأموال والمجوهرات الثمينة. وقد أغوى الحياد السويسري كثيراً من الشركات الأجنبية لوضع ودائعها المالية في مصارف جنيف، التي يقال إنها تمتلك أكثر من نصف كمية رأس المال الأجنبي. ليست المصارف وحدها التي ترسم ملامح جنيف، فالمدينة أيضاً مركز للديبلوماسية، ومركز للتعاون الدولي وتحتضن مقر الأممالمتحدة والمنظمات الحكومية وغير الحكومية التي يصل عددها إلى 250 منظمة تشمل اللجنة الدولية للصليب الأحمر والهلال الأحمر وغيرها. وتتناثر على روابي جنيف الساحرة سلسلة من المنظمات الدولية، أمثال منظمة العمل الدولية ومنظمة الصحة العالمية ومنظمة حقوق الإنسان ومنظمة الملكية الفكرية ومنظمة التجارة العالمية والاتحاد الدولي للبريد... وهي أيضاً مدينة السلام، ففيها وُقع كثير من الاتفاقات التي عرفت باتفاقات جنيف. وجولة في المدينة ستجعلكم تكتشفون أن جنيف هي مدينة عالمية، فأربعون في المئة من سكانها الذين لا يتجاوز عددهم المئتي ألف نسمة هم من الأجانب الذين يعملون بغاليبتهم في تلك المنظمات الدولية. وسط إجراءات أمنية مشددة دخلت قصر الأممالمتحدة، وتعرفت أكثر إلى كيفية سير العمل ضمن أقسامها. وفي ساحتها وقفت أمام «الكرسي المكسورة» بحجمها الهائل. وبعد الاستفسار، علمت أنها صممت بهذا الشكل لأن كما لا تستطيع الكرسي أن تقف بثلاث أرجل، كذلك لا يستطيع الإنسان أن يمشي جيداً إذا بترت ساقه بسبب تعرضه للغم أرضي. وتأتي «الكرسي المكسورة» لترمز إلى الحملة الدولية لحظر الألغام الأرضية والذخائر العنقودية التي أطلقتها 6 منظمات دولية عام 1992، بعد مشاهدتها النتائج المأسوية التي تسببها تلك الأسلحة في كثير من بلدان العالم. وأستكمل المشوار في جنيف، وأترك لنفسي حرية التجول بين أزقتها العتيقة وأحيائها الأثرية التي تستحضر الماضي بأبهى صوره، فأصل بعد صعود 157 درجة كاتدرائية القديس بطرس التي تهيمن على المباني الموجودة حولها، وتقدم نموذجاً رائعاً للتراث المعماري الذي ساد عند تأسيسها عام 1160. أجواء الهدوء والسكينة التي تسكن الكاتدرائية، تقابلها في الخارج الأصوات المتعالية وصيحات الفرح التي يطلقها كل من تجتذبهم ساحة «بلاس دي بورغ دي فور» Place du Bourg-de-Four القريبة منها. فالساحة، حيث يوجد قصر العدل، هي عصب الحياة في المدينة وتستقطب مقاهيها ومطاعمها التي تتوزع حول نافورة ماء جميلة الآلاف يومياً. قادني زقاق صغير متفرع من الساحة إلى منزل تافيل، أقدم منازل جنيف الذي كانت تملكه أسرة تافيل العريقة. وعلى رغم الحريق الذي طاوله عام 1334، فقد رمم من جديد ليعرض الأسلوب الهندسي الذي يرقى إلى العصور الوسطى. اقتربت من عالم الفيلسوف والكاتب السويسري جان جاك روسو عندما دخلت منزله الذي يربض بين منازل جنيف التاريخية ويحمل الرقم 40. فهنا أبصر النور عام 1712. وكتاباته وأفكاره الجريئة أغنت المكتبة العالمية، بينما ساعدت فلسفته في تشيكل الأحداث السياسية التي أدت بدورها إلى قيام الثورة الفرنسية عام 1789. أنهيت يومي الثاني بزيارة متجر «فافارجيه» Favarger للشوكولا السويسري الذي تأسس عام 1826، وفيه تذوقت أصناف الشوكولا اللذيذة بنكهاتها المتعددة، قبل أن أتوجه إلى فندق «بريزيدانت ويلسون» من جديد لتناول طعام العشاء في مطعم «لارابسك» L'Arabesque. فالمازة اللبنانية الشهيرة والكبة والتبولة تقدم فيه، وكذلك الموسيقى الشرقية وأغاني فيروز وعمرو دياب تصدح أيضاً، وهذا ما يجعله فسحة عربية بمأكولاتها وأجوائها، ومقصد كثير من السياح العرب والمقيمين في جنيف على حد سواء. اليوم الثالث أينما جال النظر فهناك مشاهد تبهج القلب، ولوحات طبيعية تزهو بالألوان وتتمايل على تلك الروابي والتلال. قرية «كولوني» Cologny التي تبعد حوالى 6 كيلومترات إلى الشمال من بحيرة جنيف كانت مقصدي صبيحة يومي الثالث. أحببت أن أطلق عليها اسم «قرية الأثرياء». فعلى كل تلة تشمخ فيلا ضخمة أو منزل أنيق ترفرف على بعضها أعلام لبلدان عربية، من المحتمل أنها منازل للسفراء العرب في سويسرا. دخلت في «كولوني» إلى مؤسسة «مارتن بودمر»Martin Bodmer Foundation التي تضم متحفاً ومكتبة. هناك قابلت المسؤول عن المؤسسة الذي أخذني في جولة بين تلك الكنوز الأدبية والفنية التي جمعها «مارتن بودمر» المنحدر من أسرة سويسرية ثرية. ففي سن السادسة عشرة بدأ «بودمر» بجمع الكتب الأدبية النادرة. وتسلط الأنوار الخفيفة في المؤسسة على خزانات زجاجية تتباهى بعرضها أقدم المخطوطات لإنجيل القديس يوحنا، وبعض الكتب للشاعر الإيطالي دانتي اليغيري، وللشاعر والمؤلف المسرحي الإنكليزي وليام شكسبير، وكذلك للأديب الألماني يوهان غوته، ولكثيرين ممن تركوا بصماتهم البارزة في عالم الشعر والأدب. وفي المتحف آثار للحضارات القديمة، مثل قطع النقود اليونانية والرومانية، وبعض اللوحات الفرعونية. وحرص «بودمر» قبل وفاته عام 1971، على عدم تناثر هذا التراث الفريد الذي جمعه بشغف، فكانت فكرة المؤسسة التي تلقي الضوء على تلك الروائع التاريخية تحت سقف واحد. وينقضي اليوم الثالث في جنيف، وها هو الليل يهبط عليها من جديد، وها أنا أعيش الأجواء السويسرية التقليدية بعناصرها كافة في مطعم «إيدلفيس» Edelweiss. فكل الصور التي تختزنها الذاكرة عن سويسرا موجودة في هذا المطعم المميز حيث الهوية السويسرية حاضرة في شكل بارز، بدءاً من ديكوره الخشبي إلى شبابيكه الصغيرة المزينة بالزهور إلى درجه الخشبي الذي ينقلكم إلى طبقته السفلى حيث الأغاني السويسرية الآتية من أعالي الجبال ينشدها رجال بالزي التقليدي، وهم يعزفون على آلات موسيقية مصنوعة من الخشب على هيئة قرن طويل يقومون بالنفخ فيها، فترسل أصواتاً موسيقية رنانة تبعث الفرح والنشوة في القلوب، وتجعل من الرحلة إلى جنيف ذكرى طيبة يصعب نسيانها.