من بيروت إلى إسطنبول، ومن إسطنبول إلى فيينا، هكذا انتقلت مع الوفد الصحافي على متن الطائرة التركية إلى عاصمة الفن والموسيقى التي أهدت العالم أشهر السيمفونيات الخالدة لموتسارت و شتراوس وهايدن. المسافة بين بيروتوإسطنبول مرت بلمح البصر، وهناك انتظرنا قليلاً في مطار «أتاتورك» أكبر مطارات تركيا، قبل أن ننتقل على متن طائرة أخرى إلى فيينا. من شباك الطائرة الصغير كنت أرصد تلك البلدان الأوروبية المترامية بين إسطنبول وفيينا، وتلك المساحات الخضراء التي كانت تبدو زاهية وفرحة بالربيع. في غمرة تلك المناظر البديعة، وبعد ما يقارب الساعتين من السفر، علا في الطائرة النداء لربط الأحزمة استعداداً للهبوط في مطار فيينا الدولي. وكم بدت فيينا كعروس أوروبية جميلة، تبتسم للصباح الذي كان يغدق عليها النور والدفء، فتتوهج في إطار ساحر ملفت للنظر. وأخيراً، ها أنا على أرض مطار فيينا، أسير لاستلام حقيبتي، وفي الأجواء تعلو سيمفونية موتسارت التي منها استوحى الأخوان رحباني لحن أغنية فيروز «يا أنا أنا أنا وياك»، وكأنها جاءت لتلقي تحية لبنانية نمساوية على مجموعة الصحافيين القادمين جميعاً من بيروت. اليوم الأول إنها العاشرة صباحاً، وسيارة الأجرة التي نحن على متنها تخترق شوارع فيينا قاصدة فندق «سوفيتيل» Sofitel. عند كل منعطف طريق كانت تطالعنا روائع عمرانية تحمل بمعظمها بصمات أسرة «هابسبورغ» الأرستقراطية التي حكمت النمسا حوالى 640 سنة. ومن المؤكد أن تأخذكم تلك المباني إلى ماضي فيينا العريق المحفور على زواياها العتيقة. بين تلك المآثر المهيبة وصلنا برفقة المرشدة السياحية «أليكسا» إلى فندق «سوفيتيل» ذلك الصرح الزجاجي الذي افتتح منذ بضعة أسابيع ليشكل عملاً فنياً رائعاً ينتمي إلى القرن الحادي والعشرين. بهرني ذلك البناء المكون من الزجاج والفولاذ، وهذا ما يملأه بالضوء والظلال ويوظف الأضواء وانعكاساتها ويستغل ببراعة العلاقة بين الشكل الداخلي والمظهر الخارجي. ما إن دخلت غرفتي حتى أطلقت عليها لقب «الغرفة البيضاء»، فاللون الأبيض منتشر بشكل بارز على كل ما فيها، ما عدا واجهتها الزجاجية التي صممت خصيصاً كباقي غرفه وأجنحته لتعطي النزلاء فرصة التمتع بمنظر شامل للمدينة ولنهر الدانوب الذي يشطر قلبها. هذا ما سعى إلى إنجازه مهندس البناء الفرنسي جان نوفيل الذي له شغف خاص بالنور والخيال. ليس اللون الأبيض حكراً على جميع الغرف والأجنحة، بل هناك أيضاً اللونان الرمادي والأسود اللذان يلونان باقي الغرف والأجنحة، بما في ذلك المفروشات والستائر والأسرة. ويحين وقت الغداء، وأسير مع مرشدتنا السياحية والوفد الصحافي باتجاه مطعم «شوارتزس كاميل» Schwarzes Kameel الذي يتردد إليه الفنانون وكثير من الوجوه المعروفة في فيينا. لقد كان المشوار من الفندق باتجاه المطعم بمثابة رحلة عبر الزمن إلى ماضي المدينة القيصري، حيث سرنا في أحياء فيينا القديمة، ومررنا أمام مبانيها العتيقة التي هي نماذج رائعة لأساليب الهندسة التي عايشت الأزمنة القيصرية الغابرة. ولا عجب في وضع منظمة الأونيسكو قلب المدينة التاريخي على لائحتها المعروفة باسم «التراث الثقافي العالمي». ففي فيينا أكثر من 27 قصراً، وما يزيد عن 150 مبنى عريقاً. ما إن انتهينا من تناول الطعام، حتى سمعت وقع أقدام الخيول. ها هو الحوذي مارك ينتظرنا في الخارج ليأخذنا بجولة على متن عربته التي يجرها حصانان بيضاوان على أهم معالم فيينا السياحية. عشت ماضي المدينة الجميل على متن تلك العربة، وارتميت في أحضان تاريخها المجيد الذي هو جزء لا يتجزأ من حاضرها الغني، وبالأخص عندما كنا نعبر أمام متاحفها، ودار الأوبرا، ومبنى البرلمان، ودار البلدية الذي يستحق كل كلمات المديح والإطراء نظراً إلى هندسته الشبيهة بقصور ألف ليلة وليلة. كانت الشمس قد بدأت بسحب آخر خيوطها الذهبية عن العاصمة حينما كنا عائدين إلى الفندق. يومنا الأول لم ينته هنا، بل استكملناه في مطعم «لي لوفت» Le Loft القائم في الطابق الثامن عشر من الفندق. لا بد لكل زوار فيينا أو نزلاء الفندق من زيارة هذا المكان، ليس فقط لتناول مأكولاته وأطباقه التي تحضر على أيادي أمهر الطهاة الفرنسيين، بل للاستمتاع بديكوره المترف المليء بالألوان الشبيهة بألوان قوس قزح. فسقفه الزجاجي لوحة بانورامية تغير ألوانها باستمرار، وواجهاته الزجاجية العريضة ستمنحكم منظراً مذهلاً لفيينا وهي تناجي الليل وتزيح عتمته بأنوارها الباهرة. اليوم الثاني أينما جال النظر ستدهشكم هذه المدينة التي تستيقظ فيها الأحلام وتتعالى الأحاسيس. فهي لا تخيّب آمال زوارها، وتعدهم بمفاجآت كثيرة. مفاجأة يومي الثاني كانت رحلة إلى حديقة ملاهي المدينة «براتر فيينا» Vienna Prater التي استقبلتنا بمروجها الخضراء وأشجارها الوارفة الظل وممراتها الهادئة. عندها تذكرت أغنية ألمانية تتغنى بالحديقة ويقول مطلعها: Im Prater blühn wieder die Bäume ما يعني «وأشجار براتر أزهرت من جديد». وبالفعل كان الربيع يزهو بألوانه الفرحة وعبيره الفواح في «براتر». هناك افترشنا الأرض لقضاء وقت ممتع برفقة «أليكسا»، ولنراقب ذلك المكان وهو يضج بصخب الحياة، وبصيحات وقهقهات الأطفال التي تستقطبهم تلك البقعة لممارسة مجموعة من النشاطات الرياضية، كحلبات سيارات التصادم، ورمي الكرة، وقطارات السكة الحلزونية المثيرة، وقطارات الأشباح وغيرها كثير. إن نقطة الجذب الأكثر شهرة في «براتر فيينا» هو الدولاب العملاق الذي يدور حول نفسه ليهب رواده صوراً ومشاهد حية لتلك المنطقة التي تسحر الألباب بجمالها. لم تغرنا رائحة المأكولات التي تنبعث من الأكشاك المنتشرة في «براتر»، فالغداء كانت ينتظرنا في مطعم «أيسفوغيل»Eisvogel الذي لا يزال يحظى بسمعة طيبة منذ تاريخ تأسيسه العام 1805. وشرح لنا مديره أن «أيسفوغيل» شهد خلال الأيام الأخيرة من الحرب العالمية الثانية العام 1945 حريقاً هائلاً طاول مختلف أجزائه، ولكن بعد سنوات من الإقفال التام أعيد افتتاحه العام 2008 ليصبح منذ ذلك الوقت من أكثر المطاعم تميزاً في العاصمة. قابلت وتفاعلت مع الشخصيات التي شكلت التاريخ والثقافة النمساوية في متحف «مدام توسو» Madamme Tussauds الذي أفتتح قبل أيام قليلة من وصولنا إليها. وكان لي وقفة لالتقاط الصور التذكارية مع موسيقيي النمسا وأبطالها المعاصرين أمثال حاكم كاليفورنيا أرنولد شوارتزنيغر وبطل السباق نيكي لودا. ولم أترك الرئيس الأميركي أوباما يعتب علي، فالصور كانت إلى جانبه أيضاً، فضلاً عن ديفيد بكهام وبراد بيت. وبذلك يعكس المتحف الثقافة الغنية للمدينة، فنحاتون من هذه المؤسسة العالمية عملوا بثبات لينشئوا أكثر من 70 تمثالاً من الشمع، وليضيفوا معلماً سياحياً جديداً إلى حديقة ملاهي المدينة. اليوم الثالث قصر «شونبرون» Schönbrunn Palace أحد أهم معالم الجذب السياحي في فيينا كان مقصدنا صبيحة يومنا الثالث. وصلته فوجدت نفسي في حضرة معلم ثقافي وتاريخي مهيب، ووجدت نفسي أيضاً أهوم في عالم أباطرة «هابسبورغ» الذين كانوا يمضون فترة الصيف فيه. وكم تمايل أمامي الماضي بكامل عظمته عند دخولي غرفه وصالاته الفخمة، وبالأخص عندما كنت أقف وجهاً لوجه أمام مقتنيات الإمبراطورة «ماريا تيريزا» التي عشقت هذا القصر وعاشت مفتونة بحدائقه الغناء التي تزدهي بشتى أصناف وألوان الزهور والنبات. و»شونبرون» الذي يعني «النبع الجميل» تتميز غالبية جدرانه بأنها منقوشة بالذهب الذي يخطف الأبصار. فهو من أجمل قصور الباروك في أوروبا، ومن أكبرها على الإطلاق، بحيث أنه يحتوي على ما يقارب الألف وخمسمئة غرفة، منها غرفة نوم الإمبراطور الفرنسي «نابوليون بونابرت» وزوجته «ماري لويز» حينما كانا يقصدان القصر لقضاء بضعة أيام في ضيافة قريبهما «فرانز جوزيف الأول» إمبراطور النمسا. وكم تمنيت أن يكون لدي متسع من الوقت لزيارة جميع غرفه، لكنني اكتفيت بالتعرف على عشرات منها، واستمعت إلى القصص التي ترددت في رحابها. ثم دخلت إلى القاعة الكبرى المزينة بالمرايا وثريات الكريستال، وفيها كانت تقام الحفلات الرسمية لطبقة النبلاء الأوروبيين. بعد رحلة مع ماضي فيينا العريق وشخصياتها التاريخية، كان لا بد من الانتقال إلى أرض الواقع. فعالم الشوكولاته الذي يرتبط اسمه أيضاً بالمدينة كان ينتظرنا في مصنع «كسوكولا» Xocolat. وكم ارتسمت علامات السعادة على وجه صاحب المصنع والعاملين معه عند رؤيتي مجدداً في مصنعهم بعد زيارتي السابقة في السنة الماضية. لم نتذوق عندهم الشوكولاته النمساوية فقط، بل طلب مني ومن بقية الزملاء مشاركتهم في صناعة قطع الشوكولاته بمذاقات وأشكال مختلفة، فلبينا النداء ونجحنا في مغامرتنا الجديدة. الرحلة لم تنته هنا، بل استمرت إلى ما قبل منتصف الليل، حيث جلنا برفقة «أليسكا» ومجموعة من مكتب ترويج السياحة في فيينا على أماكن السهر في المدينة، تعرفنا خلالها على الوجه الآخر من فيينا. فسواء كانت رحلة استكشاف المدينة خلال النهار أو خلال الليل، يبقى عنوان عريض اصطبغ اسمه بالمدينة وطبع بشكل بارز على جبينها. إنه الموسيقى ثم الموسيقى التي تعبق في أجوائها، وتنطق بمعزوفات مشبعة بأسماء مبدعيها الذين تستذكرهم المدينة على الدوام. ها هو اليوم الرابع يطل، وحقيبة السفر جاهزة، للعودة إلى إسطنبول ومنها إلى بيروت، وفي البال تعيش ذكريات مدينة أحن للعودة إليها باستمرار. * لحجز إقامتكم في فندق «سوفيتيل فيينا»Sofitel Vienna يمكنكم زيارة الموقع التالي: www.sofitel.com * للمزيد من المعلومات عن فيينا يمكنكم زيارة الموقع الذي يشرف عليه مكتب ترويج السياحة في المدينة: www.wien.info