أفرزت الانتخابات البرلمانية المصرية خريطة سياسية جديدة، وأظهرت الهزال الواضح للأحزاب وعلى رأسها الحزب"الوطني"الحاكم. وكذلك تفضيل الناخبين منح أصواتهم لمرشح مستقل يناصرونه أو آخر من جماعة"الإخوان المسلمين"التي طرحت شعاراً موحداً هو"الإسلام هو الحل"، مما كشف أن أحزاب المعارضة - 20 حزباً - كلها أحزاب ورقية، ليست عاجزة عن تولي الحكم فحسب، بل أيضاً عن كسب بضعة مقاعد في المجلس. سعى الجميع إلى تحقيق أكبر قدر من المكاسب، الوطني أعد خطة أنفق على تنفيذها ملايين الجنيهات، وحشد الوزراء والقيادات وراء مرشحيه الذين اختارهم مجمعه الانتخابي، ووضع"معايير دقيقة"لاختيار مرشحين أكدت قيادات الحزب أنهم سيحطمون كل أرقام الفوز. وفي المقابل، حشدت أحزاب المعارضة قواها في جبهة موحدة أملاً في زيادة حصيلتها من المقاعد، بينما رفضت جماعة"الإخوان"التنازل عن الشعار الموحد لكل مرشحيها، ورفضت الاندماج في جبهة المعارضة. اعتقد قادة"الوطني"الذي يصل عمره إلى 28 عاماً سيطر خلالها على الحكم ولم يتنازل عن السيطرة على نسبة 90 في المئة من مقاعد البرلمان، بأن الحملة الانتخابية المتطورة التي أعدوها ستزيد، ليس من السيطرة على البرلمان فحسب، بل أيضاً من جماهيرية الحزب في الشارع السياسي، كي يتأكد بالفعل القول إنه حزب الغالبية صاحب الجماهيرية الكبيرة، لكن ما حدث كان عكس ما يأمل قادة الحزب، فجاءت نتائج المرحلة الأولى كصدمة لم يتوقعها الحزب بعدما فاز مرشحو"الإخوان"34 مقعداً. وفي المقابل، حقق المنشقون عن الحزب انتصارات وفازوا بنسبة مقاعد كبيرة، بينما تأكد ضعف كل أحزاب المعارضة التي لم تحصد إلا مقاعد قليلة لا تتناسب والهالة الإعلامية التي تحيط نفسها بها. وأربكت هذه النتائج غير المتوقعة قادة"الوطني"، وبدأت الخلافات تتسرب إليهم، خصوصا بين القيادات التقليدية ومجموع الإصلاحيين الذي لم تستجب دعوة بعضهم إلى الأساليب القديمة في السيطرة على مجريات العملية الانتخابية بمعرفة الشرطة، كي يمكن للحزب تحقيق الغالبية المطلوبة. أصاب الارتباك الحملة الانتخابية للحزب والمرشحين ولم تسعفهم الزيارات السريعة التي قام بها الوزراء إلى الدوائر والوعود السخية التي قدموها، كما لم تسعفهم الآلة الإعلامية الحكومية التي أصابها الارتباك أيضاً، فألقت بما بين يديها من برامج ومقالات إلقاء عشوائياً ضد"الإخوان"ومرشحيهم وتاريخهم، ولم يحدث ذلك إلا أثراً سلبياً ضد مرشحي الحزب الحاكم، بينما جنى ثماره مرشحو"الإخوان"الذين استفادوا من كل خطأ وقع فيه"الوطني"وأجهزة الحكومة، لدرجة أن المرشد العام للإخوان قدم الشكر لوسائل الإعلام الحكومية لمساندتها مرشحي الجماعة! بحلول المرحلة الثانية من الانتخابات كان المرشحون من كل الاتجاهات أعدوا العدة للفوز بأي وسيلة، واستخدم كثير منهم أسلوب الرشاوى الانتخابية المباشرة العلنية، كما استخدموا البلطجة لردع أنصار المنافسين وتحولت مقار اللجان الانتخابية إلى ساحات للمعارك الطاحنة قادتها ميليشيات مسلحة، مما أثار ذعر الناخبين وجعلهم يحجمون عن التصويت- وزاد من حجم الهلع موقف الشرطة السلبي، على رغم قدرتها على استخدام قانون الطوارئ أو قانون البلطجة لحماية الناس- وأدى سلوك الشرطة إلى حدوث تهديد للقضاة، مما جعلهم يرفعون صوتهم مطالبين بالحماية حتى لو من طريق الجيش. ونتج عما حدث في هذه المرحلة والمرحلة التالية من تدخلات، أن كشف بعض القضاة عن تزوير في بعض اللجان لإرادة الناخبين. وعلى رغم الاحتياطات التي اتبعها"الوطني"لتحسين موقفه، فإن النتائج جاءت بصدمة هائلة- إذ خسرت رموز الحزب بمن فيهم نائب رئيسه الدكتور يوسف والي. كما سقط ثلاثة من أعضاء الأمانة العامة للحزب، أما رؤساء اللجان في مجلس الشعب فتوالى سقوطهم بأعداد كبيرة، ما سينتج عنه تغيير كبير في خريطة اللجان في المجلس. وذاق مرارة السقوط عدد كبير من كبار رجال الأعمال الذين اعتقد الحزب أن حشدهم يمكن أن يزيد من عدد مقاعده أو أن يستفيد من دعمهم المالي للحزب خلال الحملة الانتخابية- ومن الظواهر التي لوحظت سقوط كل المرشحين من عائلة الرئيس حسني مبارك في المنوفية، بينما فاز شقيقان من أبناء شقيق الرئيس الراحل أنور السادات- والطريف أن عدداً من قيادات الحزب تحالف مع مرشحي الإخوان أو على الأقل ترك لهم الفرصة للفوز في دوائره وهزيمة مرشح الحزب الآخر، وحدث ذلك مع رئيس مجلس الشعب الدكتور فتحي سرور والمشرف على الحملة الانتخابية أحمد عز، مما يثير التساؤلات حول الإخلاص في التحالف بين مرشحي الحزب. خاض كل طرف الانتخابات بأسلوبه، ففي حين اعتقد الإصلاحيون في الحزب الوطني بأن التخطيط الجيد لا بد أن يثمر عن تنفيذ جيد، نجد أن ذلك لم يحدث في الواقع، فمستوى التخطيط داخل مقر الحملة الانتخابية للحزب كان متميزاً، لكن الواقع كان مختلفاً. ذلك أن سياسات حكومة الحزب أضرت بالحزب وحملته- والعمال الذين طردوا من مصانعهم بسبب سياسات الخصخصة كانوا ضد الحزب، والفلاحون الذين ارتفعت أسعار مستلزماتهم الزراعية كانوا ضد الحزب، والمثقفون الذين يتجاهلهم الحزب ويركز على رجال الأعمال كانوا ضد الحزب. وفشل"الوطني"ايضاً في إنشاء إعلام يبرر سياساته لأنه ارتكن إلى إعلاميين يسعى كل منهم إلى تحقيق مكاسب شخصية وهم ليسوا حزبيين حقيقيين، كما أن الخطاب السياسي والانتخابي للحزب لم يصغ بطريقة تتناسب مع عقلية المواطن المصري، وإنما كان متضمناً لهجة متعالية ونبرة لا تتفق وحزب يسعى لإقناع الناخبين ببرامجه وأشخاص مرشحيه. زد الى ذلك أن الطريقة التي اختار الحزب مرشحيه وفيها من خلال المجمع الانتخابي، أثارت ضده أعضاءه الذين فقدوا الثقة في طريقة الاختيار ونزاهة القيمين عليه، وبالتالي انقلبوا ضد الحزب. وكثيراً ما تحالف أعضاء الحزب في دوائر عدة مع مرشحين مستقلين منشقين عن الحزب أو مع آخرين من"الإخوان"نكاية بقادة الحزب الكبار- وفي حين فشلت المعارضة في وضع أي خطط وتنفيذها خلال الانتخابات، ما عدا ما نشرته في صحفها تأييداً لمرشحيها، نجد أن المنشقين عن"الوطني"نجحوا في اكتساب تعاطف الناخبين، خصوصاً المتواصلين مع دوائرهم وأنصارهم، وبذلك حقق هؤلاء أكبر قدر من المكاسب وجاؤوا في المركز التالي بعد الحزب الحاكم، فحاول الحزب مرة أخرى التصالح معهم بعد فوزهم وسعى بكل قوة إلى ضمهم، لدرجة أنه ضم بعضهم غاصباً بأن دفع لجنة الانتخابات إلى إصدار تصريحات وبطاقات تؤكد أن هؤلاء المستقلين من أعضاء الحزب الوطني، وهي ظاهرة سخيفة، تدل على تخبط قيادات الحزب وسعيهم إلى تحقيق غالبية الثلثين في المجلس بأي وسيلة، حتى ولو بالسطو على مقاعد كانوا نبذوا أصحابها. أما"الإخوان"، فأعدوا أنفسهم لكل الاحتمالات من خلال خطة مدروسة، فهم لم يترشحوا في كل الدوائر تجنباً لاستفزاز الحكومة، كما رفعوا شعار"مشاركة لا مغالبة"كي يؤكدوا أنهم لا يستهدفون هزم الحزب الوطني، وإنما توسيع دائرة المشاركة معه. وواجه"الإخوان"كل الوسائل التي تهدف إلى منعهم من الانتخاب، فإذا منعت الشرطة المرشحين الملتحين من الانتخاب، سارع هؤلاء الى حلاقة لحاهم، وإذا منعت السيدات المنقبات أو المحجبات من التصويت سارعن الى كشف وجوههن وارتداء الملابس العصرية، وإذا منعت الشرطة الخطاطين من كتابة لافتات مرشحي"الإخوان"سارعوا إلى تخصيص عدد من أعضاء الجماعة من أصحاب الخطوط الجميلة لكتابة اللافتات. وإذا استخدم مرشحو"الوطني"أو المستقلون العنف أمام اللجان رد"الإخوان"بالعنف، بل واستخدموا بعض أساليب النظم الشمولية في الحشد، فنظموا المسيرات الضخمة التي ردد أعضاؤها الهتافات الدينية المؤثرة مما جذب إليهم العديد من الشباب والبسطاء. ومن أهم العوامل التي ساعدت"الإخوان"أنهم رشحوا أشخاصاً لا غبار عليهم، بخلاف مرشحي"الوطني"الذي لم يفطن إلى وعي الناخبين، فرشح من تدور حولهم الشكوك- وصمم"الإخوان"على الترشح في الدوائر التي يشغل مقاعدها رموز حزب التجمع الذي يناهض الإخوان في كل الساحات، ونجح مرشحو"الإخوان"بشكل مباشر أو غير مباشر في إسقاط زعيم الحزب خالد محيي الدين ونائب رئيس الحزب أبو العز الحريري وكذلك النائب اللامع لثلاث دورات ماضية البدري فرغلي، رداً على ما يقوم به الحزب ضد"الإخوان". صحافي مصري متخصص في الشؤون البرلمانية.