شكّل فشل عملية أوسلو في مخاطبة الرأي العام بشكل كافٍ أحد الأسباب الرئيسيّة لانعدام الثقة، والذي أدّى في النهاية إلى فشل محادثات كامب ديفيد وتجدُّد العنف في أيلول سبتمبر 2000. في الوقت الراهن، يقع الرأي العام الإسرائيلي أسيراً لموضوع الأمن، لكن الأمن الحقيقي لن يأتي إلا مع السلام الحقيقي، والذي يتضمن بالضرورة دولة فلسطينيّة ذات سيادة، قادرة على البقاء أي ذات حدود متصلة وغير مقطعة. عندما يرى الرأيان العامان على الجانبين أنهما بحاجة إلى الأمن، وأن كلاً منهما بحاجة إلى دولة، يصبح السلام ممكناً. وحتى يتسنّى لعملية السلام النجاح، يتوجّب تشجيع الرأي العام لرؤية واقع ما يحدث في المجتمعين، وللتواصل مع الآخر مرّة أخرى بوصفه بشراً. الرؤى الخاطئة لدى كل من الطرفين الآن عن الطرف الآخر هي المسيطرة على ما يبدو، وهي بالتالي تطيل أمد الإستقطاب والشعور بموقع الضحيّة وانعدام الأمن. الرأي العام السلبي على الجانبين، الذي يفاقم مشاعر الخوف والحقد يصبّ في طاحونة النزاع ويطيل دائرة العنف، على كل من مستوى القاعدة والقيادة. لكن من ناحية أخرى، يمكن لرأي عام، في هذه المنطقة الصغيرة المتفجّرة، يفضّل حلاً عادلاً للنزاع، أن يساعد على دفع القيادة السياسية باتجاه اتفاق سلام. وإذا أخذنا بالاعتبار ميزان القوى الذي يميل بشدّة لصالح إسرائيل، فإن الرأي العام الإسرائيلي هو أحد مفاتيح السلام. وأحد المفاتيح الرئيسية للرأي العام الإسرائيلي رؤيته للرأي العام الفلسطيني. وحتي يتسنّى للرأي العام الإسرائيلي أن يميل باتجاه السلام لا بد له أن يقتنع بأن هناك رغبة حقيقيّة وصادقة للسلام عند الشعب الفلسطيني. وحيث أن القيود على الحركة في الضفّة الغربية وغزة تمنع الإتصال بشكل فاعل بين الطرفين، باستثناء الأكثر تصميماً من الفلسطينيين والإسرائيليين، فإن للإعلام دوراً حاسماً في نشر وجهات النظر والتأثير في الرأي العام في هذا النزاع. عندما يكون كل ما يقرأه أحد الأطراف هو البيانات الغاضبة للطرف الآخر، أو حتى عندما تقدَّم البيانات العقلانية بأسلوب غاضب أو تهديدي، فإن الخوف والاستقطاب يزدادان. بيانات الفلسطينيين في غزة عن"السنة القادمة في الضفة الغربية"جرى تصويرها على أنها تهديدية، بينما كان يمكن تقديمها على شكل مؤشّرات مفعمة بالأمل بتسوية سلمية حقيقية. ففي نهاية المطاف، هذه الشعارات لم تكن"السنة القادمة في تل أبيب"، وكانت إلى درجة كبيرة ضمن حدود"خريطة الطريق". تستطيع الصحافة الإسرائيلية أن تركّز على حماس، أو بإمكانها أن تذكّر جمهور قُرّائها بأن الرئيس الفلسطيني انتخِب على أساس توجّهه نحو السلام، وبأنّه خلال السنتين الماضيتين، كانت أحاديثه وتصرّفاته مضادة للعنف بشكل ثابت. الإنتخابات الفلسطينيّة أظهرت أن الرأي العام الفلسطيني يساند بقوّة العمليّة السلميّة. هذه بالتأكيد فرصة للعمل من أجل سلام شامل طويل الأمد وليس فقط من أجل انسحاب من غزة. إذا أمكن تشجيع الرأي العام على رؤية ليس فقط آلام إخراج المستوطنين من غزة، وإنما على إمكانية متاحة لحياة أكثر انفتاحاً وأكثر أمناً وأقل خوفاً على حياة البشر من خلال فك الإرتباط، وذلك كخطوة أولى، بحيث يمكن للرأي العام، وكذلك القيادة الفلسطينية، أن تشعر مرة أخرى بأنها شريك في عمليّة سلميّة، بدلاً من الشعور بأنهما ضحايا للإنسحاب من طرف واحد. أحد أجزاء الدائرة المفرغة للنزاع هو أن الخواص السلبيّة مثل العدوان يمكن عكسها بسهولة على الآخر وبالتالي زيادة الإستقطاب وإضفاء الشيطانيّة على الغير نحن جميعاً جيدون، والآخرون جميعاً شياطين، بينما يتراجع الطرفان إلى عقليّات المجموعات المحصنة. هذا الإستقطاب ينعكس بصورة مضخّمة في الرأي العام، مما يجعل الأمر أكثر صعوبة للأفراد على أيٍّ من الطرفين لرؤية بعضهما بعضاً كبشر، وبالتالي كشركاء محتملين في السلام. لذا فإن أحد المتطلّبات المسبقة للسلام تجاوز المرآة وإعادة الرأي العام إلى الواقع بعيداً عن الإسقاطات والإنعكاسات. الواقع هو أنه منذ 2003، ثبت أن الرأي العام على الجانبين أكثر من 72 في المئة يفضّلون السلام على نفس الأسس تقريباً ? على حدود 1967 مع التشارك في مدينة القدس... الخ. إلا أن العثرة الرئيسيّة هي النظرة إلى الرأي العام على الطرف الآخر. والمجتمع الفلسطيني تعرّض لعمليّة تغيّر عبر السنوات القليلة الماضية. هناك اهتمام واسع جدأً باللاعنف، ولكن كم من الناس، وبالذات كم من الإسرائيليين، يدركون ذلك؟ تأثير الصورة النمطيّة السلبيّة لجميع الفلسطينيين كعنفيين هي إحدى نواحي التأثير الرئيسيّة على الرأيين العامين الاسرائيلي والعالمي الذي يؤيد إسرائيل بنسبة 4 إلى 1. إلا أن البيان الذي صدر عقب اغتيال الشيخ ياسين في آذار مارس 2004 والذي يهيب بوضع حدّ لسفك الدماء وينادي بمباشرة انتفاضة جديدة لاعنفيّة، والذي وقّعه ما يزيد على 150 من الشخصيات الفلسطينية البارزة التي تمثل التيار الرئيسي، هو نداء من قلب المجتمع الفلسطيني بإنهاء العنف، بما فيه العمليات الانتحارية بالذات. ومن الأهميّة بمكان أن العمليات الانتحارية توقفت لمدة ستّة شهور بعد صدور هذا البيان. كان من الممكن استخدام هذا النداء لإقناع الرأي العام الإسرائيلي بوجود شريك بالفعل، بل العديد من الشركاء في السلام. فمع هذه النظرة الجديدة الإيجابيّة للرأي العام الفلسطيني، كان من الممكن أن يكون هناك نداء رنّان للسلام من الإسرائيليين، يعطي الضوء الأخضر من الرأي العام على الجانبين للانطلاق لتحقيق تقدّم حقيقي نحو السلام. ويستطيع الإعلام، بل يتوجّب عليه، تصحيح الرؤى الخاطئة للرأي العام من خلال الكتابة عن الرغبات المشتركة بالسلام، وعن طريق تهدئة مستوى الخوف بدلاً من إثارته، وإضفاء المصداقيّة على الأصوات التي ترتفع ضد العنف واستغلال النزاع، وذلك بالدرجة الأولى عن طريق معاملة كل طرف للطرف الآخر كبشر بأساليب يستطيع الطرفان الإنصات جيداً لها. لوسي نسيبة هي مؤسِّسة منظمة الشرق الأوسط للاعنف والديموقراطيّة ومديرتها. ينشر هذا المقال بالتعاون مع خدمة Common Ground الإخبارية.