نبيل جميل ليس مجرّد كاتب قصصي، أنّه خزّان قصّ بلا نهاية. بإمكانه أن يحوّل أيّ شيء، مهما كان بسيطا، إلى قصّة. كاتب يحيا قصصه، يحاورها، يتنامى معها، مصغيا إلى عمق الوجود في حيوات أبطاله، الواقعية لديه جسر لتناول استبطاني يتعمّق الواقع ويسبر أغواره، يذكّر الناس بروح البصرة، بذلك النّقاء الرّائع المقترن بالحزن الشفّاف. يرسم كما يقول عنه صديقه سلمان الشّهد صورة العراق. تعرّفت عليه من سنوات، كتب عن كتابي الشعري الثالث في جريدة تونسية دون أن يعرفني، وهو منذ ذلك الوقت يلتقط عبر نصوصه النّقدية أصواتا من العالم العربي ويحاول تقديمها للمشهد الثّقافي العراقي. نشر كتابين فقط، لكنّه يحتفظ بكتب أخرى مخطوطة ممّا يجعلنا نقول بكلّ وضوح أنّ نبيل جميل صوت مختلف في القصّ العربي، معبّأ بإرث سرديّ كبير ومنفتح على آداب العالم، وهو مع كلّ ذلك عميق الصّلة لا بالمشهد الأدبي العراقي فقط، بل أيضا بالمشهد الثقافي العربي. فيما يلي شهادة حول أدبه وحياته اخترناها من حوار قمنا به معه، نقدّم في خاتمته نموذجا من أقاصيصه. عتبة مكرّرة نبيل جميل كاتب وقصاص عراقي وناقد متميّز للشعر والنّثر، من مواليد البصرة 1967، ينشر أعماله من سنوات داخل العراق وخارجه، فاز بعديد الجوائز، وأصدر كتابين في القصة القصيرة وهما حارس المزرعة والصعود إلى الأسفل، وله عدد من الكتب التي تنتظر الطبع، مهتمّ بالكتابة اهتمام حياة أو موت، وهو «محارب قديم» ومجرّب وشاعر مختفٍ في ثوب القصّاص. جمله مداورة ثرّة عبقة بمخزون قرائي عراقي وعربي وغربي قلّ أن نجده عند كاتب آخر من جيله، قصّته القصيرة مكتنزة ومعبّأة بالحياة العميقة وليس بتلك الظلال التّي تحيط بنا، ومقالاته النّقدية تشي بإنسان متمرّس له رأي درّبه طيلة سنوات وسنوات على قول ما يعتقد أنّه الحق، في هذا الحوار الذّي أخذنا منه هذه الشهادة هناك ألم عاتٍ ممضّ، وخوف، ورجل يرغب في مراجعات لحياته التّي لم تكن ربّما مثلما يريدها، لكن.. ونحن نقرأ له نعرف أنّ يده وهي تمسك القلم تعرف أنّ فيه حياة ما، وأنّ شخصا ما ربّما أمسك بتلابيبها، وعرف طريقه منها. وهو بعد ذلك شخص معطاء ومحبّ للنصوص الجديدة ولا يهتمّ بالأسماء المشهورة، يحدب عليها ويدأب في محادثتها والإصغاء إلى روحها ومستقبلها مشيرا إلى مواطن الجمال ومبيّنا في رفق الجوانب التّي تحتاج إلى التطوير، ربطت بيننا صداقة عميقة من أكثر من عشر سنين ولكنّنا لم نلتقِ، لحكمة ما لم نلتقِ. ولكنّنا نشترك عميقا في البحث عن حياة أفضل وعن نصّ مختلف متنطّع عن ثقافات الموت والغيبة والغياب. في القلب غصّة منذ البدايات، كان الشعور ينتابني في كيفية أن أصبح كاتبا معروفا، لحظتها وبصراحة لم أفكر بالمغامرة، ربما من فكرة ما، أو حدث، أثّر في حياتي، شعرت بذلك وأنا أقرأ روايات أجاثا كريستي ونجيب محفوظ، كنت مولعا بالحكايات أتصورها في ذهني مثل شريط سينمائي.. لم أفكر كيف أن هؤلاء الكتاب وغيرهم أصبحوا من المشاهير، لم أتقن عملية الغوص في الجهد الذي بذلوه، استسهال عملية الكتابة! كنت أراها مجرّد حكايات وبإمكان أي إنسان أن يكتبها، طفولة مضبّبة، رمادية، ما بين قسوة معلّم المدرسة وعصا الأب وكذلك تابو المجتمع الذي شكل عندي هاجسا مقيتا منذ بلوغي فترة الصّبا، صار العناد والتّزمّت بالرأي صفتين ملاصقتين بي، وكل هذا أتى من شخصيات الروايات الحالمة بصناعة مجتمع يؤمن بالإنسان والحب والجمال. ثم انتقلت الى دواوين الشعر وبلا دراية كنت أقرأ كل ما يقع تحت يدي، حتى أنني وفي يوم ممطر تركت الامتحان النهائي للمرحلة الثانية من تعليمي الثانوي وذهبت للجلوس تحت تمثال الشاعر بدر شاكر السياب، وهناك تخيلت جنازته تحت المطر، حدثت أمي عن هذا الأمر فضربتني بالحذاء على رأسي. التقيت بعدد من الأصدقاء، محبي الأدب والثقافة، وكان التأثير كبيرا عليَّ، وهذا ما جعلني وايّاهم نمارس طقوس الكتابة، نقرأ لبعضنا وننتقد بعضنا، ثم بمرور السنين تجرّأنا وراسلنا عددا من الصحف المحلية، ويا للمفاجأة، أنها فرحة عارمة، قصائدنا منشورة، طرنا من الفرح ورحنا نتساءل عن طريق اتحاد الأدباء، كل هذا أتى بمجهود فردي ولم يشجعني أي أحد من العائلة. في عام 1986 فشلت للمرة الثانية في اجتياز المرحلة الثانوية وكل هذا بسبب الاهتمام بقراءة الكتب الأدبية. تشتعل الحروب ويتولّد الفقر والتهجير والأمراض، وتمضي السنين دون قراءة أو كتابة، فالبحث عن عمل أجدى من الأدب. في بداية عام 2000 وجدت نفسي قريبا من كتابة القصة القصيرة، ورجعت إلى استعارة الكتب من الأصدقاء، اهتممت بالقصة وقوانينها، وقررت أن اصبح كاتب قصة قصيرة. تعبت كثيرا وتشاجرت مع العائلة، تركت المنزل واستأجرت غرفة نتنة في فندق رخيص، وهناك أنجزت مجموعتي القصصية الأولى (حارس المزرعة). تم الاحتفاء بي في اتحاد الأدباء، لحظتها شعرت بأنني حققت الطموح بأن أصبح كاتبا حقيقيا. إنها انتقالة جديدة وضعتني في سلّم الثقافة ووجب الحفاظ على هذا الإنجاز والسعي إلى الامام، أكثر من عشر دراسات كتبت عن مجموعتي الأولى وهذا يعتبر تشجيعا وتحفيزا مميزا، لكنني تحققت بأن القرّاء أكثرهم من الوسط الأدبي، ما عدا القليل من الأصدقاء والأقرباء، أكثر شيء آلمني هو بعض الأقرباء الذين اتهموني بالابتعاد عن القضايا الدينية وأن الكتابة لغير مواضيع الإسلام هي من البدع والضلالة! في القلب غصّة، وحسرات متوهجة مثل الجّمر، وفي الذهن آلاف من علامات الاستفهام تجاه هكذا مجتمع متخلف. الأدب لا يستحق أعمارنا إن ما أنجزته لا يفي بالغرض المطلوب، مقارنة مع أقراني، لذلك لم أحقق ما كنت أطمح إليه، في داخلي المئات من المواضيع والقصص والأفكار، وعشرات الكتب التي أتمنى أن أكتب عنها قراءات نقدية، أساتذتي في الكتابة يقولون ليس بزيادة أعداد الكتب الصادرة يتم تسمية الأديب وإنما بالنوع، وفي خضم هذا وذاك أجد نفسي مقصّرا تجاه موهبتي، وكسولا، ومن الأساتذة من يردد بأن هناك أسماء شابة جديدة تكتب أفضل من الكبار، لكن الطباعة المكلفة وسوء التوزيع هو من جعلهم مغيبين عن الساحة الثقافية، ربما الظروف هي السبب، الحروب والسلطات الطائشة في الحكم، هذه المصاعب وغيرها جعلتني أفكر بأن الأدب لا يستحق أن نعطيه من أعمارنا، ربما يتفاجأ القارئ لمثل هذه المقولة، وأقول له: عفوا أيها العزيز أرجو ألا تأخذك الأحلام بعيدا حول الأديب فهو بشر ويتأثر لأدنى الأشياء ويهتز، فهناك من انتحر وهناك من فضل ترك الكتابة، نحن الآن نواجه عقولا مختلفة عن العقول السابقة، ربما قبل (40 أو 50) سنة كانت الأمور تختلف عما هو عليه الآن، فرغم قسوة الأنظمة وحالات الفقر إلاّ أن الكتاب كان رفيق الدرب، واليوم تحول هذا الرفيق إلى بندقية ويا للعجب، السياسة تغلّبت على الثقافة، غيّرت مفاصل الحياة، وأصبح المثقف العدو الأول للسلطات، فلو أجرينا من خلال شبكة الإنترنت بحثا عن الأسماء المغيبة وراء الجدران عن الأدباء والأديبات، لوجدنا المئات من الأسماء المهمة، هذا غير الذين فضلوا الهجرة عن وطنهم الأم. الأدب خوف دائم بالنسبة لحياة الأديب لا أراها بعيدة عن أدبه، ذلك لأنه يعيش في جوّه الخاص رغم حياته العامة، إلى أن يكتمل ما بدأه من كتابة، تراه حالما بعيدا، يصارع منغصات العمل وإرهاق الأسرة وتربية الأطفال، دائم التفكير بمنجزه الأدبي، يكابد ويصارع ويحترق، حتى تأتي لحظة النهاية المقنعة لديه، فالأدب عنده مثل كريات الدم الحمراء، في حراك دائم وتجدد، هذا من ناحية العلاقة الروحية أما من ناحية الحياة العامة فأرى بأن الأدب يشكل خوفا دائما، خوفا من الأديب على هجر الموهبة وما أحبب من ممارسة للكتابة والقراءة، وخوفا آخر على ضياع ما يكتبه وسط همجية العقول التي أخذت بالازدياد في ظل ما يسمى ب (الربيع العربي). إن إفراغ الأديب لما في داخله على الورقة هو ليس هروبا كما يدّعي العديد من الباحثين في هذا المجال، بل هي حالة صحية لنقل معاناة واقع بأكمله، وأنا اشبّه الأديب بعود البخور الذي يحترق من أجل انتشار العطر للآخرين، أو هو الشمعة التي تذوب وتتلاشى من أجل إنارة الطريق للآخرين. (الحياة نهر يجري بعيدا عن الإبداع الذي نكتبه) كيف يكون هذا والأدب إنساني بالصميم. استبدل رغيف الخبز بكتاب لا بد للأديب أن يضع في الحسبان مدى تقبّل مشروعه الأدبي، وما نسبة النجاح والفشل فيه. من جانبي فأنا أقرّ وأعترف بأنني فشلت في كتابة الشعر، بصراحة هي عدّة خيبات، لكنني وبإصرار واصلت القراءة ولم انقطع، لأجد نفسي في سرديات القص، والكتابات النقدية، فهذا المجال أعطاني حرية أكبر في إكمال المشوار، لم أيأس. بصورة عامة ومثل ما هو معروف من أن الأدب رسالة لذلك فعلى الذين لا يستطيعون حملها عليهم ترك الساحة فورا والذهاب لفتح دكانة بقالة، لقد جاهدت كثيرا وخضت مجبرا عدّة حروب وويلات حصار اقتصادي مميت اضطررت فيه إلى بيع مكتبتي مثل العديد من الأدباء، لكن الإصرار على النجاح كان مثل الجنين ينمو في داخلي، ينبض، يتحرك، يقفز، يود الخروج ليقول للناس لا تيأسوا مهما كانت الظروف استثمروا كل قواكم من أجل الوصول للغايات وستجدون بأنكم أكبر وأقوى، وهذا ما عملت عليه، استبدل رغيف الخبز بكتاب والعكس صحيح، لكنني لا أدري لماذا ينتابني ذلك الهاجس الشيطاني وهو لو أنني لم أختر طريق الأدب لكانت حياتي أفضل الآن. الكتابة محنة أعتقد أن أي كتابة وفي أي موضوع يجب أن تتم وفق نظام معرفي هادف، فلا بد من تخطيط وتركيز في كيفية الإيصال وتقبّل ردة فعل القارئ، أنا لا أعمّم، فلكل كاتب طقوس وآليات خاصة به، وبما أن الحديث هو عن الكاتب الحقيقي لذا وجب أن يتضمن الجواب وفق تحليل وتوقّع وتنظيم، أي مرحلة التأليف وإتقان الأسلوب بعدها عملية النقد من جانب الكاتب نفسه والمقارنة بإنجازاته السابقة، ثم التصحيح، وكل هذه تتطلب جهودا جبارة، ينسلخ فيها الكاتب عما تشبّع به من الواقع، وتأكيدا هي عملية انشقاق ثم التصاق، فالأديب يتكلم باللهجة العامية لبلده ويفكر بها لكنه عندما يكتب يحتاج إلى اللغة الفصحى الأدبية، إذًا، هي عملية أشبه بولادة جنين، مؤلمة، وما أن ينجز مادته حتى يدخل في عملية أخرى وهي الإفاقة وتقبّل هذا المولود. (إلحاق قطيعي) ربما ينطبق هذا القول وربما لا، مادامت هناك قدرة على المواصلة. وتبقى الكتابة محنة ما بين التصالح مع الذات أو البحث عنها في ظل الإخفاقات والانكسارات المتلاحقة في حياتنا.