عندما أدى الرئيس الفلسطيني الجديد محمود عباس اليمين الدستورية، أعلن تمسكه بقيام دولتين جارتين، وحل عادل لقضية اللاجئين. ثم خاطب الإسرائيليين في الجزء الثاني من خطاب أداء القسم قائلاً:"نحن شعبان كُتب علينا أن نعيش جنباً إلى جنب وأن نتقاسم الحياة على هذه الأرض. فلنبدأ في تطبيق خريطة الطريق كي ننهي إلى الأبد الصراع التاريخي بيننا وبينكم". ولكن ارييل شارون لم يجد في هذه الدعوة النص المتعلق بمكافحة الإرهاب، لذلك طلب تجميد الاتصالات مع الرئيس عباس إلى أن يقوم بتحرك حازم ضد المجموعات المسلحة. ثم ارسل مدير عام الخارجية رون بروسور إلى القاهرة لشرح قرار تجميد الاتصالات مع المسؤولين الفلسطينيين. كذلك أوصى سفيره في واشنطن على حث الإدارة الأميركية على مقاطعة الرئيس عباس والامتناع عن استقباله في البيت الأبيض. ردت القاهرة على الموقف السلبي الذي اتخذه شارون بالقول إن اطلاق عملية السلام يحتاج إلى قرارات ايجابية تشجع على مواصلة الحوار والتنسيق. وحذر المبعوث الأميركي السابق إلى الشرق الأوسط دنيس روس، من مخاطر قطع الاتصالات مع"أبو مازن"، لأن ذلك يضع الرئيس الجديد أمام أزمة مبكرة. وقال إن المرحلة الجديدة تقتضي مساعدة الفريقين على تخطي الصعوبات التي تفرضها العناصر المسلحة. وكان بهذا التلميح يشير إلى دور المشاركة في صنع السلام. أي المشاركة التي تحدث عنها محمود عباس عندما دعا شارون إلى انهاء عمليات الاغتيال والحصار والاعتقالات ومصادرة الأراضي وبناء جداء الفصل وتدمير المنازل. وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس أعلنت عن رغبتها في البحث عن سلام الشرق الأوسط، مشيرة إلى أن الجهد الأساسي بهذا الشأن ينحصر في استعداد الفلسطينيين والإسرائيليين للتوصل إلى حل. وهي ترى أن التطورات الأخيرة ساهمت في احياء الديبلوماسية الأميركية المجمدة منذ وقت صويل. وهي تتوقع أن تنجح في مهمتها بعد إعادة انتخاب الرئيس بوش ورحيل ياسر عرفات وتعهد شارون بالانسحاب من غزة وتفكيك المستوطنات فيها. وتزعم رايس أن رئيس السلطة الفلسطينية الراحل ياسر عرفات منع تحقيق أي تقدم في هذا المجال بسبب تشجيعه العمليات الانتحارية ورفضه شجب الإرهاب. وقالت إنها تتوقع من خلفه الرئيس محمود عباس القيام بخطوة جريئة لمحاربة العنف. كما تتوقع من الحكومة الإسرائيلية اعتماد سياسة مرنة تساعد الولاياتالمتحدة على معالجة الوضع العراقي المتفجر. من أجل تحقيق هذا الهدف، باشر الرئيس الفلسطيني الجديد مهماته بالعمل على وقف الهجمات المسلحة ضد المواقع الإسرائيلية، ووعد قادة"حماس"و"الجهاد الإسلامي"وكل الفصائل بالتشاور قبل اتخاذ أي قرار بشأن الهدنة المقترحة. ثم ناشد زعماء الانتفاضة وقف اطلاق الصواريخ على المستوطنات اليهودية لأن شارون يضع هذا الشرط كمقدمة للعودة إلى طاولة المفاوضات. وتوقع أبو مازن أن تمنحه فصائل المقاومة فرصة التهدئة، خصوصاً أن برنامجه الانتخابي وعد بتحريك المفاوضات المجمدة. ولقد دلت النتائج إلى أن غالبية المقترعين له، أيدت موقفه من دون تحفظ. ويبدو أنه استعان بالأرقام والمعلومات الموثقة لدعم وجهة نظره. ويذكر تقرير مركز المعلومات الوطني أن 950 فلسطينياً قتلوا بنيران قوات الاحتلال السنة الماضية، في حين قتلت هجمات الفلسطينيين 118 إسرائيلياً. ويشير التقرير إلى أن الاعتداءات أدت إلى جرح 5965 فلسطينياً، وألحقت الضرر ب9387 منزلاً بينها 2366 مسكناً دُمرت تدميراً كاملاً. كما اقتلعت 295.098 شجرة وعطلت آلاف الأمتار من شبكات الري. وفي نشرة رسمية قدم وزير شؤون المفاوضات صائب عريقات تقريراً إلى المجلس التشريعي، جاء فيه أن حجم الأضرار التي لحقت بالمنشآت والمباني والطرق بلغ 475 مليون دولار خلال السنوات الأربع للانتفاضة. ويقول التقرير إن قيمة الأضرار التي لحقت بالطرق زادت على 130 مليون دولار، إضافة إلى 65 مليون دولار قيمة أضرار المنشآت الأمنية. بناء على هذه المعطيات، يسعى أبو مازن إلى إعلان هدنة موقتة يوافق عليها الفريق الإسرائيلي، لعل ذلك يفتح ثغرة من الأمل في جدار المفاوضات المجمدة. وفي تصوره ان الحوار مع شارون قد يدفعه إلى تقديم تنازلات يصعب الحصول عليها بواسطة الصواريخ، لأن ميزان القوى يميل لمصلحته. ويعترف محمود عباس بأنه أيّد الانتفاضة الأولى معتمداً على نتائج المقاومة الجزائرية في تحقيق النصر والاستقلال، ولكنه بدّل موقفه بعدما رأى قوات الاحتلال تواصل عدوانها على الشعب الفلسطيني بطريقة الإبادة الجماعية التي مورست على الهنود الحمر في أميركا. وعليه قرر تغيير أسلوب الضغط على إسرائيل لايمانه بأن الهدف المنشود يصعب تحقيقه بواسطة العمليات الفدائية. وكي لا يُحرج الفصائل المقاتلة، قرر الرئيس عباس إعلان الهدنة باسم السلطة لا باسم المقاومة. ومعنى هذا أن تعهدها لا يصب في مصلحة إسرائيل، بل في مصلحة المؤسسات الرسمية الفلسطينية. وهكذا يصبح هذا التعهد جزءاً من برنامج سياسي وطني شامل. في ردها على هذا الطرح، تتخوف فصائل المقاومة من توفير الفرصة اللازمة لاستكمال عمليات الضم والقضم. وهي ترى أن عدم ايفاء إسرائيل لتعهداتها بتجميد البناء في مستوطنات الضفة، أفضل دليل على تحويل جدار الفصل إلى حدود سياسية نهائية. ولقد دعمت موقفها المتصلب بتقديم وقائع وصور فوتوغرافية عن مشروع الشارع رقم 45 في القدس الذي يربط السهل الساحلي غرباً بغور الأردن شرقاً. وذكرت صحيفة"هآرتس"في هذا السياق، ان شارون أرجأ موافقة حكومته على مسار الجزء الجنوبي من الجدار بسبب رغبته في ضم مستوطنات"غوش عتصيون"إلى إسرائيل، أي ضم الكتلة الاستيطانية الواقعة بين جنوبالقدس ومدينة الخليل. ويقول الخبراء إن الغاية من توسيع المدخل إلى مدينة القدس من عشرة كيلومترات إلى خمسة وعشرين كيلومتراً، هو فصل شمال الضفة الغربية عن جنوبها. وهكذا تتحول الأراضي الفلسطينية إلى ثلاث كتل سكانية متباعدة تربط بينها شبكة طرقات استيطانية تسهل مراقبتها بواسطة الحواجز الأمنية الإسرائيلية. وترى"حماس"أن غاية شارون من وراء تنفيذ هذا المشروع المريب هو تحقيق خطة"القدس الكبرى"واقصاء المواطنين الفلسطينيين من القدسالشرقية. ومع أن شارون ادعى بأنه أرجأ قرار تعديل الجدار إلى ما بعد الانتخابات الفلسطينية، إلا أنه في الحقيقة كان يراهن على الانتخابات الأميركية. ولقد أفرحه الرئيس بوش باختيار كوندوليزا رايس وزيرة للخارجية، لأن كولن باول لم يسمح بتمرير كل مخططات التهويد. ويستدل من افتتاحيات الترحيب في الصحف الإسرائيلية إلى أن الآنسة رايس تمثل خط الصداقة والتحالف الذي رسمه هنري كيسنجر ومادلين أولبرايت ودنيس روس. وواضح من شهادتها في جلسة الاستماع أمام لجنة الشؤون الخارجية، أنها مستعدة لضرب المقاومة الفلسطينية التي وصفتها ب"العصابات المتفرقة". ومثل هذا الوصف يسمح لإسرائيل بمواصلة عمليات التدمير بذريعة ضرب الإرهاب. كما يسمح لمحمد دحلان باستخدام الشعار الذي أطلقته رايس في مجلس الشيوخ بأنه يجب أن تكون في فلسطين"سلطة واحدة وسلاح واحد". ومعنى هذا أنها ستدعم سلطة محمود عباس وشرعية قواته فقط. قبل المباشرة في فتح الحوار الفلسطيني - الفلسطيني، وزعت"حماس"مشروع ميثاق شرف طالبت الجميع بالتزام بنوده. ويبدو أنها ارادت قطع الطريق على"أبو مازن"الذي أعلن تمسكه بثوابت ياسر عرفات. كما أرادت من جهة أخرى إلغاء اتفاق أوسلو وتحديد هوية العدو الصهيوني الذي اغتصب الأرض وطرد الشعب ونفذ الابادة الجماعية بحق المواطنين. إضافة إلى بنود أخرى تتعلق بدحر المحتل وتوفير الحماية بواسطة الوسائل العسكرية. وسط هذه المواقف المتعارضة يقف الرئيس الفلسطيني الجديد قلقاً، محتاراً مثلما وقف من قبله اسحق رابين الذي اختار أسلوب التفاوض واقلع عن"أسلوب تكسير العظام". ذلك أن شارون يطالبه بضرورة قمع الانتفاضة المسلحة كشرط لمواصلة الحوار مع السلطة، ولكنه في الوقت ذاته يرفض مبدأ حق العودة للاجئين، واعتبار الخط الأخضر حدوداً لدولة فلسطينية عاصمتها القدسالشرقية. من جهة أخرى، يطالبه زعماء الانتفاضة باعتماد سلاح المقاومة وسيلة مؤثرة لاسترجاع فلسطين. ويقول زعماء الفصائل الوطنية والإسلامية ان المفاوضات لن تؤدي إلى تغيير ثوابت شارون، بل إلى تغيير مطالب محمود عباس. على هذا التشكيك يرد رئيس الوزراء الفلسطيني أحمد قريع بالقول إن"خريطة الطريق"هي امتداد لاتفاق أوسلو لأنها تتحدث عن دولة فلسطينية وانهاء احتلال 1967 وحل عادل لقضية اللاجئين. وبحسب وعود الرئيس جورج بوش، فإن نهاية سنة 2005 ستشهد موعد إعلان دولة فلسطين، علماً أن بوش مدد فترة وعده وقال إنه يأمل بأن يرى ولادة الدولة الفلسطينية في نهاية ولايته الثانية. يقول دنيس روس في كتابه"السلام المفقود"إن محمود عباس شدد اثناء مفاوضات"كامب ديفيد"على أهمية دعم الرئيس بيل كلينتون لقرار حق العودة. وأجابه كلينتون بأن إسرائيل ترفض تطبيق هذا القرار إذا لم تعرف مسبقاً ما هو الثمن الذي سيدفعه الجانب الفلسطيني، وما هي الضمانات الملموسة التي سيحصل عليها ايهود باراك. واستخدم في هذا السياق مثل الشخص الذي يقفز عن علو شاهق مستخدماً الحبل المطاطي. وقال لعباس إنه لا يجوز مطالبة إسرائيل بالقفز إلى المجهول إذا كانت الهوة أعمق من طول الحبل. وتدل المؤشرات السياسية إلى أن الرئيس أبو مازن سيقفز إلى"الهوة"ولو أن الحبل الذي وفرته الإدارة الأميركية سيكون أقصر بكثير مما توقع الفلسطينيون! * كاتب وصحافي لبناني.