يعزو المتخصصون في طب الشيخوخة معاناة المسنين وكبار السن الى نوعية الحياة التي يعيشونها ونظرة مجتمعاتهم الى هذه الحياة، فهي"خريف العمر"و"الأيام الأخيرة". انها نظرة نمطية لا ترى في الشيخوخة سوى الاستعداد البطيء للموت والاستسلام للنهاية. الشبان، وفق هذه النظرة، هم الذين يستمتعون بالحياة. أما المسنون فمحالون على التقاعد! المجتمعات الحديثة وثقافة هذه المجتمعات تحاول تجاوز هذه النظرة من خلال تحسين نوعية حياة كبار السن واعتبار الشيخوخة مرحلة مثل غيرها من مراحل العمر. صحيح ان الحماسة والفوران والحيوية تخف مع التقدم في السن، لكن ذلك يحدث عبر اكتساب الحكمة والميل الى التأمل والهدوء ومراكمة التجارب والخبرات. ولعل المشكلة تكمن في أن الحماسة وفورة الشباب أكثر إثارة للانتباه من حكمة الشيوخ وخبرتهم. يرى علماء اجتماع ان تدهور أوضاع كبار السن يبدأ حين يفقدون استقلالهم الاقتصادي وانتقال السيطرة على القرارات في شؤون العائلة الى الزوجة أو الى الأبناء، فيفقد المسن جزءاً مهماً من نفوذه مع خسارته لمورده المالي واستقلاله الاقتصادي. يصبح بالتالي وجوده ثقيلاً بسبب مرضه وضعفه وتضاؤل الحاجة المادية اليه وانشغال الأبناء بتكوين حياة خاصة بهم. وينشأ أحياناً صراع أجيال بين الآباء وأبنائهم الذين ينظرون الى آبائهم على أنهم"دقة"قديمة وأنهم يتدخلون في نظام حياتهم الجديدة وطريقتهم المختلفة في العيش، وهذا ما نراه مثلاً في صراع الحموات مع زوجات ابنائهن، وكذلك في رغبة بعض الآباء بإبقاء كلمتهم مسموعة حتى في ظل استقلال الأبناء عنهم. خصائص ممتعة في المجتمعات الحديثة والمدينية غالباً ما يتم التخلص من كبير السن إما بتركه وحيداً في البيت بعد زواج الأبناء والاكتفاء بزيارته من وقت الى آخر، واما بإيداعه دور المسنين والعجزة. ولذلك تكثر في المطبوعات والمنشورات الإعلانية للمدن الكبرى الإعلانات التي تطلب من يعتني بسيدة أو سيد مسن. أصحاب الإعلانات هم الأبناء بالطبع، انهم مجتمع العمل الحديث وثقافته التي تمجّد ساعات العمل الطويلة واستثمار الوقت والافادة القصوى من الامكانات الذاتية. ومن الطبيعي، بالنسبة الى هذه الثقافة، ألا يوجد وقت كاف للعناية بكبار السن، فهؤلاء أساساً خارج الصورة التي تظهرها هذه الثقافة وتتبناها. كبار السن والعجزة والمعوقون مطرودون خارج جنة"البزنس"الحديث وثقافته، بعد أن تم اقصاؤهم عن عالم الشباب المملوء بالحركة والمتعة والتنوع. ولكن في الوقت نفسه، يدعو الطب الحديث في هذه المجتمعات المسنين الى اعتبار الشيخوخة مرحلة طبيعية، ويجب الاستمتاع بها بصفتها فترة من العمر لها لحظاتها الممتعة. ثقافة المجتمع إذاً هي التي تحدد مكانة كبار السن وصورتهم. بعضهم قد يرى في شيخ مقبل على الحياة انه عجوز متصابٍ خصوصاً اذا كان الأمر يتعلق بامرأة... فالنساء يتحاشين أن تبدو على وجوههن وأجسادهن أعمارهن الحقيقية. عمليات التجميل وشد الوجه والتخلص من التجاعيد تهدف الى إخفاء آثار التقدم في السن وليس فقط الحصول على ملامح تتناسب مع مقاييس الجمال وال"لوك". وأخيراً دخل الرجال بقوة في هذا المجال ولم تعد العمليات مقتصرة على النساء فقط. هذه الثقافة التي تسود أكثر فأكثر تمجد الشباب الدائم والجمال وتقصي الشيوخ وكبار السن من المشهد. ولهذا يمكن أن يُنظر بازدراء ليس الى المتقدمين في السن بل الى الأقل عمراً ولكن المحافظين على مظهر قديم لا يساير الموضة السائدة. في المقابل نرى ان المجتمعات القديمة خصوصاً في الأطراف والأرياف متصالحة أكثر مع ثقافتها القديمة غير المعرضة لتهديدات الحداثة البعيدة. الشيوخ هناك ما زالوا رأس العائلة مهما كبر الأبناء وتفرقوا أو أبعدتهم حياتهم الخاصة عن آبائهم. اذ حياتهم تلك لا تختلف كثيراً عن الحياة التي يعيشها الآباء. كبار السن في هذه المجتمعات يحصلون على الاحترام والعناية والطاعة حتى حين يُقعدهم المرض أو تؤثر الشيخوخة على ذاكرتهم وقدرتهم على التصرف. في هذه المجتمعات قد يكون كبير السن طريح الفراش ولكن كلمة الأبناء لا تعلو على كلمته. لا توجد دورة عمل سريعة ومتوترة في المجتمعات القديمة والأرياف التي ما زالت بعيدة أيضاً عن الثقافة التي تروّجها العولمة وثقافات الشكل التي تتغير بسرعة تتناسب مع سرعة الحياة الحديثة نفسها. ويبدو أن الشيخوخة أيضاً لا تستطيع أن تندرج في الايقاع القاسي لهذه الحياة إلا بتحسين أنماط عيش كبار السن وسلوكهم ومحاولة حجز أماكنهم في صورة الحياة الحديثة.