نشرنا في العدد السابق المحاضرة التي ألقاها الدكتور ميسرة طاهر، الأستاذ بجامعة الملك عبدالعزيز عن عقوق الوالدين، والتي تعرض فيها عن حقوق وواجبات الأبناء على الآباء ثم تطرق إلى مشكلة عقوق الوالدين. اليوم ننشر المحاضرة التي ألقيتها عن تأثير الاضطرابات والأمراض النفسية والعقلية عند الآباء على حياة الأبناء. في البدء يجب الحديث عن أن الآباء والأمهات «الجد أو الجدة» عندما يكونون في صحة جيدة جسدياً ونفسياً وعقلياً فإنهم يكونون مصدر دعم كبير لأسر أبنائهم. فالجد والجدة كثيروا العطف والحنان على أحفادهما، ويشكلون دعماً نفسياً ومعنوياً للأحفاد، وكذلك يساهمون في تربية الأحفاد ومساعدة أبنائهم في تربية أولاد الأبناء، وكثير ما يسافر الوالدان ويتركان الأبناء في رعاية الجد أو الجدة «خاصة والدة الأم»، ويستمتعان بسفرهما لأنهما يعلمان بأن أبناءهما في أيد أمينة وتنتبه لهما أكثر من أي شخص آخر. المشكلة التي تواجه الأبناء هي عندما يمرض الوالدان سواء أمراض عضوية أو أمراض نفسية وعقلية.. عندئذ تواجه الأسرة الصغيرة مشاكل صعبة، وقد يؤثر هذا على مسيرة حياة الأسرة التي يوجد بها شخص مسن في حالة صحية غير سوية سواء كان ذلك عضوياً أو نفسياً وعقلياً. هذا الاضطراب الذي يعاني منه المسن، خاصة إذا كان والد أو والدة الزوج، فإنه يضع الرجل «الابن للمسن والزوج للمرأة التي تعيش معهم في المنزل» تحت ضغوط نفسية كبيرة وكثيرة، فربما رفضت الزوجة أن تقوم برعاية والد زوجها، وتطلب أن توكل رعايته إلى خادم أو ممرض وربما تكون أوضاع الأسرة الاقتصادية لا تسمح بذلك، فيقع الابن في دوامة من المعاناة، ونظراً لأنه ليس هناك دور لرعاية المسنين على مستوى عال أو حتى مقبول لكي يعيش بعض المسنين بقية حياتهم، وحتى لو كانت هناك بعض من هذه الدور التي ترعى المسنين فإن النظرة الاجتماعية لمن يضع والده تكون قاسية، لذلك قد يلجأ بعض من هذه الشريحة إلى أخذ الوالد أو الوالدة إلى أحد المستشفيات ويدخله ثم يتركه ولا يعود مرة أخرى لأخذه لذلك تواجه كثير من المستشفيات في المملكة من وجود مرضى يحتلون أسرة ليسوا بحاجة طبية لها، ولكن نظراً لأن هذا المسن ترك في المستشفى وليس لدى المستشفى أي عنوان لمن يعول هذا المسن أو رقم هاتف للاتصال بأهل هذا المسن، فإن إدارات كثير من المستشفيات تجد نفسها في موقف حرج حيث لا تستطيع اخراج مثل هذا المسن والذي ليس هناك سبب طبي يستدعي بقاؤه في المستشفى، سوى أن من يعيله لا يرغب في أخذه، وكذلك فإن الابن بالذات أو القريب الذي يعيل المسن قد يجد الطرق سدة أمامه، فالزوجة لا ترغب في وجود هذا المسن في المنزل وتهدد بترك بيت الزوجية إذا أحضر الزوج أمه أو أباه إلى المنزل مرة أخرى.. صحيح إننا مجتمع متماسك، ويلعب الدين دوراً رئيساً في حياتنا لكننا قطعاً ليس مجتمعاً مثالياً ولا نعيش في المدينة الفاضلة..! فعندنا عدد لا بأس به ممن تخلوا عن أقارب لهم بسبب الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي لا تساعدهم على أن يقوموا برعاية هذا المسن. إن هناك قفزة كبيرة في عدد كبار السن الذين يعيشون بيننا الآن، وذلك نتيجة تحسن الغذاء وتطور الرعاية الصحية. فقد رصدت الأممالمتحدة بأن هناك زيادة في عدد الأشخاص الذين تجاوزت أعمارهم الثمانون عاماً في الدول المتقدمة بنسبة 65٪ ما بين عام 1975 وعام 2000م، بينما كانت الزيادة في الدول النامية بنسبة 138٪، وذلك نتيجة التطور الصحي وتحسن الغذاء في هذه الدول. وتتوقع الأممالمتحدة «دراسة الأممالمتحدة، 1988م» بأن تكون نسبة الأشخاص الذين تزيد أعمارهم على الثمانين عاماً في عام 2020م أكثر من ثلاثة أضعاف الوقت الحاضر. وسوف يشكل المسنون الذين أعمارهم تزيد على الثمانين عاماً وكذلك الذين تزيد أعمارهم على المائة عام سوف يتضاعف عددهم عدة مرات في عام 2020. الشيخوخة: إن مرحلة الشيخوخة هي مرحلة طبيعية من مراحل الحياة، التي لا يمكن لأحد أن يتفاداها إلا إذا توفي مبكراً. والشيخوخة لا تعني فقط زيادة سنوات العمر، بل التغيرات الجسدية والنفسية والاجتماعية. وهناك بعض الصعوبة في تحديد السن التي يبدأ عنده اطلاق هذا المصطلح على الشخص..! فهل هناك عمر معين عندما يصل إليه الشخص يصبح شيخاً، أم أن هذه المرحلة تطلق على الشخص عندما تبدأ التغيرات على الإنسان حتى وإن لم يصل إلى سن كبيرة. هناك عمر وضعته الحكومة الأمريكية لتحديد السن التي يبدأ يطلق عنده سن الشيخوخة، وهو الخامسة والستين. هذا التحديد لبدء الشيخوخة هو تحديد إداري وسياسي أكثر منه أي شيء آخر. ففي الولاياتالمتحدةالأمريكية بعد سن الخامسة والستين يصبح المواطن شيخاً أو كبير السن، ويحق له الحصول على المساعدات الاجتماعية، وكذلك يحصل على التخفيضات التي يتمتع بها كبار السن وهي مساعدات جيدة وكذلك التخفيضات ذات أهمية كبيرة وتساعد في تخفيف معاناة المسنين، خاصة في بلد تقل فيه الروابط الاجتماعية بين أفراد الأسرة الواحدة، حيث يمكن للابن ألا يرى أباه لفترة طويلة، قد تمتد سنوات، لكن هذا لا يعني بعد بلوغ سن الخامسة والستين أو السبعين يبدأ الشخص بالشيخوخة، فهناك أشخاص بلغوا سن الثمانين وهم في صحة جيدة؛ جسدياً ونفسياً وعقلياً واجتماعياً. الاضطرابات العضوية عند كبار السن: مع الكبر في العمر ومرور السنوات خاصة بعد سن الستين يبدأ الإنسان في الضعف والوهن وقد تتدهور صحته بشكل كبير، وكلما ازداد العمر كثرت الأمراض وتراكمت على المسن مختلف الأمراض. ولعل من أبرز الأمراض التي يشكو منها المسن هي الاضطرابات في الجهاز الدوري، خاصة مرض ارتفاع ضغط الدم، وربما ضعف عضلات القلب مما ينتج حالات تسمى هبوط القلب الاحتشائي، أي ان القلب لا يعود يستطيع ضخ الدم بصورة تتناسب مع الحاجة التي اعتاد الجسم عليها، فتتراكم السوائل في الرئة ويصبح حالة المسن سيئة، حيث يشعر بضيق في التنفس، وعندئذ يحتاج إلى الدخول إلى المستشفى للرعاية الصحية. وكذلك هنالك عرضة عند كبار السن من الاصابة بالجلطات نتيجة لأمراض عضوية أخرى مثل السكر وارتفاع ضغط الدم، وإزدياد الدهون في الدم، فكل هذه الأمور تساعد على تكون الجلطات في القلب والدماغ مما يقود الى الشلل والتأثير على السلوكيات والحركة والمزاج. كذلك قد يعاني المسن من امراض في التنفس، خاصة اذا كان مدمناً للتدخين لفترة طويلة من عمره، في شيخوخته يدفع ثمناً باهظاً لما زرعه في سنين حياته الماضية. الحقيقة ان الامراض العضوية كثيرة ومتشعبة في الشيخوخة، وتؤثر بشكل سلبي على المسن وعلى من يعيش معهم. فكثير من الابناء لا يستطيعون رعاية ابائهم من الناحية الصحية، ويحدث كما ذكرنا في البداية من ترك الابناء لابائهم في المستشفيات الحكومية المخصصة لعلاج المرضى الذين يعانون من امراض حرجة تستدعي العلاج الطبي السريع، وليس تقديم الطعام والشراب والسكن لمن هم ليسوا بحاجة للعناية الطبية..!! أثر الاضطرابات العقلية والنفسية عند المسنين على ابنائهم: ايضاً مع التقدم في السن فإن نسبة الامراض النفسية والعقلية ايضاً تزيد، فالاكتئاب يزيد مع التقدم في العمر وتتضاعف نسبته مع مراحل الشيخوخة، وفي كثير من الاحيان فإن الاكتئاب في سن الشيخوخة لا يأتي بالاعراض التي تأتي في سن الشباب، فكثير من المسنين يأتون بأعراض جسدية وليست اعراض اكتئابية. المسنون عندما يصابون بالاكتئاب تصبح حياة الذين يعيشون معهم ويرعونهم في غاية الصعوبة ، فالأبناء لا يستطيعون تحمل الآباء الذين يعانون من الاكتئاب.. فالأمر مزعج جداً بالنسبة لهؤلاء الابناء او من يعيل هؤلاء المسنين. لذلك يجب تفهم حالة الابناء عندما يأتون مرافقين لابائهم وهم في حالة نفسية سيئة.. يجب ان ندرك ان الابناء وزوجاتهم ايضاً يعانون من صعوبات يجب تفهمها.. وان لهم حدوداً وقدرات بشرية لتحمل المشاكل النفسية والعقلية للمسن الذي يعيش معهم. لذلك يجب ان يتوزع الابناء مسؤولية رعاية المسن وان يأخذ الذين يرعون مسنين اجازة من رعايته. نأتي الآن الى واحد من الامراض المشتركة عقلية وعضوية ونفسية، وهو مرض العته (الخرف) او مرض الزهايمر وهو مرض كثير الانتشار بين المسنين وقد كتبنا عنه في حلقات سابقة من عيادة الرياض. مرض الزهايمر تبلغ نسبة الاصابة به في الاشخاص الذين تزيد اعمارهم عن 65 عاماً بين 5 الى 7٪ وفي الاشخاص الذين تبلغ اعمارهم اكثر من 85 عاماً فإن نسبة الزهايمر تبلغ حوالي 12٪. ومع هذا المرض تأتي اضطرابات سلوكية وعقلية مثل: الشكوك المرضية، الضلالات بالاعتداءات الجنسية، الهلاوس السمعية والبصرية وكذلك الصراخ، هذه الاعراض تجعل الحياة صعبة بالنسبة لمن يعيش مع كبار السن، خاصة في ضوء التغيرات الاجتماعية، وطرق بناء المنازل الحديثة التي تجعل من الصعب على الابناء تحمل الاباء عندما يكونون مصابين باضطرابات سلوكية وعقلية بسبب الكبر في السن، وكذلك انشغال الابناء والبنات في اعمالهم يزيد من صعوبة رعاية الوالدين، لذلك بدأنا نلاحظ ميل بعض الآباء الى العيش مستقلين عن ابنائهم، وان كانت الغالبية العظمى من كبار السن مازالوا يعيشون مع اقارب من الدرجة الأولى في المملكة حيث بلغت نسبتهم 94٪ بينما من يعيشون مع اقارب من الدرجة الثانية 3,2٪، حوالي 24٪ شكوا بأن ابنائهم لا يهتمون بهم، كذلك 41٪ شكوا من الوحدة (رسالة ماجستير عن الروابط الاسرية بمشكلات كبار السن، سميرة المشهراوي، جامعة الملك سعود 1998). ووجدت الباحثة في دراستها بأن هناك علاقة طردية بين سوء معاملة المحيطين بالمسن، والمشاكل النفسية التي يعاني منها واحساسه بالترابط الاسري. يجب ان ينظر الى هذه المشاكل التي تواجه المسنين في ضوء متغيرات في المجتمع تحدث بشكل متسارع، وفي هذه التغيرات يجب ان تقوم الجهات الحكومية وبالذات وزارة الشؤون الاجتماعية، التي يجب ان يكون لها دور في مساعدة الابناء الذين يرعون آباء كباراً في السن، لا يجب خلط المفاهيم بأن بناء دور للنقاهة لرعاية المسنين يشجع الناس على العقوق، فهناك مسنون ليس لهم ابناء وليس لهم من يرعاهم فهل نترك هؤلاء للمحسنين والجمعيات الخيرية؟ يجب ان يكون هناك دور فعال لوزارة الشؤون الاجتماعية، فبناء دور على مستوى جيد من حيث السكن والاثاث والعاملين به ممن يكونون مدربين على العناية بالمسنين. ان الوالدين يبقيان من اغلى الاشياء عند الانسان، وان طاعتهما ورضاهما يأتي بعد رضا الله، فيجب على الابناء ان يستغلوا فرصة وجود والديهم على قيد الحياة ليكونا سبباً في دخول الجنة. ان من ابغض الخصال لأي انسان هي العقوق وجحد المعروف، فكيف اذا كان هذا العقوق مع الوالدين فإنه أسوأ انواع العقوق والجحود ونكران الجميل. ان مشكلة رعاية المسنين مشكلة مزمنة، خاصة مع تزايد اعداد المعمرين، وتغير الحياة الاجتماعية، لا يجب ان نأخذ المشكلة بشكل عاطفي، بل يجب التفكير عملياً بحلول منطقية وعملية لرعاية المسنين الذين لا يوجد من يعيلهم، وان يكون ذلك بصورة لائقة تحفظ للمسن كرامته وانسانيته.