- 1 - مليح الأندلس أورد ياقوت الحموي في معجم الأدباء ترجمة أبي عمر، أحمد بن محمد، بن عبدربه، بن حبيب، بن حدير بن سالم القرطبي، مولى الإمام هشام بن عبدالرحمن، بن معاوية، بن هشام، بن عبدالملك، بن مروان، بن الحكم الأموي، وقال ياقوت: كنيته أبو عمر، ذكره الحميدي، ونعته الشاعر المتنبي بمليح الأندلس. وكان مولد ابن عبدربه في مدينة قرطبة حاضرة الأندلس في العاشر من شهر رمضان المبارك سنة 246 ه/ 29 تشرين الثاني نوفمبر سنة 860م، وقضى حياته في قرطبة، وتنقل في المدن الأندلسية، حتى وافاه الأجل في يوم الأحد 18 جمادى الأولى سنة 328 ه/ 1 آذار مارس سنة 940م. - 2 - شعر ابن عبدربه وعلومه قال الحميدي: وشعره كثير مجموع، رأيت منه نيفاً وعشرين جزءاً، من جملة ما جمع للحكم بن عبدالله الملقب بالناصر الأموي سلطان العرب، وبعضها بخطه، وكانت لأبي عمر بالعلم جلالة، وبالأدب رياسة وشهرة، مع ديانته وصيانته، واتفقت له أيامٌ وولاياتٌ لِلعلم فيها نَفَاقٌ، فتَسَوَّدَ بعد الخمول، وأثرى بعد فقر، وأشير بالتفضيل إليه، إلا أنه غلب عليه الشعر، ومن شعر ابن عبدربه السائر بين محبي الأدب قوله: الْجِسْمُ في بَلَدٍ والرُّوْحُ في بَلَدِ يا وَحْشةَ الرُّوْحِ، بَلْ يا غُرْبَةَ الْجَسَدِ إِنْ تَبْكِ عَيناكَ لِي يَا مَنْ كُلِفْتُ بهِ مِنْ رَحْمَةٍ، فَهُمَاْ سَهْمَانِ فِيْ كَبِدِيْ أحب ابن عبدربه الغناء والطرب في أيام شبابه، وذات يوم وقف تحت روشن لبعض الرؤساء، وقد رُشَّ بماءٍ، وكان فيه غِناء حَسَنٌ، ولم يعرف لِمَنْ هو، فقال: يا مَنْ يَضِنُّ بصَوْتِ الطَّائِرِ الْغرِدِ ما كُنتُ أحْسَبُ هذا الْبُخلَ في أحَدِ لَو أنَّ أسْمَاعَ أهلِ الأرْضِ قاطِبةً أصْغَتْ إلى الصَّوتِ لَمْ يَنْقُصْ وَلَمْ يَزِدِ لَوْلا اتِّقَاْئِيْ شِهَاباً مِنْكَ يُحْرِقنِيْ بنارِهِ لاستَرقتُ السَّمْعَ مِنْ بُعُدِ لَوْ كان زِرْيَاْبُ حَيًّا ثُمَّ أُسْمِعَهُ لَذابَ مِنْ حَسَدٍ أوْ ماتَ مِنْ كَمدِ فلا تَضِنَّ على سَمْعِي تُقلِّدُهُ صَوتاً يَجُولُ مَجالَ الرُّوحِ في الْجَسَدِ أمَّا النَّبِيْذُ: فإنِّي لَسْتُ أشرَبُهُ ولَسْتُ آتِيْكَ إلاّ كِسْرَتِيْ بِيَدِيْ ومن شعر ابن عبدربه الأندلسي في أيام شبابه: ودَّعَتْنِيْ بزفرَةٍ واعْتِناقِ ثمَّ نادتْ مَتى يكونُ التَّلاقِيْ؟ وَبَدَتْ لِيْ فأشرَقَ الصُّبحُ مِنها بَيْنَ تِلك الْجُيوبِ وَالأطواقِ يا سَقِيمَ الْجُفونِ مِن غيرِ سُقمٍ بَيْنَ عَينيكَ مَصْرَعُ الْعُشَّاقِ إنَّ يومَ الفِراقِ أفظعُ يومٍ لَيْتَنِيْ مِتُّ قبْلَ يومِ الفِرَاقِ ومن شعره في العِذار قوله: يا ذا الذي خَطَّ الجمالُ بِخدِّهِ خَطينِ هاجَا لَوْعَةً وبَلابِلا ما صَحَّ عِندي أنَّ لَحْظَكَ صَارِمٌ حَتَّى لَبِسْتَ بِعارِضَيْكَ حَمَائِلا - 3 - القصائد الممحصات وردت قصائد ابن عبدربه الأندلسي في كتب الأدب، وأورد هو قسماً منها في العقد الفريد، وقد جمعت تلك الأشعار في ديوان حديثاً، ونشرته دار الكتاب العربي في بيروت سنة 1414 ه/ 1993م، ويلاحظ أن لأبي عمر أشعاراً كثيرة، سَمَّاها الْمُمَحِّصَات، وذلك أنه نقضَ كُلَّ قطعة قالَها في الصِّبا والغزل، بقطعة في المواعظ والزُّهد بعدما أقلع عن صبوته، وأخلص لله في توبته، فاعتبر أشعاره التي قالها في الغزل واللهو، وعمل الْمُمَحِّصَات على أعاريضها وقوافيها في الزهد، ومنها القطعة التي قالها أيام شبابه في بعض مَن تألَّفه حينما أزمع على الرحيل في غداة عيَّنَها، فأتت السماء في تلك الغداة بمطرٍ جود، منعتْه من الرحيل، فكتب إليه أبو عمر ابن عبدربه: هَلاَّ ابتكَرْتَ لِبَيْنٍ أنتَ مُبتكِرُ هَيهاتَ يأبى عليكَ اللهُ وَالقدَرُ ما زِلْتُ أبكِي حِذَاْرَ الْبَينِ مُلْتَهِفاً حَتَّىْ رَثا لِيَ فِيكَ الرِّيحُ وَالْمَطرُ يا بَرْدَهُ مِنْ حَيا مُزْنٍ على كَبِدٍ نِيرانُها بِغلِيلِ الشّوقِ تَسْتَعِرُ آلَيْتُ ألاَّ أرَىْ شَمْساً وَلا قمَراً حَتَّىْ أرَاكَ، فأنتَ الشَّمْسُ وَالقمَرُ وبعدما تاب مَحَّصَها بقطعة شعرية جاء فيها: يا قادراً لَيْسَ يَعْفُوْ حِين يَقتدِرُ وَلا يُقَضَّى لهُ مِن عيشِهِ وَطَرُ عايِنْ بقلبكَ إنَّ العَيْنَ غافلةٌ عَنِ الْحَقِيقةِ، وَاعْلَمْ أَنَّها سَقرُ سَوداءُ تزفرُ مِن غيظٍ إذا سُعِرَتْ لِلظَّالِمينَ فمَا تُبقِيْ ولا تَذرُ إِنَّ الذينَ اشْتَرَوْا دُنيا بِآخِرَةٍ وَشِقْوَةً بِنَعِيْمٍ سَاءَ مَا تَجَرُوا يا مَنْ تلَهَّىْ، وشيبُ الرَّأسِ يَنْدُبُهُ ماذا الذي بَعْدَ شيبِ الرّأسِ تَنْتَظِرُ؟ لَوْ لَمْ يَكُنْ لَكَ غَيْرَ الْمَوتِ مَوْعِظةٌ لَكانَ فِيهِ عَنِ اللَّذاتِ مُزْدَجَرُ أنتَ الْمَقولُ لَهُ ما قلْتُ مُبتدِئاً: هَلاّ ابتكَرْتَ لِبَيْنٍ أَنْتَ مُبْتكِرُ؟ ومن ممحِّصاته قوله: أَلا إنِّمَا الدُّنيا نَضارَةُ أيْكَةٍ إذا اخْضَرَّ منها جانِبُ جَفَّ جانِبُ هِيَ الدَّارُ ما الآمالُ إلاّ فَجَاْئِعٌ عليها، ولا اللَّذَّاتُ إلاّ مَصائِبُ وَكَمْ أسْخَنَتْ بالأمس عَيناً قريرَةً وقرَّت عيوناً دَمْعُها الآنَ سَاكِبُ فلا تَكْتَحِلْ عَيناكَ مِنْها بِعَبْرَةٍ على ذاهِبٍ مِنها فإنّكَ ذاهِبُ - 4 - آخر شعره أصيب ابن عبدربه الأندلسي بمرض الفالج في آخر عمره، فذاق الألم، وهو طريح الفراش، فكان آخر شعر قاله في ما قيل: كِلاْنِيْ لِمَا بِي عاذِلَيَّ كَفانِيْ طَويتُ زمَانِي بُرهةً وطَوَانِيْ بَليتُ وَأبْلَتْني اللَّيالِي بِكَرِّهَا وصَرْفانِ لِلأيامِ مُعْتَوِرَاْنِ وَمَا لِيَ لا أبكِي لِسَبعينَ حجَّةً وَعَشْرٍ أتَتْ مِن بَعْدِها سَنتانِ؟ فلا تسألانِيْ عن تبارِيحِ عِلَّتِيْ ودُوْنَكُمَا مِنِّي الذي تَرَيَاْنِيْ وإنِّيْ بِحَمْدِ اللهِ رَاجٍ لِفضلِهِ وَلِي مِن ضَمَانِ اللهِ خَيْرُ ضَمَانِ وَلسْتُ أُبالِيْ عنْ تَبارِيْحِ عِلَّتِيْ إذا كَانَ عَقلِيْ بَاقِياً ولِسَانِيْ هُمَا مَا هُمَا في كُلِّ حَالٍ تُلِمُّ بِيْ فَذَاْ صَارِمِيْ فِيها، وَذاكَ سِنَانِيْ - 5 - إعجاب المتنبي بشعره قال ياقوت الحموي في معجم الأدباء: أخبرني بعض العُلية: أن الخطيب أبا الوليد بن عسال أدى فريضة الحَجِّ، فلمَّا انصرف عائداً إلى الأندلس، تطلَّع إلى لِقاء الشاعر المتنبئ في مصر، واستشرف ورأى أن لُقيتَه فائدةٌ يكتسِبُها، وحُلَّة فخرٍ لا يَحْتَسِبُها، فصار إليه، فوجدَهُ في مَسجد عمرو بن العاص في الفسطاط، ففاوضه قليلاً ثم قال المتنبي: ألا أنشدني لمليح الأندلس، يعني ابن عبدربه فأنشده ابن عسال: يا لُؤلُؤاً يَسْبي العُقولَ أنِيقا وَرَشاً بِتَقطِيْعِ القلُوبِ رَفِيقا ما إِنْ رأيتُ ولا سَمِعتُ بِمِثْلِهِ دُرًّا يعوْدُ مِنَ الْحياءِ عَقِيْقا وَإذا نَظرتَ إلى مَحاسِنِ وجْهِهِ أبْصَرْتَ وَجْهَكَ في سَناهُ غَرِيْقا يا مَنْ تَقطَّعَ خَصْرُهُ مِنْ رِدْفِهِ مَا بالُ قلبكَ لا يَكوْنُ رَقِيْقا؟ فلما أكمل ابن عسال إنشادَه، استعادها منه المتنبي، ثم صفق المتنبي بيديه. وقال: يا ابن عبدربه، لقد يأتيك العراق حَبْواً. وهذه شهادة لها قيمتها من المتنبي تعكس إعجابه بشعر ابن عبدربه الأندلسي. - 6 - العقد الفريد كان ابن عبدربه الأندلسي من أهل العلم، والأدب، والشعر، وهو صاحب كتاب العقد الفريد في الأخبار، وهو مقسَّم على عدّة فنون، وسمى ابن عبدربه كل باب منه على نظم العقد، وجعله على خمسة وعشرين كتاباً، كل كتاب منها جزءان، فذلك خمسون جزءاً في خمسة وعشرين كتاباً، وكل كتاب باسم جوهرة من جواهر العقد. فأولها: كتاب اللؤلؤة في السلطان، ثم كتاب الفريدة في الحروب، ثم كتاب الزبرجدة في الأجواد، ثم كتاب الجمانة في الوفود، ثم كتاب المرجانة في مخاطبة الملوك، ثم كتاب الياقوتة في العلم والأدب، ثم كتاب الجوهرة في الأمثال، ثم كتاب الزمردة في المواعظ، ثم كتاب الدرة في التعازي والمراثي، ثم كتاب اليتيمة في الأنساب، ثم كتاب العسجدة في كلام الأعراب، ثم كتاب المجنبة في الأجوبة، ثم كتاب الواسطة في الخطب، ثم كتاب المجنبة الثانية، في التوقيعات، والفصول، والصدور، وأخبار الكتبة، ثم كتاب العسجدة الثانية في الخلفاء وأيامهم، ثم اليتيمة الثانية في أخبار زياد، والحجاج، والطالبيين، والبرامكة، ثم الدرة الثانية في أيام العرب ووقائعهم، ثم الزمردة الثانية في فضائل الشعر، ومقاطعه ومخارجه، ثم الجوهرة الثانية في أعاريض الشعر، وعلل القوافي، ثم الياقوتة الثانية في علم الألحان واختلاف الناس فيه، ثم المرجانة الثانية في النساء وصفاتهن، ثم الجمانة الثانية في المتنبئين، والطفيليين، ثم الزبرجدة الثانية في التحف، والهدايا، والنتف، والمفاكهات والْمُلح، ثم الفريدة الثانية في الهيئات والبنائين، والطعام والشراب، ثم اللؤلؤة الثانية في طبائع الإنسان، وسائر الحيوان، وتفاضل البلدان، وهو آخر الكتاب.