يختلف كتاب "الأدب الأندلسي"، لمؤلفته ماريا خيسوس روبييرا متى، وقد قام بترجمته عن الإسبانية وتقديمه للعربية، أشرف علي دعدور، وصدر حديثاً عن المجلس الأعلى للثقافة في مصر، في اطار المشروع القومي للترجمة، عن سواه من الكتب التي تتناول الشعر والأدب العربي في الأندلس، بأنه يتسم بالشمول والإحاطة من جهة، ولا يهمل التخصص والتعمق من جهة ثانية... هذا التخصّص والتعمق الذي تناولته في الوقت عينه، ثلاث دراسات عن الشعر الأندلسي، قام بها كل من المستشرقين إميليو غرسية غومس، وداماسو ألونسو، وماريا خيسوس بيجيرا، وقد قام بنقلها الى العربية، في اطار المشروع القومي للترجمة نفسه، الأستاذ المتخصص في الأندلسيات، الدكتور محمود علي مكي... وصدر الكتابان بترجمتيهما في حقبة متقاربة عام 1999، ما يلفت الانتباه لذلك، ويدعو الى المقارنة. ان كتاب ماريا خيسوس ريبييرا متّى، هو واحد من ستة عشر كتاباً وبحثاً قامت المؤلفة بكتابتها أو تحقيقها، عدا رسالة الدكتوراه التي أعدتها، وتتناول فيها الأدب الأندلسي في وجوهه كافة، من شعر ونثر، وتداخله مع التاريخ الأندلسي على امتداد محطاته وأعلامه المعروفين، لكنها تدرس هذا الأدب باحثةً عن أصوله العميقة في المشرق، ابتداءً من الجزيرة العربية والجاهلية، مروراً بدمشقوبغداد، فالمغرب العربي، ومن ثَمَّ، انتقالاً الى الأندلس، عبوراً من مضيق جبل طارق... انها تضع الفنون الأدبية الأندلسية، في اطار تكوّنها وصيرورتها التاريخية، وتكشف عن صلات هذه الفنون، من شعر ونثر في تفرّعاتهما، بالأدب الأمّ، كما بآداب أو فنون البلاد المفتوحة، وما نشأ من جراء هذا التمازج، من إبداع مولّد، غير ناسية أن تشير الى نِسَبِ أو مقاديرِ التقليد والاكتساب في الأدب الأندلسي... معززة أفكارها بعشرات من الأمثلة في الشعر والنثر والأزجال والموشحات، غير ناسية ما نشأ من تمازج لغوي، فضلاً عن تمازج الأعراق والسلالات والحضارات، في تلك البلاد التي اعتبرت بمثابة الفردوس المفقود. ان قرطبة وغرناطة واشبيلية وسواها من عواصم العرب المسلمين في الأندلس، كانت في أوج ازدهارها، تلتفت الى بغداد، أو دمشق. بل لعل قرطبة، كما تقول المؤلفة، كان كل همّها أن تتحوّل الى "بغداد أخرى" خلال حكم عبدالرحمن الثاني لها 822 - 852... واعتبر انتقال زرياب، من بغداد الى الأندلس، رمزاً لانتقال نمط متكامل من المدنية من المشرق الى المغرب، مشتملاً على الموسيقى والغناء وطراز الأزياء وأصناف الطعام وعادات التعامل الاجتماعي وما الى ذلك. كان شبيهاً بانتقال مؤسسة جمالية. والمؤلفة تدير كتابها على محاور متداخلة، تاريخية وثقافية معاً، مبتدئةً بعوامل الفتح الإسلامي لشبه جزيرة إيبيريا وعناصر سهولة هذا الفتح، غير ناسيةٍ شعور العرب في البداية، بأن وجودهم "موقت" في تلك البلاد... ومحافظتهم على تقاليدهم وأشعارهم وعاداتهم التي حملوها اما من الجزيرة العربية أو من دمشق مروراً بالمغرب العربي... لذلك فقد بقي الشعر، على سبيل المثال، لمدة طويلة، وقبل ظهور الأزجال والموشحات، يأخذ نموذجه ومثاله من الشعر العربي السابق عليه، بل كانت تسم أفكاره وألفاظه وأماكنه جاهليةٌ وبدويّةٌ متمادية... بقيت تفعل فعلها طويلاً في نفوس الشعراء وديباجتهم، قبل أن تتكسّر على صخرة العامية والأزجال، وتتوارى خلف خرجات الموشّح وأوزانه التي هي وليدة تمازج موسيقى وأغاني السكان الأصليين للبلاد، مع موسيقى العرب المسلمين الوافدين. المؤلفة إذاً لا تنسى فعل الأدب والشعر والروح المشرقية في أدب وشعر وروح الأندلس... وتعزز فكرتها بحيث تمدُّها على كافة العصور ورموزها الأدبية والشعرية، التاريخية واللغوية والفكرية، من لدن الإمارة الأموية، مروراً بعصر الخلافة في القرن العاشر، وصولاً الى عصر ملوك الطوائف، فدولة المرابطين البربر، فالموحدين، ولا تنسى مملكة غرناطة في القرنين الرابع عشر والخامس عشر... فالخريطة التي تعرضها في كتابها، هي، في وجه من وجوهها، تاريخية كلاسيكية، تلحق بها الآداب والفنون والعمارة، غير ناسية ربط الأصل المشرقي لحضارة الأندلس، بالمكتسب الغربي، وما قامت به عبقريّة العرب من الدمج والتحويل الحضاريين... فهي ترصد كيف تحوّلت "رياح الثقافة الصحراوية" كما تقول، الى موشحات وألحان، مستفيدة من المغنيات الرومانثيات والجواري في بلاطات أمراء وملوك غرناطة وقرطبة واشبيلية... بحيث تولدت من التمازج الحضاري، لشعوب عدة ولغات وعادات، حضارة الأندلس الفريدة، التي هي وليدة التراث المنقول والمحمول الى الطبيعة الجديدة. لقد تمّ، على سبيل المثال، وبحكم الاحتكاك، تمازج اللغة العربية بِلغة أهل البلاد، الرومنثية، وباللاتينية، وبالبربرية المنقولة من المغرب، كما امتزجت الفصحى بالعامية لتولّد الأزجال التي برع بها ابن قزمان، والموشحات التي برع بها ابن عبدربه والأعمى التطيلي... وسواهما، وهو الشعر الدوري المقطعي الذي يستند في خرجته على مقطع من الغناء الرومنثي الإسباني، مكتوب بحروف عربية، ويشكل جوهر الموشّح وأساسه. التقسيم التاريخي إذاً هو أساس منهج المؤلفة... بادئةً بالأدب العربي في الأندلس في العصر الوسيط، منتقلةً الى تغلغل الأدب الكلاسيكي المنقول من المشرق، الى الأندلس خلال العصر الأموي: في عصري الإمارة والخلافة، غير ناسيةٍ إفراد كل أديب أو شاعر، بعرض دقيق وموثق ومعزز بالنصوص، في أهم سماته ومؤلفاته... من ابن زيدون وابن حزم وابن شهيد وسواهم، مروراً بالشاعرات اللواتي شكلن ظاهرة فريدة في تاريخ الشعر العربي، وظهرن في القرنين الثاني عشر والثالث عشر في عصر الموحدين كحفصة بنت الحجاج الغرناطية، ذات الأصل البربري، والتي تغزلت بمحبوبها المسمّى أبا سعيد... ولا ننسَ أيضاً ولاّدة بنت المستكفي، التي كتبت أشعارها في ابن زيدون... ذلك ما تسميه المؤلفة "الشغف المذهّب". كما هي لا تنسى شعر الزهد والتصوّف الذي ازدهر على يدي ابن عربي المرسي 1165 - 1245 وابن الجيّاب الشاعر الغرناطي المتوفّى سنة 1348، ولعلهما تأثرا بأشعار ابن الفارض. وقد استخدم ابن عربي أسلوب الموشّح أحياناً في أشعاره. وتنهي بشعر الصنعة الأسلوبية، في عصر التدهور، حيث تحوّل الشعر في مملكة غرناطة 1232 - 1492 الى ما يشبه شعر خزفيات، ونقوش على الجدران، وتحوّل الشعراء الى ما يشبه موظفين في البلاط... فقد نقشت أشعار ابن زمرك تلميذ ابن الخطيب، على جدران وأفاريز قصر الحمراء... فتحول بذلك الشعر الى رقوش بصريّة وحذلقة وزخرف، وفقد معناه وجوهره. انه "الشعر المريض" كما تسميه المؤلفة. استبعاد الفلسفة أبرز ما يميّز كتاب ماريا خيسوس روبييرا متّى، هو شموليته وإحاطته الشاسعة بفنون الشعر والنثر الأندلسيين... ما تسميه هي "الأدب الأندلسي"، فتستبعد منه الفلسفة، على سبيل المثال، مستثنية ابن رشد وابن طفيل الفيلسوف، لا الأديب، وابن حزم الفيلسوف لا الأديب... فهي لا تخوض في "حي بن يقظان" لابن طفيل، إلاّ على أنه كتاب أدب ومخيّلة... كذلك هي تتعامل مع ابن حزم، الشاعر وصاحب طوق الحمامة، لا مع ابن حزم صاحب الفصول الفلسفية... والأدب الأندلسي، بالنسبة اليها، شعر بكافة أساليبه وأصنافه، من الشعر الكلاسيكي الى الأزجال والموشحات... يضاف له النثر بكافة أشكاله، من الكتابة التاريخية وكتب النوادر والأخبار، وصولاً الى المقامة والرسالة... كل ذلك تربط فيه المؤلفة بين أصوله في المشرق العربي، وما آل اليه في الأندلس... ما يجعل الكتاب يكتسب صفة تعليمية، غير متخصصة بالمعنى الدقيق للكلمة، إذ أن كل فصل من فصوله، يبدأ بأصل الموضوع من الجاهلية حتى عصر الأندلس... فأخبار شعراء كامرىء القيس والحطيئة والفرزدق وجرير، وأدباء كابن المقفع والجاحظ، ومؤرخين كالطبري، وكتّاب مقامات كبديع الزمان الهمذاني والحريري، وصوفية كابن الفارض غير مفصولة عن أخبار أدباء وشعراء وصوفية الأندلس، من ابن الخطيب وابن الجيّاب وابن شهيد وابن زيدون... وصولاً لابن عربي... هي إذاً تمزج البحرين، المشرقي والأندلس مزجاً رائعاً وبارعاً ومفيداً. والملاحظ أن ماريا خيسوس روبييرا متّى، في بحثها عن التاريخ السياسي والأدبي للعرب في الأندلس، أنها تنطلق من نقطة التمييز بين "الاستشراق" و"الاستعمار" تجاه الحقيقة التاريخية والعلمية لوجود العرب في اسبانيا. انها تدافع عن العرب المسلمين، في أكثر من موقع، مشيرة الى أنّ من أهم أسباب سهولة الفتح، تسامح العرب تجاه المسيحيين واليهود الذين كانوا يشكلون شعب شبه جزيرة ايبيريا، في أوائل القرن الثامن للميلاد... فهي إذاً، في هذا المجال، تنتسب الى الصنف "الحميم" من الاستشراق، الذي نُزِعَ منه فتيل التحيّز والغرض، تجاه التراث العربي الإسلامي الذي تمّ كشفه وتحقيقه ونشره... واقسم هذا الفرع من الاستشراق، بحبّ هذا التراث، واعتباره جزءاً من تراث اسبانيا، فالبحث عنه، وإحياؤه، جزء من البحث عن إسبانيا نفسها، وإحيائها، حتى لكأنّ عمل هؤلاء الباحثين الأسبان في "الأندلسيات"، جاء بمثابة تصحيح للتاريخ السياسي والثقافي الإسباني، الذي ساد لمدّة قرنين ونصف القرن، بعد خروج العرب من اسبانيا، وكان شعاره التطهير الثقافي والديني والاجتماعي، الواصل الى حدود التطهير العرقي، لبقايا العرب في اسبانيا. وكانت محاكم التفتيش الشهيرة، مظهراً صارخاً من مظاهر هذا التطهير، فضلاً عن طرد السكان وطمس الآثار، واهمال الكتب، أو إحراقها، حتى إذا وصلت هذه الموجة الى غايتها من زوال "الخطر العربي الإسلامي" على اسبانيا، استعاد الإسبان وعيهم الوطني والثقافي، وانتبهوا تلك الانتباهة الرائعة على حضارة من أجمل وأهم حضارات التاريخ، شهدتها بلادهم على أيدي العرب المسلمين. من المفارقات أنّ العرب والمسلمين، كانوا على العموم، في غفلة عن هذا الجزء المشرق، بل الأشد إشراقاً، من تاريخهم في الأندلس، في الوقت الذي بدأ الإسبان يكشفون عن كنوزه ولمعانه... والسبب هو فعل التخلّف الفاعل في العرب مع تأخرهم، وفعل النهضة أو اليقظة في الإسبان... كما أنّ من المفارقات المعاصرة، فعلُ البكاء العربي في الشعر الحديث والمعاصر، على "الأندلس"، وتسميتها بالفردوس المفقود، أو "أندلس الأعماق"، كما يكتب أدونيس، حتى أنه ما من شاعر عربي حديث، إلاّ وتفجّع على الأندلس... في حين أن الشعراء الإسبان المحدثين والمعاصرين، من أمثال غارسيا لوركا، ورافاييل ألبرتي، والباحثين الإسبان، من إميليو غرسية غومس وتلامذته أمثال داماسو ألونسو وماريا خيسوس بيجييرا وماريا خيسوس ريبييرا متى... وصولاً الى غويتسالو، مروراً ببدرومونتابث وتلميذته كارمن برافو، يهتمون بإحياء "الأندلس" وإزهارها في أشعارهم وأغانيهم وأبحاثهم... الجهد العربي في "الأندلسيات" جاء تابعاً للجهد الإسباني، حتى ولو رافقه أحياناً، وبرزت فيه أسماء باحثين ومساعدين، ومترجمين للجهد الإسباني، لا يمكن إهمالهم، منهم على سبيل المثال لا الحصر، أحمد زكي باشا الملقب بشيخ العروبة، وقد تمتنت صلته بشيخ وكبير المستشرقين الإسبان إميليو غرسية غومس خلال وجود هذا الأخير في مصر ما بين سنتي 1927 و1928، تلميذ آسين بلاثيوس، الذي رشحه للتدريس في كلية الفلسفة والآداب، وهيأه لذلك بإعطائه منحة دراسية يتضلّع من خلالها بالعربية، فوقع الاختيار على مصر بتوصية من خوليان ريبيرا وتمويل من دوق ألبا... وهناك توثّقت الصلة بين غوميس وأحمد زكي باشا، الذي أهدى اليه نسخة من مخطوطة نادرة لكتاب "رايات المبرزين وغايات المميزين" لابن سعيد المغربي، وهو مجموعة مختارات شعريّة أندلسية اختارها المؤلف المصنّف من موسوعته الكبيرة "المغرب في حلى المغرب"، فاهتمّ بها غوميس وكأنه وقع على كنز ثمين، وقام بتحقيقها وترجمتها الى الإسبانية، ونشرها مع دراسة حولها... ويعتبر هذا العمل، بالإضافة الى كتاب "أشعار أندلسية" الذي ترجم فيه الى الإسبانية مجموعة مختارة من الشعر الأندلسي، ونشره لأول مرّة في غرناطة عام 1930... من أهم ما قام به هذا المستشرق الجليل من أعمال. يشير محمود علي مكي، في ترجمته لغوميس، الى ما يشبه الحلقة التاريخية النادرة، في مسألة "رايات المبرزين"، فقد سبق لابن سعيد ت 685ه - 1286 م وهو شاعر وأديب أندلسي ينتمي لأسرة من السراة الأدباء في الأندلس، أن فرّ الى مصر وحلّ ضيفاً على أمير كان يرعى الأدب والأدباء هو موسى بن يغمور، وقد كتب ابن سعيد هذا الكتاب، في بضعة أيام، وهو جزء مما تذكره من كتاب أشمل يتناول التاريخ والأدب كانت أسرته قد تآزرت في تأليفه... وأهداه الى الأمير. وها هو شيخ العروبة يعيد الوديعة الى أصلها - كما يلاحظ الدكتور مكي - بعد مرور سبعة قرون عليها. في مصر أيضاً، توطّدت علاقة غوميس بالدكتور طه حسين، وأثمرت هذه العلاقة فيما بعد، إنشاء "معهد للدراسات الإسلامية" في مدريد، وتكوين جيل من المتخصصين في الدراسات الأندلسية... وكان طه حسين قد افتتح هذا المعهد بنفسه، وكرّم في اسبانيا تكريماً كبيراً، واختار سبعة من خريجي الجامعات المصرية لكي يستكملوا دراساتهم العليا فيه... وكان من بينهم الدكتور محمود علي مكي نفسه. هكذا نجد إذاً أن نداء الاستشراق الإسباني العظيم، يجد من يتجاوب معه عربياً، من خلال أمثال زكي باشا وطه حسين ومحمود علي مكي... وكان من نتيجته تواتر البحث والتنقيب، التحقيق والكشف والدراسة للتراث العربي الأندلسي... باللغة الإسبانية أولاً، وبالعربية ثانياً، من خلال المبادرة أو الترجمة للأبحاث الإسبانية، وجهد الدكتور مكي، في ترجمته وتقديمه لثلاث دراسات عن الشعر الأندلسي، جهد فاعل في الكشف عن هذه الدراسات وأصحابها، وإغناء عملية "إحياء الأندلس" عربيّاً، بعد احيائها "اسبانياً" إذا صحّ التعبير. الدراسات الثلاث التي قام الدكتور مكي بترجمتها عن الإسبانية، مباشرة، هي على التوالي "الشعر الأندلسي / خلاصة تاريخيّة" لإميليو غرسية غومس. و"الشعر الأندلسي وشعر جونجورا"، وهي بقلم داماسو ألونسو و"الصور الشعريّة العربية وسواغ جومت دي لاسرنا / لماريا خيسوس بيجيرا. وقد قدم لترجمة هذه الدراسات، بتعريفات وافية بكل مستشرق من أصحابها الثلاث، مبتدئاً بغومس، شيخ المستشرقين الإسبان وكبيرهم بلا منازع، معرّجاً على كل من ألونسو وفيجيرا وهما من تلامذته... وقد أسس كل منهما دراسته على أعمال غومس، خصوصاً ترجمته ودراسته لكتاب "رايات المبرزين" لابن سعيد، و"أشعار أندلسية" المعتمدة أصلاً بدورها على "رايات المبرزين" وغومس، من خلال التعريف به ودراسته المذكورة، يظهر بصورة عاشق متبتّل عامل في الشعر الأندلسي، من خلال وجوهه البارزة في الأزجال والموشحات، بل لعله هو مكتشف أو معمّق اكتشاف ما يسمّى "بالخرجة" في الموشحات الأندلسية، وهي مركز الموشح - بتعبير ابن بسّام - وأصله الإسباني وان كانت تأتي في المقطوعة الأخيرة من أدوار الموشّح... والخرجة عبارة عن أغنية أعجمية لاتينية دارجة، يلتقطها شاعر الموشّح، ويبني عليها بيته المؤلف من دور وقفل والمنتهي بخرجة، نكتب بالحرف العربي إنما باللغة الأعجمية، كقول الأعمى التطيلي في احدى موشحاته "مو الحبيب إنغرْمُ ذي مِوْ أمارْ / نُنْ فيسْ أميبْ كِشَأْذِ نولِغارْ"... ولشدّة اهتمام غومس بالخرجة في الموشّح الأندلسي، وبحث العلاقة بين العناصر العربية والإسلامية والعناصر الإسبانية من خلال ذلك، يمكن اعتباره "مستشرق الخرجة". ودراسته عن أنواع وأدوار الشعر الأندلسي، المنقولة في الكتاب، هي أقرب ما تكون للمحاضرة الشفاهية منها للبحث الموثّق، وذلك من شدّة التصاق غومس بموضوعه لدرجة حفظه غيباً. أما دراسة ألونسو عن علاقة الشعر الأندلسي بشعر "جونجورا"، لجهة التماثل أو التوافق في الصورة المأخوذة على العموم من عناصر الطبيعة، والتشبيه أو الاستعارة. والاتفاق في الموضوعات، وما الى ذلك من عناصر مشتركة أو متشاكلة بين الموشحات الأندلسية وشعر "جونجورا"... فهي دراسة مؤسسة على عمل غومس لجهة كشف الشعر الأندلسي من جهة، وإشاراته الى تأثر الشعراء الإسبان اللاحقين بهذا الشعر... فجاء ألونسو ليعمّق هذه الفكرة ويثبتها من خلال أشعار "جونجورا". ولا تخلو دراسة ماريا خيسوس بيجيرا عن "العلاقة بين الصور الشعرية العربية وسوانح جومت دي لاسرنا"، من تحقيق عملي ميداني لفكرة أستاذها غومس حول أثر الشعر الأندلسي في الشعراء الإسبان... وعلى الرغم من اعتراف دي لاسرنا المتواضع بهذا الأثر، باعتبار أن ظنّ "السانحة" الذي ابتكره وهو مزيج من الصورة مع الفكاهة... له أصول في الشعر الأندلسي، الذي تأسس كزخرف على الطبيعة والتشبيه والمفارقة أو المفاجأة... إلا أن بيجيرا تلحّ في اظهار أبوّة الشعر الأندلسي لفن السانحة عند دي لاسرنا... ولا يخفى على جميع هؤلاء المستشرقين، أن الشعر الأندلسي في النتيجة، بقي على حدود التطوير والابتكار قياساً على شعر المشرق الذي كان له القدوة والمثال... وأنه شعر زخرف وتوشية... أزجال وموشحات وخرجة، انسجاماً مع مكانه وزمانه وثقافته المزدوجة.