يبرز اسم المستعربة الألمانية دوريس كيلياس بإسهامها المتميز في مجال الوصل بين الثقافتين: العربية والألمانية، وذلك بترجماتها الكثيرة التي أتاحت للقارئ معرفة ما لا يعرفه من الأدب العربي وعنه. وجهودها اللافتة - في مجال الترجمة - تقترب كمّياً من جهود زميلها هارتموت فندريش وإن كانت ترجماتها تظل إجمالاً أقل في العدد من ترجماته. لكنها - في ما عدا ذلك - تتميز عن قريناتها وقرنائها بغزارة الإنتاج في الترجمة، وما يشبه التخصص في ترجمة أعمال نجيب محفوظ، وهو الإنجاز الذي لا يدنو منها أحد فيه. ويكفي أن نعرف أنها ترجمت الثلاثية بأكملها: "بين القصرين" 1992، و"قصر الشوق" 1993، و"السكرية" 1994، كما ترجمت "الحرافيش" 1995، و"أولاد حارتنا" 1995، و"أصداء السيرة الذاتية"، و"الطريق" 1997، و"حضرة المحترم" 1998، و"ألف ليلة وليلة"، و"بداية ونهاية" 2000، و"العائش في الحقيقة"، و"يوم قتل الزعيم"، و"زقاق المدق" 2001، و"ميرامار"، و"الشحاذ"، و"المرايا" 2002. وأخيراً، أصدرت "رحلة ابن فطومة" المنشورة هذا العام، وذلك بعد رحلة سنوات عدة مع نجيب محفوظ الذي نشرت أولى ترجماته بعنوان "قصص قصيرة" في برلين سنة 1993. وكان ذلك بالطبع بعد حصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل سنة 1988، وما أسهم فيه هذا الحدث الاستثنائي من اجتذاب المترجمين إلى ترجمة أعمال نجيب محفوظ التي لم تكن ترجمت بعد إلى اللغات الأوروبية، وتسليط المزيد من الضوء على الأدب العربي الذي ينتسب إليه نجيب محفوظ، ومن ثم ترجمة المتميزين والمتميزات من أدبائه وأديباته. ولا أظنني أبالغ لو قلت - في هذا الاتجاه - إن إبداع نجيب محفوظ، بعد حصوله على نوبل، كان بمثابة القاطرة العفية التي حملت الأدب العربي المعاصر إلى آفاق واعدة من الترجمة التي ظلت أغلب أبوابها مغلقة أمام هذا الأدب طويلاً، وذلك لأسباب سياسية وثقافية تحتاج إلى تفصيل في غير هذا المقام. والمسافة الزمانية بين حصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل وصدور أول عمل مترجم بقلم دوريس كيلياس إلى اللغة الألمانية مسافة قصيرة لا تجاوز خمس سنوات، لكنها تمثل قوة الدفع التي انتهت بدوريس كيلياس إلى ترجمة أربعة عشر عملاً من أعماله، فضلاً عن الثلاثية التي تتكون من ثلاثة مجلدات ضخمة. وهو أمر يمكن أن نفهم دوافعه حين نضع في اعتبارنا أن أول ترجمة لنجيب محفوظ إلى الألمانية - قبل نوبل 1988 - كانت روايته "اللص والكلاب" التي تمت ترجمتها بقلم دوريس إربينبك ونشرت في برلين سنة 1980، وبعدها المجموعة القصصية "دنيا الله" التي ترجمت بقلم ÷يبكه ÷التر في زيورخ سنة 1988، العام نفسه الذي حصل فيه محفوظ على نوبل، وقبل عام واحد من توحيد برلين وهدم جدارها الشهير في شهر تشرين الاول أكتوبر الذي شهد سقوط حكومة هونيكر، واختيار رئيس جديد لألمانياالشرقية، ووضع توحيد ألمانيا موضع التنفيذ. وما حدث مع نجيب محفوظ مثال على ما حدث لغيره، فمن الواضح أن حركة ترجمة الأدب العربي المعاصر إلى الألمانية بدأت على استحياء بالغ في السبعينات التي شهدت ترجمة ماريانه لابر للجزء الأول من كتاب "الأيام" لطه حسين سنة 1973، كما شهدت ترجمة دوريس إربينيك لمختارات قصصية من يوسف إدريس سنة 1977، وجاءت مطالع الثمانينات ببعض الزيادة الطفيفة التي ظلت كذلك إلى العام 1988، وهي الفترة التي شهدت ترجمة "قنديل أم هاشم" التي نهض بها المرحوم ناجي نجيب سنة 1981، وترجمة الجزء الثاني من "الأيام" التي نشرها مصطفى ماهر في برلين 1986، وبعدها ترجمة هارتموت فندريش رواية "اللجنة" لصنع الله إبراهيم سنة 1986. وترتفع معدلات الترجمة عن الأدب العربي المعاصر إلى الألمانية ارتفاعاً بالغ الدلالة بعد 1988، ويستمر التصاعد دالاً على المكانة المتزايدة التي أخذ يحتلها الأدب العربي المعاصر بعد نجيب محفوظ بوجه عام، وتحت تأثير وأصداء جائزة نوبل بوجه خاص. ومن المؤكد أن عوامل أخرى يمكن إدخالها في الاعتبار، ومنها التحولات السياسية الجذرية التي أدّت إلى هدم جدار برلين، واتساع مدى الموجة الديموقراطية التي اقترنت بتزايد رغبة تجسيد التنوع الثقافي الخلاق، ودعمه بتأسيس أفق أوسع للحوار بين الحضارات. ولكن المعدلات الإحصائية التي تأخذ العين - من منظور تزايد معدلات الترجمة إلى الألمانية - هي التي تقترن بحصول أديب عربي على جائزة نوبل، وما ترتب عليها من إقبال دور النشر الكبرى على ترجمته، وظهور دور نشر أخرى مهتمة بتنوع التيارات الإبداعية العربية التي وازت نجيب محفوظ، وجاءت بعده، وفي مواجهته في غير حالة. ولذلك قامت دوريس كيلياس - بعد سنوات قليلة من حصول محفوظ على نوبل - بترجمة رواية جمال الغيطاني "وقائع حارة الزعفراني" ونشرتها في برلين سنة 1991، وانتقلت منها إلى رواية "الحرب في بر مصر" ليوسف القعيد سنة 1993، ومن مصر إلى المغرب، حيث ترجمت رواية محمد شكري "زمن الأخطاء" 1994 و"جان جينيه في طنجة" 1995. ومن المغرب إلى لبنان، حيث ترجمت رواية حسن داود "غناء البطريق" المنشورة في بازل 2000. ومن لبنان إلى مصر حيث ترجمت رواية جمال الغيطاني "رسالة البصائر في المصائر" وميرال الطحاوي "الخباء" 2001 و"الباذنجانة الزرقاء"، و"مالك الحزين" لإبراهيم أصلان 2002 و"خالتي صفية والدير" لبهاء طاهر 2003. وأخيراً، "عصافير النيل" لإبراهيم أصلان و"ملك الأشياء" - رواية للأطفال كتبها طارق باري 2004. وإذا أضفت إلى الترجمات السابقة ترجمة الثلاثية مع أربعة عشر عملاً لنجيب محفوظ، ابتداء من سنة 1992، أدرك القارئ المنحنى الصاعد للترجمة من العربية إلى الألمانية - بعد نوبل محفوظ - في حالة دوريس كيلياس بوصفها نموذجاً لغيرها الذي لا أريد ذكره تجنباً للتكرار. وهي ملاحظة تتأكد بحقيقة أن كل ما تمت ترجمته إلى الألمانية - بحسب قوائم مجلة "فكر وفن" عن الرواية الجزائرية، والأدب العراقي المعاصر، والكويتي، واللبناني في ما عدا رواية "طواحين بيروت" المترجمة سنة 1983 والليبي، والمغربي، والسوداني في ما عدا مجموعة شعرية لمحمد الفيتوري سنة 1987 والسوري في ما عدا ترجمة مجموعة زكريا تامر "ربيع في الرماد" سنة 1987، والتونسي، جاء بعد عام 1988، وفي تصاعد المد المتزايد للإقبال على معرفة الأدب العربي المعاصر. ولا أستثني من ذلك إلا الأدب المصري بحكم ظروفه التاريخية، مقترنة بالدور الذي قام به الصديق ناجي نجيب - عليه رحمة الله - وهارتموت فندريش، حيث تمت - على سبيل المثال - ترجمة مسرحية صلاح عبدالصبور "مأساة الحلاج" 1981 بجهد مشترك جمع ما بين ناجي نجيب وستيفان رايشموت وبعدها "مسافر ليل" 1982 بترجمة ديتلند شاك، وذلك في العام نفسه الذي شهد ترجمة مجدي نجيب لمسرحية ألفريد فرج "على جناح التبريزي وتابعه قفة". وقس على ذلك غيره في المدى الزمني الذي ينتهي سنة 1987 بترجمة هارتموت فندريش لمجموعة محمد المخزنجي "رشق السكين". ويوازي الأدب المصري في ذلك الأدب الفلسطيني، وذلك بسبب ما فرضته المقاومة الفلسطينية للاحتلال الإسرائيلي الوحشي على كل المستويات وفي كل المجالات، ومنها المجالات الإبداعية التي تُرجم منها - على سبيل المثال لا الحصر - قصائد مختارة من شعر معين بسيسو ونشرت في برلين سنة 1982، ورواية سحر خليفة "الصبار" التي نشرت في زيورخ 1983، وبعدها جاءت رواية غسان كنفاني "رجال في الشمس" 1985 و"أم سعد" و"عائد إلى حيفا" سنة 1986، السنة نفسها التي شهدت ترجمة رواية "عباد الشمس" لسحر خليفة. ولكن قاطرة نجيب محفوظ التي دفعت حركة الترجمة بقوة، على نحو غير مسبوق في تاريخ الترجمة إلى اللغات الأوروبية الحديثة، كانت - ولا تزال - قاطرة متحيزة لنوع إبداعها الغالب، والمتجاوب مع النغمات المائزة للعصر، وذلك على نحو حدس فيه نجيب محفوظ وأرهص به، عندما كتب سنة 1945، مؤكداً أن فن الرواية هو "شعر الدنيا الحديثة" وأن الرواية هي الفن الصاعد الذي سيمثل الصدارة بالقياس إلى غيره من أنواع الإبداع أو أجناسه. وقد تحقق ما أرهص به نجيب محفوظ، أو تنبّأ، على نحو جعلنا نعيش بالفعل في "زمن الرواية" كما أشرت إلى ذلك مراراً وتكراراً. ولذلك لا غرابة - مثلاً - في أن تتناغم حركة الترجمة من الأدب العربي الحديث والمعاصر مع حركة الاتجاه الغالب على جائزة نوبل في العقود الأخيرة، حيث يغلب فن الرواية هنا وهناك. وإذا تذكرنا أسماء الحاصلين على نوبل، منذ بدايتها إلى اليوم، وجدنا أغلب الحاصلين عليها من المنتسبين إلى عوالم الرواية حصرياً، أو بالمشاركة، وذلك في قائمة تشمل رومان رولان الفرنسي، وموريس ميترلينك وتوماس مان وغونتر غراس الألمان، وريمونت البولندي، واندست النروجية، وبيرك بك وسنكلير لويس وفوكنر وشتاينبك وهمنغواي الأميركان، وباسترناك وشولوخوف وسولجيتسين الروس، وأندريتس اليوغسلافي، وأوسترياس الغواتيمالي، وماركيث الكولومبي، وغولدنج البريطاني، ومحفوظ المصري، ونادين غورديمر من جنوب أفريقيا، وكينزا بورو الياباني، وساراماغو البرتغالي... إلخ. وهي قائمة تؤكد حركة السهم الصاعد في مبدعي الرواية ما بين الحاصلين على جائزة نوبل. وهي حركة تتجاوب مع التوجه الغالب على حركة الترجمة من الأدب العربي الحديث والمعاصر إلى الألمانية، حيث الغلبة الساحقة لفن الرواية. خذ - مثلاً - مصر التي هي أكثر الأقطار العربية من حيث عدد الأعمال المترجمة إلى الألمانية، نجد أنه من بين سبعين عملاً مترجماً، ينتسب ثلاثة أعمال إلى المسرح مسرحيتان شعريتان لصلاح عبدالصبور، وواحدة لألفريد فرج وعمل واحد إلى الشعر ديوان "لم تعد بقايانا مدهشة" لجرجس شكري سنة 2004 وخمسة أعمال إلى السيرة الذاتية التي هي جنس من السرد الروائي بمعنى أو غيره، وذلك جنباً إلى جنب مجموعة قصص قصيرة. وبقية الأعمال مخصصة للرواية، وذلك بما يجعل نسبة الترجمة الروائية تحوم حول الثمانين في المئة على وجه التجريب. وهي نسبة دالة تتجاوب مع ما نجده في الأدب الجزائري الذي نجد له ثمانية أعمال مترجمة إلى الألمانية، واحد منها شعر، والبقية رواية. أما الأدب الكويتي فلم يترجم عنه سوى مجموعتين للقصة القصيرة، وذلك في مقابل الأدب الليبي الذي ترجم منه سبعة أعمال لإبراهيم الكوني، ستة منها روايات، والأخيرة نصوص مختارة. وقل الأمر نفسه على المغرب، فلا شيء سوى روايات محمد شكري. ومن بين عشرة أعمال من السودان، ثلاثة أعمال شعرية، ومجموعة قصص قصيرة، وسبع روايات. وفي تونس لا شيء مترجماً سوى الرواية والقصة القصيرة، وفي سورية مقابل أربعة أعمال شعرية، ثلاثة منها لأدونيس وحده، هناك إحدى عشرة رواية ومجموعة قصة قصيرة. وفي فلسطين مقابل سبعة أعمال شعرية أربعة منها لمحمود درويش يوجد ثمانية عشر عملاً، يتوزع أغلبها على فن الرواية ثلاث روايات لإميل حبيبى، وأربع لغسان كنفاني، وست لسحر خليفة. ولا شيء مترجماً من السعودية سوى أربعة أعمال لعبدالرحمن منيف، منها "سيرة مدينة" والبقية روايات. وفي لبنان، مقابل ستة أعمال شعرية منها ثلاثة أعمال عربية ألمانية يوجد سبعة عشر عملاً روائياً ثلاثة منها لإلياس خوري، وأربعة لإميلي نصر الله، واثنان لكل من حنان الشيخ وحسن داود، وعمل واحد لكل من توفيق يوسف عواد، وليلى بعلبكي، ورشيد الضعيف، وإيمان حميدان يونس، وربيع جابر. أما العراق فترتفع نسبة الشعر فيها، جزئياً، بسبب الشعراء الذين يعيشون في ألمانيا مثل خالد المعالي وله ستة أعمال شعرية ترجمها بالاشتراك مع غيره، وفاضل العزاوي الذي ترجم بالاشتراك ديواناً له، وذلك مقابل عمل واحد لكل من السياب وعبدالوهاب البياتي وسركون بولس. ولكن الرواية العراقية تظل غالبة بأعمال عبدالرحمن الربيعي وعالية ممدوح ونجم والي وجميل حسين السعدي. والخلاصة أنه على رغم اختلاف النسب الإحصائية ما بين قطر عربي إلى غيره، في مدى غلبة الرواية، فإن النتيجة الإجمالية تظل واحدة بما يؤكد أننا نعيش في زمن الرواية الذي يفرض تأثيره في توجهات عمليات الترجمة. وهي توجهات يمكن أن تزداد وضوحاً بدراسة أرقام توزيع الكتب المترجمة، حيث أتوقع ارتفاع المعدلات الإحصائية للرواية، إلا في المشاهير الذين تحولوا إلى نجوم شبه عالميين من أمثال محمود درويش وأدونيس.