في قصيدته "الثلاثاء الحمراء"، التي يروي فيها إبراهيم طوقان سيرة إعدام ثلاثة ممن أصبحوا علامة على تاريخ فلسطين الدامي، يبلور الشاعر الفلسطيني صورة السجين الفلسطيني الذي يندفع نحو الشهادة مزاحماً رفاقه صاعداً إلى المقصلة في دلالة بالغة على الرغبة في الموت فداء للوطن أنا ساعة الرجل العتيد/ أنا ساعة اليأس الشديد/ أنا ساعة الموت المشرف/ كل ذي فعل مجيد/ بطلي يحطم قيده / رمزاً لتحطيم القيود/ زاحمت من قبلي لأسبقها/ إلى شرف الخلود/ وقدحت في مهج الشباب/ شرارة العزم الوطيد. وقد ظلت تلك الصورة الشديدة الاستقطاب تتكرر في الإنتاج الفلسطيني الشعري والقصصي بأشكال وتنويعات مختلفة، مكتسبة كل مرة ظلالاًَ من الدلالة والمعنى تعبيراً عن رغبة الفلسطيني، المطرود من فردوسه المفقود، بالالتحام بوطنه حتى لو أدى ذلك إلى السجن أو الأسر، أو الموت المجلي في ساحة المعركة. بقيت هذه الصورة الانتصارية، المعجونة بحب الوطن والتضحية من أجله، تتكرر في الشعر والسرد بصفتها لازمة دالة leitmotif تسم الكتابة الفلسطينية وتميزها عن غيرها. وقد ظل السجين أو الأسير الصامد في زنزانته هو البؤرة التي تدور حولها الصورة الشعرية أو الوصف السردي الذي يركز الدلالة ويشحنها في القصة والرواية الفلسطينيتين. ونحن نعثر على هذه الدلالات والمعاني الرمزية في شعر أبي سلمى وعبدالرحيم محمود، من جيل إبراهيم طوقان، كما نعثر عليها في شعر توفيق زياد ومحمود درويش وسميح القاسم وسالم جبران، وعز الدين المناصرة ومحمد القيسي وأحمد دحبور وفواز عيد، من الأجيال التالية لجيل إبراهيم، حيث تتبلور صورة الفلسطيني المحاصر في كل مكان، على أرضه وفي مجتمعات اللجوء، في الشعر والسرد، في الكتابة السياسية والإبداع كذلك. وإذا كان الشعر أقرب إلى التعبير، بالصورة والإشارة الضمنية، عن وضعية السجين والأسير والمصفد والمغلول اليدين والمحاصر، بالمعنيين المادي والرمزي، فإن السرد يعبر رمزياً عن هذه الوضعية من خلال الشخصيات الأسيرة في سجون الاحتلال. إن كتاب القصة والروائيين الفلسطينيين، ومن ضمنهم: سميرة عزام وغسان كنفاني وإميل حبيبي وجبرا إبراهيم جبرا وتوفيق فياض ويحيى يخلف ورشاد أبو شاور، يعيدون من خلال السرد تركيز تلك الصورة التي رسمها إبراهيم طوقان للبطل الفلسطيني الأسير المندفع نحو الموت فداء للوطن. المتشائل وعلى رغم أن ظلالاً من الدلالة المتغيرة، والفهم الواقعي للتجربة الفلسطينية والشروط القاسية التي تحيط بهذه التجربة، تلون هذه الصورة في الكتابة السردية، إلا أن الانتكاسات والهزائم التي مرت بها التجربة الوطنية الفلسطينية، منذ وعد بلفور 1917 وحتى هذه اللحظة، لم تؤثر على صورة البطل الذي لا يخاف الموت" بل إن تلك الصورة استعصت على الذوبان والتحلل في الكتابة الفلسطينية سنة بعد سنة، ومرحلة إثر مرحلة. يصدق هذا التحليل على قصص غسان كنفاني ورواياته، الذي لم يحل تركيزه على تصوير التجربة الوجودية العميقة للفلسطينيين، وبحثه عن المشترك الإنساني بين الفلسطينيين وغيرهم من الشعوب المستعمرة المقهورة، من دون وقيعة أسير تلك الصورة القالبية التي تكررت في الكتابة الفلسطينية حول الفلسطيني الذي لا يقهر، حول ذلك الكائن المعجون بالأمل. ويمكن أن نعثر على ظلال هذه الصورة وتنويعاتها في السطور الأخيرة من "رجال في الشمس"، وكذلك في "ما تبقى لكم"، و"أم سعد"، و"عائد إلى حيفا"، وبعض روايات غسان غير المكتملة. تتكرر هذه الصور المكبرة، المبالغ في شرطها المجازي، في أعمال جبرا إبراهيم جبرا، خصوصاً في روايتي "السفينة" و"البحث عن وليد مسعود" حيث تضخم صورة الفلسطيني المناضل الذي لا يقهر في المعرفة والشجاعة والعزيمة التي لا تلين. لكن إميل حبيبي، الذي يأخذ عمله القصصي والروائي مساراً مخالفاً لذلك الذي نعثر عليه في تجربة جبرا، يتنكب تماماً تلك الصورة الانتصارية للتجربة الوطنية الفلسطينية. إنه يعيد كتابة تاريخ الفلسطينيين من منظور ساخر، ويعيد رسم مراحل تشكل الهوية عبر تصور يرى أن الهوية ذات طابع هجين ينشأ من الاحتكاك الحاد بين القامع والمقموع، المستعمِر والمستعمَر، المحتل ومن يرزح تحت الاحتلال" مقترباً، من خلال الكتابة السردية، من رؤية منظّري ما بعد الكولونيالية من أمثال فرانز فانون وإيمي سيزير وألبير ميمي وإدوارد سعيد وهومي بابا. ومن هنا فإن "سعيد أبو النحس المتشائل"، الذي يمثل المحاصر السجين، والعميل المشكوك في ولائه، والمقاوم الطالع من ثنايا تجربة حصار محكم حول الجسد والروح والآمال الوطنية التي نشأت من صراع حاد على الهوية، هو التجسيد الحاد لوضع الفلسطيني المحاصر السجين مأخوذاً إلى نهاياته القصوى. سأصرخ في عزلتي في المقابل فإن صورة البطل الصامد على أرضه، الثابت في سجنه، حاضرة بقوة في شعر فدوى طوقان، الذي يندرج في إطار الكتابة الرومانسية العربية ورؤيتها السوداوية للعالم، ما يخلق شرخاً حاداً في كتابة فدوى ويجعلها في مجموعاتها الصادرة بعد 1967 "الليل والفرسان"، "على قمة الدنيا وحيداً"، "تموز والشيء الآخر" تتحول عن رؤيتها الرومانسية للعالم وتنظر إلى التجربة الوطنية الفلسطينية بعيون الكتابة الفلسطينية السائدة في تلك اللحظة التاريخية. إن الفلسطيني المحاصر في كل مكان، السجين على أرضه وفي المعتقل الإسرائيلي، يتركز في بؤرة شعر فدوى المنجز في تلك المرحلة من تاريخ التجربة الفلسطينية. وإذا كان الحزن والألم واللوعة والتعاطف الإنساني العميق مع المنكوبين، وجميعها مشاعر وصور رومانسية تتفق مع مسار تجربة فدوى طوقان، قد لونت كتابة الشاعرة الفلسطينية الراحلة، فإننا في تجربة ما بعد 1967 نعثر على صور مرسومة بريشة قوية لمقاومين وسجناء يتحدون الاحتلال ويبشرون بآمال كبيرة. تلك هي صورة حمزة في "الليل والفرسان": كان حمزه/ واحداً من بلدتي كالآخرين/ طيباً يأكل خبزه/ بيد الكدح كقومي البسطاء الطيبين/ قال لي حين التقينا ذات يوم/ وأنا أخبط في تيه الهزيمة:/ اصمدي، لا تضعفي يا ابنة عمي/ هذه الأرض التي تحصدها / نار الجريمة/ والتي تنكمش اليوم بحزن وسكوت/ هذه الأرض سيبقى/ قلبها المغدور حياً لا يموت. وتلك أيضاً هي صورة عائشة أحمد عودة القابعة في السجن الإسرائيلي تتواصل مع الشاعرة عبر رسائل الصمود التي تبعثها إلى الشاعرة فتصوغها فدوى "على قمة الدنيا وحيداً" شعراً يعبر عن الأمل الفلسطيني الذي لا شفاء منه: ... وحين يمتد ويشتد، حين يبلغ أقصى مداه/ ينفضني/ يزرع النخل في الأرض/ يحرث بستان روحي،/ يسوق إليها الغمام/ فيهطل فيها المطر/ ويورق فيها الشجر/ وأعلم أن الحياة تظل صديقه/ وأن القمر/ وإن ضل عني، سيعرف نحوي طريقه. لكن تلك الصورة البسيطة الحادة الزوايا للسجين المقاوم، المشحون بالأمل، تأخذ بعداً وجودياً في مجموعة محمود درويش "حالة حصار" 2002، المكتوبة أثناء الانتفاضة الفلسطينية الثانية والتي تعيد، في تأمل ميتافيزيقي للعيش والوجود، رسم وضعية المحاصر ومن يحاصره، وتحاول كذلك كتابة نشيد طويل للأمل: هنا، عند منحدرات التلال، أمام الغروب/ وفوهة الوقت،/ قرب بساتين مقطوعة الظل،/ نفعل ما يفعل السجناء،/ وما يفعل العاطلون عن العمل:/ نربي الأمل. ويمكن القول، في هذا السياق من تأمل حالة الحصار المادي الذي فرضه المحتل الإسرائيلي على المواطن الفلسطيني، أن درويش يجعل الوعي المحاصر يتأمل ذاته وشرطه الإنساني، مشدداً على اليومي المتضمن في فعل الحصار: نجد الوقت للتسلية:/ نلعب النرد، أو نتصفح أخبارنا/ في جرائد أمس الجريح،/ ونقرأ زاوية الحظ: في عام/ ألفين واثنين تبتسم الكاميرا/ لمواليد برج الحصار، ومحولاً حالة الحصار التي تنوء بكلكلها على أجساد المحاصرين إلى قيود على الخيال الذي يرزح هو الآخر، بفعل الواقع الراهن للفلسطيني المقيد والمحاصر والمقيم في سجن كبير، تحت ضغط القيد: سأصرخ في عزلتي،/ لا لكي أوقظ النائمين./ ولكن لتوقظني صرختي/ من خيالي السجين! تلك هي تحولات صورة الأسير، ومجاز القيد والسجن في أدب ظل، وحتى هذه اللحظة، مشدوداً إلى التعبير عن تراجيديا الأسر على أرض الفلسطيني وخارجها، داخل نفسه وفي ما يفيض عنها في المكان والزمان.