نظّمت كلية الآداب والعلوم الإنسانية في الجامعة اللبنانية، مؤتمراً حول «أدب السجون بين المشرق والمغرب»، بالتزامن مع «اليوم العالمي للأدباء الذين يكتبون من السجون». وشارك في المؤتمر باحثون وأساتذة جامعيون من لبنان، ومصر، والأردن، والعراق، وتونس، والمغرب، والجزائر، وفرنسا، وكندا، وإيطاليا. وركّزت المداخلات، التي ألقيت بالعربية والفرنسية، على تجارب السجن الواقعيّة، وآثاره النفسيّة، وآليّات مقاومته وأشكالها، وتمثيلات السجن والاعتقال الأدبية في الشعر والرواية، كما في السيرة الذاتية. واختتم المؤتمر أعماله بكلمة للمناضلة اللبنانية سهى بشارة تحدثت فيها عن تجربتها في سجن الخيام الإسرائيلي، الذي قضت فيه عشر سنوات، منها ست في زنزانة انفرادية، وهي تناولت هذه التجربة في كتابيها المنشورين بالعربية والفرنسية: «مقاومة» و»أحلم بزنزانة من كرز». المقال هذا جزء من مداخلة الناقد فخري صالح الذي تحدث عن «تمثيلات السجن والحصار في الأدب الفلسطيني» بدءاً من ثلاثينات القرن الماضي، وصولاً إلى اللحظة الراهنة. في قصيدته «الثلاثاء الحمراء»، التي يروي فيها إبراهيم طوقان سيرة إعدام ثلاثة ممن أصبحوا علامة على تاريخ فلسطين الدامي، يبلور الشاعر الفلسطيني صورة السجين الفلسطيني الذي يندفع نحو الشهادة مُزاحماً رفاقه صاعداً إلى المقصلة في دلالة بالغة على الرغبة في الموت فداءً للوطن. وقد ظلت تلك الصورة شديدة الاستقطاب تتكرر في الإنتاج الشعري والقصصي الفلسطيني بأشكال وتنويعات مختلفة، مكتسبةً كلّ مرة ظلالاً من الدلالة والمعنى، في تعبير عن رغبة الفلسطيني، المطرود من فردوسه المفقود، في الالتحام بوطنه حتى لو أدى ذلك إلى السجن أو الأسر، أو الموت المُجلّي في ساحة المعركة. بقيت هذه الصورة الانتصارية، المعجونة بحب الوطن والتضحية من أجله، تتكرر في الشعر والسرد بوصفها لازمة دالّة تسم الكتابة الفلسطينية وتميّزها عن غيرها. وقد ظلّ السجين، أو الأسير الصامد في زنزانته، هو البؤرة التي تدور حولها الصورةُ الشعرية أو الوصفُ السردي الذي يركز الدلالة ويشحنها في القصة والرواية الفلسطينيين. لكن تلك الصورة البسيطة، حادّة الزوايا، للسجين المقاوم، المشحون بالأمل، تأخذ بعداً وجوديّاً في مجموعة محمود درويش «حالة حصار» (2002)، المكتوبة أثناء الانتفاضة الفلسطينية الثانية والتي تعيد، في تأمل ميتافيزيقي للعيش والوجود، رسمَ وضعية المحاصَر ومن يحاصره، وتحاول كذلك كتابة نشيد طويل للأمل: «هنا، عند منحدرات التلال، أمام الغروب وفوهة الوقت، قرب بساتين مقطوعة الظل، نفعل ما يفعل السجناء، وما يفعل العاطلون عن العمل: نربي الأمل.» (ص: 9) ويمكن القول، في هذا السياق من تأمل حالة الحصار الماديّ الذي فرضه المحتل الإسرائيلي على المواطن الفلسطيني، إن درويش يجعل الوعي المحاصَر يتأمل ذاتَه وشرطَه الإنساني، مشدداً على اليوميّ الحاضر في فعل الحصار: «نجد الوقت للتسلية: نلعب النرد، أو نتصفح أخبارنا في جرائد أمس الجريح، ونقرأ زاوية الحظ: في عام ألفين واثنين تبتسم الكاميرا لمواليد برج الحصار» (ص: 19) إن الشاعر يحوّل حالة الحصار التي تنوء بكلكلها على أجساد المحاصَرين إلى قيود على الخيال الذي يرزح هو الآخر، بفعل الواقع الراهن للفلسطيني المقيّد والمحاصَر والمقيم في سجن كبير، تحت ضغط القيد: «سأصرخ في عزلتي، لا لكي أوقظ النائمين. ولكن لتوقظني صرختي من خيالي السجين!» (ص: 35) لكن اللافت في هذا العمل الشعريّ المكتوب أثناء الحصار الممتد، الذي فرضته إسرائيل على الفلسطينيين بعد عودتها لاحتلال الضفة الغربية عام 2002، أن قيد الأسر والسجن الكبير الذي تغلقه الدولة العبرية على ملايين الفلسطينيين، لم يمنع الشاعر من تأمّل العلاقة الإنسانية التي تربط المحاصَر بالمحاصِر، السجينَ بالسجّان. ثمّة إدراكٌ عميقٌ للمشترك الإنسانيّ، رغم ثقل القيد وظلم الحصار. ثمّة أملٌ بتغيّر المحاصِر والسجّان إذ يطول زمن الحصار: «سيمتدّ هذا الحصار إلى أن نعلِّم أعداءنا نماذجَ من شعرنا الجاهليّ». (ص: 11) هناك إشارةٌ ساخرةٌ أيضاً إلى أن المحاصِر مثلُه مثلُ المحاصَر يشعر بالملل والتعب، ويتحوّل إلى سجينٍ لمن يسجنه: «سيمتدّ هذا الحصار إلى أن يحسّ المحاصِر، مثل المحاصَر، أن الضجرْ صفةٌ من صفات البشرْ «(ص: 47) تفتح هذه المقاطع الشعريّة، المكتوبة من وحي الحصار والاحتجاز الجماعيّ القسريّ، أفقاً، لا للتعبير عن تجربة الحصار فقط، بل للقول إن العدوّ يمكن أن يفقد عدوانيّته يوماً ويعي أن المشتَرَك الإنسانيّ أقوى من الحواجز والجدران التي يعلّيها البشر بين بعضهم بعضاً. وفي هذا السياق يمكن أن نفهم السطور الشعريّة الساخرة التي تعاتب فيها الأنا الشعريّة القاتلَ على الجريمة التي اقترفتها يداه: «لو تركت الجنينَ ثلاثين يوماً، إذاً لتغيّرت الاحتمالاتُ: قد ينتهي الاحتلالُ ولا يتذكّرُ ذاك الرضيعُ زمانَ الحصار، فيكبر طفلاً معافى، ويصبح شابّاً ويدرسُ في معهد واحدٍ مع إحدى بناتِكَ تاريخَ آسيا القديمَ وقد يقعانِ معاً في شِباك الغرام وقد ينجبان ابنةً [وتكون يهوديّةً بالولادة] ماذا فعلت إذاً؟ صارت ابنتُكَ الآن أرملةً والحفيدةُ صارت يتيمةْ؟ فماذا فعلت بأسرتِكَ الشاردة؟ وكيف أصبتَ ثلاثَ حمائمَ بالطلقة الواحدةْ؟» لكن هذا النَفَس الساخر، والتصوير الكاريكاتوريّ، الذي يمزج بين المأساة والكوميديا، لا يحرّر السجين - المحاصَر من شراك الإحساس بثقل الحصار والاحتجاز الذي يطول إلى ما لانهاية: (الحصارُ هو الانتظار/ هو الانتظارُ على سلّمٍ مائلٍ وَسَطَ العاصفةْ، ص: 32). كما أن الزمانَ يصير من فرط الانتظار مكاناً ثابتاً لا يتحرّك، ويتبادل الاثنان صيغهما الوجوديّة في تعبيرٍ مجازيّ فلسفيّ عن أثر السجن والحصار في معنى الكون والوجود نفسه، لا في الكائن المحاصّر وحده. فالحصارُ، والسجنُ، والاحتجازُ، والأسرُ، والقيدُ، هي صيغٌ وجوديّة معادية للطبيعة: «في الحصار، يصيرُ الزمانُ مكاناً تحجّرَ في أبدِهْ في الحصار، يصيرُ المكانُ زماناً تخلّف عن موعدِه» (ص: 74)