كان ماكسينس فيرمين بلغ الثلاثين من عمره حين أصدر روايته الأولى "ثلج" عام 1999. وهو ما لبث أن أصدر أخريين: "الكمان الأسود" و"أفيون". لفتت هذه الروايات الأنظار إليه بصفته واحداً من الروائيين الجدد الموهوبين في فرنسا. روايات قصيرة، قليلة الصفحات، تمكن قراءتها في جلسة واحدة. وهي خالية من الصور المبتكرة واللغة الأدبية الباذخة. روايات سهلة القراءة، بسيطة. ومع هذا فقد أقبل عليها القراء بحماسة ومحضها النقاد الاستحسان والتشجيع. يتمتع المؤلف بموهبة واضحة في سبك المتن الروائي وحقل حبكتها الحكائية. كما أنه يجعل من البساطة فنّاً يضفي على اللغة رشاقة حتى تبدو العبارات، بسهولتها وكثافة قولها، قريبة من مقاطع شعرية. ولكن ثمة شيء آخر يسهم في الإنجذاب إلى كتابته: الحكايات الغريبة التي تطلع من التاريخ البعيد وتقع في الأماكن القصية. يغلف هذا برداء من العواطف الرقيقة والمشاعر الناعمة في مجرى سرد يحتفي بالنبرة الرومانسية. في رواية "ثلج" يقرر الفتى يوكو، الياباني، أن يصير شاعراً. في كل يوم يختلي بنفسه ويجلس في ظل شجرة كبيرة ويروح يكتب الشعر. كل يوم يسكب خياله على ورق أبيض. يكتب ببطء فتمر السنوات وهو بالكاد يكتب سطوراً. هو يلاحق الأفكار والصور بمشقة ويكتب عن شيء واحد فقط: الثلج. ينتشر صيته حتى يبلغ البلاط الإمبراطوري الذي يدعوه إلى قراءة شعره أمام الإمبراطور. تخبره فتاة البلاط أن عليه الذهاب إلى أكبر شاعر في اليابان، العجوز ساسيكي، ليتعلم كيف يتخلص من البياض في شعره. فشعره يفتقر إلى الألوان. لقد طغى بياض الثلج على كل شيء فيه. هكذا يقرر يوكو السفر بعيداً إلى الجنوب للقاء الشاعر ساسيكي. ولكن بدلاً من تعليمه كتابة الشعر يروح الشاعر الكبير يروي لزائره الشاب قصة حياته. هي قصة عشقه في الواقع. كان وقع في غرام فتاة أثيرية، بيضاء، جاءت من أوروبا لتؤدي الرقص على حبال مشدودة بين الجبال. كانت أشبه بالطيف. لم تكن جسداً بل كانت ثلجاً. الحال أن الفتاة كانت تدعى: نتفة ثلج. وذات يوم تهوي النتفة من الحبل العالي الممدود بين قمتي جبلين مرتفعين وتختفي. كان ساسيكي صار شاعراً وكان عرف كيف يزين شعره بألوان العاطفة الجياشة والهوى والشوق والسهر. حكاية ساسيكي تجعل الحرارة تتدفق في شرايين يوكو. تجعله شاعراً يقدر على منح الثلج زخرفة وألواناً. ولكنها تجعله عاشقاً أيضاً. وتروي رواية "الكمان الأسود" قصة الفتى جوان كارليسكي الذي يعشق الموسيقى. كان في الخامسة عشرة من عمره حين أبصر غجرياً يعزف على الكمان. في تلك اللحظة قرر جوان أن يصير موسيقياً. وفي الحال تبزغ موهبته وتتكشف عن عبقرية هائلة في العزف على الكمان. حتى أنه يروح يتجول في العواصم الأوروبية ليعزف في أفخم صالاتها وأمام النخب الرفيعة من متذوقي الموسيقى. في عام 1796 يقوم نابليون بالحملة على إيطاليا وينخرط جوان في الحملة كموسيقي للجيش. ولكنه سرعان ما يصاب بجرح ويبقى وحيداً بعد أن تشتتت الفرقة التي كان منضوياً في صفوفها. متروكاً لأمره ينزف ويسلم أمره للقدر والموت. في الليل ينهض من الصمت والوحشة صوت نسائي في أغنية غريبة. كأن سحراً هبط على جوان. ترتعش أوصاله للصوت والأغنية وتمتلأ روحه بقوة هائلة تعينه على العيش. تعينه الأغنية على طرد الموت والنهوض لمواصلة الحياة. في شوارع فينيسيا يتعرف إلى صانع كمانات يدعى إراسموس. هو يصنع كمانات فائقة الجمال. ولكن كماناً بعينه يجذب انتباه جوان. إنه الكمان الأسود المعلق في واجهة بيت إراسموس. كمان متقن الصنع، مصقول، رائع الملمح، دقيق التقاسيم. الغريب أن أراسموس يمنع جوان من لمس الكمان أو العزف عليه دون الكمانات الأخرى كلها. لا يهدأ بال جوان. الفضول الذي يشتعل في داخله يدفعه إلى الإلحاح على اراسموس كي يكشف سرّ الكمان الأسود. ها هنا أيضاً، ثمة حكاية حب. يروي اراسموس قصته مع العشق. يتحدث عن الفتاة التي سحرته وسلبت لبه وجعلته يصنع لها كماناً أسود أفرغ فيه طاقاته في الصنع والابتكار. ولكن من هي هذه الفتاة وكيف سحرت اراسموس؟ إنها السر الذي سوف تتوضح معالمه شيئاً فشيئاً مع تشابك خيوط السرد لينتهي الأمر بجوان نفسه أسيراً للعشق. رواية "أفيون" تمضي بالقارئ إلى الصين هذه المرة. بطلها شارل ستو ابن رجل انكليزي ثري يعمل في تجارة الشاي. يمضي الفتى أيامه يصغي إلى والده التاجر يخاطب زبائنه ويحدثهم بشغف عن الشاي. أنواع الشاي. أسرار الشاي. لذّة ارتشاف الشاي. طقوس شرب الشاي. يسمعه يتحدث عن الشاي الأخضر والشاي الأزرق النادر والشاي الأبيض الذي تقص أوراقه بمقص ذَهَبٍ ويستحيل الحصول عليه. الشاي الأبيض ليس للتجارة. يصمم شارل ستو أن يحصل على الشاي الأبيض. يريد أن يتعرف إلى أسرار زراعته وأماكن تواجده. هكذا يترك أسواق لندن وليفربول ومدن ايرلندا ويمضي صوب "الطرف الآخر من العالم". يمضي إلى الصين. يكتشف أنها عالم قائم بذاته. عالم يكتنز المدهش والغريب. بحثه عن الشاي يقوده إلى أعماق امبراطورية السماء الشاسعة. وحين ينتهي به المطاف، بمساعدة تجار الشاي، إلى قلب مملكة الشاي يتعرف إلى لوشين، التاجر الكبير الذي يحتكر بيع الشاي. ولكنه ليس إلا وكيلاً لإمبراطور الشاي الذي لا يعرف أحد أسمه ولم ير أحد، قط، وجهه. لا شيء يغري لوشن، أو زعيمه، بديلاً من الشاي سوى الأفيون. لقد أدخل الإنكليز الأفيون إلى البلد فصار ندّاً قوياً للشاي. وهو استولى على عقل امبراطور الشاي وقلبه بحيث بات من المستحيل له العيش من دونه. الأفيون هو سلاح شارل ستو كي يقتحم امبراطورية الشاي. يأخذه لوشن عبر جبال منيعة ووهاد سحيقة إلى فسحة خضراء تنبسط فيها نباتات الشاي مثل بساط من المخمل الأخضر. مئات من النساء يقطفن الشاي في صمت وهدوء. في خيمة صغيرة يتكلم شارل ستو مع الإمبراطور. يكتشف أنها امرأة. إنها أمبراطورة. يخاطبها من وراء ستارة رقيقة لا يظهر منها سوى ظلال جسدها ويأتي صوتها مصحوباً بصدى رقيق يبدد أصالته كي يغدو التعرف إليه صعباً. هناك يقع شارل ستو في مصيدة العشق. يتحول شغفه بالشاي إلى شغف بروح رقيقة تأسره وتقيد جوانحه. هل يحصل شارل ستو على الشاي الأبيض أم لا وهل يستعيد توازنه من أثر سحر الهوى الذي أوقعه؟ في رواياته الثلاث يعتمد ماكسينس فرمين على تقنيات الحكايات المتداخلة حيث تقود القصة إلى قصة أخرى وينفتح السرد على مفاصل متشابكة بحيث يبدو الأمر، في الأخير، وكأنه يتعلق بلغز يبحث عن حل. ها هنا أثر من ألف ليلة وليلة. وقد يكون هذا الأثر وراء تعمد الذهاب إلى الأماكن القصية ركضاً وراء الغرائبي والأكزوتيكي. يحضر التاريخ. حروب نابليون، حرب الأفيون. ويحضر المكان البعيد، اليابانوإيطالياوالصين. يصفي الكاتب التاريخ. يرقق أطرافه. يحرره من الحدث ويحوله إلى إطار جمالي للوحات كتابية دقيقة. تبدو الروايات وكأنها حلقات مسلسلة في نص كتابي واحد. ثمة تشابه في الأجواء وأسلوب السرد وطريقة استحضار التاريخ. في "ثلج" يتقصى المؤلف التقاليد اليابانية في الشعر والكتابة: رقة الهايكو ودقته واختزاله. وفي "الكمان الأسود" تحضر الموسيقى في أجواء الرواية وخلفيتها ومكان وقوع الحدث. وفي "أفيون" يؤلف الشاي، كمادة طبيعية وسلعة للتجارة معاً، مشهداً فنياً قائماً بذاته. تحضراليابان في الشعر التأملي، الهادئ ولكن الحاسم في صيغة الهايكو، وتحضر إيطاليا في الموسيقى والعزف والغناء، والصين في الشاي والأفيون. كأن المؤلف يحول الأمصار إلى رموز وإشارات ويلخص التاريخ. وكأنه يريد القول ان الشعر أقوى من الإمبراطوريات وأن الموسيقى أقوى من الحروب ومن خلف كل ذلك ينهض الحب كدعامة ثابتة للحياة. الحياة الهشة التي تبدو مثل حبل معلق بين جبلين من فوق هاوية سحيقة، هي الموت، التي تنتظر أدنى زلة قدم.