«ثلج» هي رواية رقيقة وشفافة كاسمها، مكتوبة بإحساس مرهف، ويصعب تصنيفها، أساساً، كرواية مكتملة الأركان والشروط. حجمها صغير ( 109 صفحات)، يمكن الانتهاء من قراءتها في جلسة واحدة، وشكلها الطباعي أقرب إلى طباعة الشعر منه إلى طباعة الرواية. جملها موجزة، وعباراتها قصيرة ولماحة؛ شبيهة بقصائد الهايكو اليابانية، ناهيك عن لغتها المكثفة، التي تمزج بين رقة العاطفة وبلاغة العبارة والعمق الفلسفي. هذه الصفات أو السمات تشترك معاً، وتتناغم على نحو فريد حتى في الترجمة العربية التي صدرت عن دار المدى (دمشق 2009) بتوقيع عبود كاسوحة. مؤلف العمل هو الروائي الفرنسي مَكْسَنْس فيرمن ( 1968) من الجيل الشاب من الروائيين الفرنسيين. أصدر،إضافة الى «ثلج»، رواية «الكمنجة السوداء»، ورواية «النحَّال»، وما يميز طريقته في الكتابة هو ابتعاده عن الثرثرة المملة، والاكتفاء بالتلمحيات السريعة، وقدرته على عرض أفكار فلسفية ووجودية بلغة شاعرية جذابة. تدور أحداث هذه الرواية في اليابان؛ نهاية القرن التاسع عشر، وهي تنوس بين الواقع والخيال، فالسرد يتصاعد، ويتشعب في ذلك الخط الفاصل بين الوهم والحقيقة، مستفيداً من الثراء الروحي والميثولوجي لثقافة شرقية حافلة بالأساطير، وإن حققت في العقود الأخيرة قفزة تكنولوجية هائلة. تلامس الرواية، بصورة عابرة، موضوعات مطلقة لا تتأثر بسطوة الزمن مثل العشق، والوفاء، والإخلاص، والجمال، والحنين، والعزلة، والتقاليد... بطل هذه الرواية، يوكو أكيتا، يعيش في جزيرة هوكايدو، شمال الأرخبيل الياباني، حيث الشتاء هو الأطول والأقسى مما هو عليه في كافة أرجاء اليابان: «إمبراطورية الشمس». إنه في السابعة عشرة من عمره ويتمنى أن يصبح شاعراً، كي يكتب قصيدة الهايكو المؤلفة من سبعة عشر مقطعاً فقط كل منها من ثلاثة أبيات. والى جانب شغفه بالشعر كان شغوفاً، كذلك، بالثلج الذي يعده (قصيدة تسقط من الغيوم؛ بيضاء خفيفة). لكن أمنيته تصطدم بالتقاليد، وتخالف رغبة والده، الكاهن من طائفة الشنتو، الذي فوجئ بأمنية ابنه: «ليس الشعر بمهنة، إنْ هو إلا تزجية للوقت. فالقصيدة مياه منسابة مثلها كمثل جدول»!. يرد يوكو على والده الكاهن، متأملا المياه الصامتة؛ الجارية: «ذلك ما أنوي فعله، أريد أن أتعلم النظر إلى الوقت وهو يمر»!! فيسأله الكاهن: «ما الشعر»؟، يرد: «إنه السر الذي يفوق الوصف». هذا الحوار الفلسفي الذي يشغل مساحة واسعة في الرواية، لا يثني يوكو عن غايته، إذ كتب خلال صيف واحد 77 هايكو، إلى أن اصطحبه والده إلى سفوح جبال الألب اليابانية، ودله على قمة حيث تلبث الثلوج الأبدية، وقال له: «لا تعد إلا بعد أن تعرف محارباً أو كاهناًً». وحين عاد بعد سبعة أيام سأله والده: «هل عثرت على دربك»؟، أجابه الفتى: «بل على ما هو أفضل يا أبي، عثرت على الثلج». وخلافاً لما توقع الأب، انضوى يوكو في شتاء عام 1885 تحت لواء الشعر، فقرر ألا يكتب إلا تمجيداً لجمال الثلج، وعرف أنه لن يسأم، أبداً، من تلك الحياة البرّاقة. في أحد الأيام علم شاعر ذو شهرة في بلاط الإمبراطور ميجي بأعمال يوكو، فتوجه إلى قريته، واطّلع على قصائده، فأعجب بها، واعتبرها «عملا لا يبارى، فالكلمات اغترفت من ينبوع الجمال، وفي النصوص جرس موسيقي أصيل» لدرجة تنبأ معها بأنه سيصبح الشاعر الرسمي، من بعده، في بلاط الإمبراطور. لكنه أبدى ملاحظة غريبة: «هي خالية من الألوان، فكتابة ابنك يخاطب والد الشاعر بيضاء حتى السأم، بل توشك ألا تُرى. عليه أن يتعلم تلوين القصائد». ويقترح أن يذهب الشاعر الشاب إلى جنوباليابان ليتعلم الفن والتصوير والتلوين على يد أحد أبرز المعلمين، وهو العجوز الضرير سوزيكي، «حتى لا تبقى قصائده بيضاء غير مرئية في عيون العالم». يقصد الشاعر المبتدئ المعلم، فعلا، وسوف يصادف في الطريق الطويل والشاق جثة امرأة، غاية في الجمال، مدفونة في الثلج، وسنكتشف لاحقاً بأنها تلك المرأة التي عشقها المعلم سوزيكي بعد هجرته لحياة المعارك كمحارب من الساموراي: «سوزيكي أعظم فنان في اليابان. يعرف التصوير والموسيقى والشعر وفن الخط والرقص، ولكن ما كان لفنه أن يبصر النور لولا حب امرأة». اعتزل الحياة إثر رحيلها ليتفرغ لرسمها عبر آلاف المحاولات إلى أن «استهلك عينيه وهو يتأمل صورة المرأة المفقودة»، ولعل أغلى ما تلقاه يوكو من المعلم هو ابنته، ثمرة ذلك الحب، والتي عشقها الشاعر الشاب وراح يعيش معها حالة حب مماثلة لحالة معلمه الذي رحل. «ثلج» هي حكاية رمزية معبرة، تروي شغف الإنسان بالحب والفن والجمال، وتتخذ من الشعر نموذجاً لإظهار هذه النزعة. الشعر أكثر الفنون التصاقاً بوجدان الإنسان وروحه، وهو، هنا يناسب أجواء هذه الرواية التي تتصدر فصولها قصائد الهايكو لشعراء يابانيين معروفين. تحيلنا الرواية إلى أساطير الشرق الأقصى التي تكن تقديراً عميقاً للشعر. هو تقدير ينطوي على فهم خاص للشعر وأساليبه ووظائفه، فعلى نقيض النظريات الغربية في فن الشعر والتي تتصف عادة بالصرامة والجدية، فإن منظري تلك البقاع جعلوا آراءهم حول الأدب ذكية ومكثفة، ساحرة وعميقة، وهم يرون أن الرؤية المغلّفة بنبرة روحية يمكن أن تكشف النقاب عن المصادر المعتمة للشعر. بل إن الشعراء، من وجهة نظر تلك الثقافة، هم «مهنيو حرفة إلهية». من هنا، فإنهم يعزون إلى الشعر قوى خارقة، فهو «يقوِّم الخطأ، ويحرك السماء والأرض؛ الأرواح والآلهة». هذه التأملات والرؤى يستثمرها فيرمن بصورة ذكية، فعلى رغم لغته الناعمة؛ «الهشة والبيضاء» بحسب تعليق أحد النقاد، إلا انه يستلهم التكثيف الموحي للقصيدة اليابانية القديمة، ويرسم ملامح علاقة وثيقة تربط بين الفن والحب، وكأنهما صنوان لا بد من حضورهما معاً في قلب الفنان، كما نجد تعليقات تستبطن الكثير من مفردات الثقافة اليابانية، وأمجاد سلالاتها الضائعة. عبر البوح والمكاشفة وتسجيل الحالات المختلفة للروح والوجدان، يعمل فيرمن لانجاز هذه الرواية «المضيئة»، تماماً كالثلج الذي يسيطر على مشاعر واهتمامات بطله. يوكو مولع بالثلج، والشعر. لكنه يفتقر إلى الألوان الضرورية لفنه، فيعثر عليها عند نهاية سفره، وتعليمه على يد العجوز الأعمى، فيدرك، عندئذ، بأن ألوان الحياة مختزنة في روح الفرد، وعليه أن يخوض امتحاناً صعباً حتى يتمكن من اكتشاف العالم البهي من حوله:» ليس اللون في الخارج، إنه في الذات»، مثلما أن «الضياء الحقيقي والألوان الصحيحة تظل، إلى الأبد، مرتبطة بجمال الروح».