رسخت أوروبا، ومنذ زمن بعيد، تجاه الإسلام والمسلمين فضولاً اكتسى صيغاً ومواقف متضاربة. يتراوح هذا الفضول بين الغواية والنبذ والحقد. وبعد أحداث الحادي عشر من أيلول سبتمبر 2001، تكاثفت الظاهرة على أسس ومقتضيات جديدة. مثال واحد كفيل بإنارتنا في هذا المجال: إقبال الجمهور الغربي والفرنسي تحديداً على اقتناء القرآن الكريم وقراءته بحثاً عن أجوبة ترتبط بأسباب أو جذور العنف، تنظيم القاعدة، بمعنى أنها أسئلة مقننة ولكن مغرضة في توجهها وغائيتها. وعليه صنف المصحف الكريم في قائمة أفضل المبيعات، ناهيك بالإعلام الذي واكب الإسلام للتشهير به. وفي هذا الاتجاه أقرت دور نشر فرنسية عدة في برامجها دراسات وأبحاثاً عن الإسلام بقلم مبتدئين أو "اختصاصيين" مهمتهم الحديث والإفتاء من دون ورع وفي طريقة الحكي نفسها، على الشاشات التلفزيونية وفي الجرائد والمجلات، في مواضيع مثل الحجاب، منظمة القاعدة، العلمانية والأصولية... وبعد اختفاء المستشرقين الكبار مثل غولدزهير، ريجيس بلاشير، جاك بيرك، لوي ماسينيون، الذين أسهمت مقارباتهم إلى حد كبير في إعادة تأسيس مقاربة جديدة للإسلام، احتل اليوم المشهد "مؤولون" جدد تعوزهم الثقافة الصلبة للخوض في قضايا الإسلام. وفي غمرة سيل الدراسات والأبحاث يتعذر اليوم التمييز بين الدراسات العلمية والمحاولات النقدية - الأيديولوجية التي لا تعدو كونها في أحيان كثيرة مجرد مقالات صحافية مطولة، إلى درجة أن لكل ناشر "خبيره المتخصص" في الشأن الإسلامي. ولكن مع طارق رمضان، عرفت فرنسا شوطاً من نوع آخر في السجال والمطارحات في موضوع الإسلام، لم يخرج منه مسلمو فرنسا وأوروبا في حال من التألق. إذ اكتنف النقاش الكثير من التشويش والمزايدات. في الآونة الأخيرة بدأ الحديث عن مفكرين جدد، كوكبة يمكن أن نطلق عليها تجاوزاً اسم الإصلاحيين الحداثيين، منهم من هو معروف لدى الجمهور الفرنسي بحكم مسؤوليته البيداغوجية التربوية والأكاديمية في الجامعات الغربية مثل محمد أركون، أو بفضل ترجمة بعض نصوصه إلى الفرنسية أو إلى لغات أخرى مثل محمد الشرفي أو نصر حامد أبو زيد. لكن نصوص الكثير منهم لم تجد طريقها إلى الجمهور، وبالنتيجة تبقى أطروحاتهم وأبحاثهم في مجال الدراسات الإسلامية طي الصمت. في اعتبار رشيد بن الزين، باحث في مجال التفسير القرآني، والناشط في الضواحي الباريسية لتوعية الشباب المسلم بأهمية مساءلة القرآن بأدوات منهجية حديثة، ثمة أسماء أخرى يجب إضافتها إلى كوكبة المؤولين المشهورين مثل فضل الرحمن، أمين الخولي، وفريد إسحاق. ثمة عائلة فكرية منسجمة حتى وإن تباينت المشارب والتوجهات، تضم المؤرخ، المتخصص في مجال القانون الإسلامي أو التفسير القرآني. انهم لا يطلقون على أنفسهم هذه التسمية، بل يجمعهم شعور بضرورة إعادة التفكير في الإسلام من منطلقات جديدة وبأساليب منهجية حديثة. يقترحون مقاربة الإسلام بطريقة تقوم على المزاوجة بين الموروث الروحي والديني والأساليب المنهجية الحديثة لقراءة المتن الديني. وهم بذلك يسعون إلى تأسيس حداثة إسلامية توفر سبل إجراء حوار حقيقي بين الإسلام وبقية الديانات. ويجد فيهم الكثير من المسلمين أملاً، حتى وإن كانوا عرضة لقمع السياسيين وفتاوى المتطرفين. في مؤلفه "مفكرو الإسلام الجدد"، منشورات ألبان ميشال، يقدم رشيد بن الزين تركيبة لبانوراما هذا الفكر البديل النقدي. يشير إلى أن مناقشة قضايا الإسلام، غالباً ما تتم عبر خطاب سياسي مسخر لمصلحة تيار إسلامي أو أيديولوجية معينة. نادراً ما يقارب الإسلام كديانة، كمعتقد، وكفكر روحي ما فتئ يغذي في شكل سلمي مئات الآلاف من البشر. الصورة التي كونها الغرب عن الإسلام والعالم الإسلامي تعكس في عمقها تصوراً متجانساً، غيبياً في خطوطه العريضة وغير قادر على إفراز تجديدي بغية مسايرة الظروف الجديدة للبشرية. ولكن ما فتئت تطورات كثيرة تنبثق في العالم الإسلامي، ثرية، متناقضة، بل متعارضة أحياناً تذكرنا بأن العالم الإسلامي كيان متعدد وفي طور صيرورة دائمة. يعرف بالخصوص انبثاق شريحة من المفكرين رجالاً ونساء يمكننا النظر إليهم كمفكرين جدد. قد تبدو وصفة "مفكرين جدد" إلى حد ما اعتباطية، بيد أن القاسم المشترك الذي يربطهم هو ضرورة مساءلة الإسلام وإعادة النظر في طرق التأويل والتفسير التي رافقت مسيرته وذلك بإخضاع المتن القرآني حديث - سنّة لمحك العلمية، وبخاصة تعبئة أساليب البحث في العلوم الإنسانية بغية إنتاج هيرمينوتيقا قرآنية جديدة شرط أن تتماشى مع إحداث شروط إنتاج ديموقراطي في العالم الإسلامي حتى يتسنى لها توفير حرية التعبير لكل مواطن. يطلق رشيد بن الزين على هؤلاء المفكرين تجاوزاً تسمية الإصلاحيين. لكن الإصلاح، يشير المؤلف، ليس وليد اليوم. فعلى فترات من تاريخه، عرف العالم الإسلامي موجات كثيرة كان هدفها إعادة إحياء العالم الإسلامي إما نتيجة لصحوة إسلامية أو على أثر نكوص ما. تبعاً لهذا يشار إلى حركة التحديث التي أنعشت الحياة الفكرية - السياسية - الدينية في منتصف القرن التاسع عشر إلى غاية 1940 حول أفكار أو أطروحات جمال الدين الأفغاني، محمد عبده... جهد التحديث يندرج في ظروف خاصة. صحيح أن الآباء المؤسسين للحركة الإصلاحية كانوا ميالين إلى خطاب تقريظي للإسلام. "العيب كامن في المسلمين لا في الإسلام"، كان أحد التوجهات التي شدد عليها الإصلاحيون الأوائل. وإن عاش هؤلاء في ظروف سياسية اتسمت بهيمنة الاستعمار، فإن المفكرين الجدد ظهروا في شروط تتميز بهيمنة السلطة المناهضة لانبثاق أي إصلاح سياسي أو فكري. عاش هؤلاء في ظل أكثر من نظام لا ديمقراطي: قومي، اشتراكي، شيوعي، إسلامي. كانوا أيضاً شهوداً على وقاحة الغرب ومعارضته حركات التحرر العلمانية وتشجيعه للأصوليات قبل الارتداد عليها بصفتها "منبعاً للشر". وعليه فالمفكرون الجدد عرضة لحملات الأنظمة الاستبدادية، للعلماء المحافظين والأصوليين. الحداثة بالنسبة الى الإصلاحيين الأوائل كانت تعني التوفيق بين الإسلام ومكتسبات العلم الوضعي للقرن التاسع عشر، مع عدم المساس بالأسس القانونية والاجتماعية. كانت الاستراتيجية تقوم على التوفيق بين السلف والعلم في بعده العقلاني. أما المفكرون الجدد فينظرون إلى العقل على أنه ملكة، خاصية تتشكل ضمن ممارسات وخطابات متعددة. يعتبرون الحداثة لحظة من التاريخ البشري، يدمغها فعل العقل وتتميز بأسبقية العلم على النقل والتقليد. ثم أنه في قلب الحداثة هناك فكرة الفرد الفاعل والمستقل. ومن المآخذ التي توجه الى المفكرين الجدد، تأثرهم بالمفكرين الفرنسيين فيما انصب نقد هؤلاء على الغرب بكيفية نسقية ودقيقة توازي نقدهم للموروث الإسلامي. ينتقدون الغرب في جنوحه إلى فرض قيمه قسراً. وعليه فإن مناهج الحداثة العربية يجب ألاّ تستنسخ بالحرف. الحداثة تعني الأنوار النقدية التي طورتها المعارف الحديثة وبخاصة في مجال العلوم الإنسانية من لسانيات، سيمولوجيا، تاريخ، سوسيولوجيا... وطموح هؤلاء المفكرين دراسة القرآن والتراث طبقاً لمتطلبات مناهج علمية دقيقة ومستقلة. منذ العقود الخمسة الأخيرة تخرج في الجامعات العربية ذات التعليم الحديث والعلماني آلاف المهندسين، الأطباء، التقنيين... لم يعد التعليم حكراً على رجال الدين، الذين أنشأوا تجمعاً انفرد، بل احتكر ممارسة التأويل. المفكرون الجدد هم بدورهم محصلة ل"دمقرطة" التعليم. فيهم رجال دين محترفون لكنّ اختصاص الغالبية لا يقتصر على الفقه الإسلامي فحسب، بل انهم يشكلون قطيعة مع الإصلاحيين الأوائل. إحدى الأفكار الرئيسة المؤسسة لمسعى هِؤلاء المفكرين هي تحديث المجتمعات الإسلامية علمياً وتكنولوجياً، وهذا المطلب يفترض إعادة النظر في المتن الأول للتفسير التقليدي، في طرق التفكير في الإسلام بصفته نسقاً متكاملاً. يجب إذاً تحديث الخطاب الديني وأحد الأسئلة التي ينبغي طرحها يدور حول طبيعة القرآن وتفسيره وطرق التفكير في القرآن. هل يجب إعادة تحديث هذه الأطروحة بالتشديد على أن القرآن هو الوحي الإلهي أم أنه ابن مكانه وزمانه أيضاً؟ هل يفهم القرآن بصفته لغة وخطاباً؟ على أية مقومات يجب تأسيس هيرمينوتيقا قرآنية قادرة على تقديم تفسير جديد للقرآن يتماشى مع حاضرنا وزمننا اليوم؟ الأسئلة التي يطرحها المفكرون الجدد هي بمثابة قاسم مشترك للكثير من المسلمين على تباين انتماءاتهم وأصولهم الثقافية - الاجتماعية. الأسئلة التي يحاول هؤلاء المفكرون طرحها تعني زمن الحداثة المثخن بعنف الحداثة. المسلمون اليوم بحاجة إلى منابر للنقاش والتبادل الفكري الحر ضمن مقاربات جريئة ورؤى نقدية تعكس خلو الفكر من مشاعر الاستبداد، الجهل والسلطة. * كاتب مغربي مقيم في فرنسا.