يُعد برنارد لويس (1916) آخر ممثل للاستشراق الكلاسيكي بعد مكسيم رودنسون وكلود كاهين ولويس غارديه وسواهم، وقد اكتسب موقعه العلمي كمتخصص في الفترة العثمانية، إلاّ أن شهرته أتت أيضاً بسبب دعمه لإسرائيل، ما دفعه إلى التبرع بمكتبته إلى مركز موشيه دايان بعد وفاته، وكانت له مواقف ربما لم تكن مفاجئة حين أنكر المجازر التي قام بها العثمانيون بحق الأرمن، كما أنه يعتبر من بين أكثر الكتّاب الغربيين قرباً من دوائر صنع القرار في الولاياتالمتحدة، وطالما سعى إليه السياسيون الأميركيون عبر مراكز بحثية انخرطت في العمل السياسي، خصوصاً بعد أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001، أي تلك المراكز التي تسمى في الولاياتالمتحدة ب «خزانات الفكر» think tank. ولد لويس من أسرة يهودية في لندن، وفي عام 1936 تخرج في كلية الدراسات الشرقية والأفريقية في بريطانيا، وحصل على الدكتوراه من الكلية نفسها. ويُجيد لويس اللغات العبرية والآرامية والعربية واللاتينية واليونانية والفارسية والتركية، وهو الآن أستاذ فخري بريطاني - أميركي لدراسات الشرق الأوسط في جامعة برنستون في الولاياتالمتحدة (حصل على الجنسية الأميركية عام 1982) وما زال يحتفظ بهذا المقعد إلى اليوم، ومعلوم أن الجامعات الأميركية لها تاريخ في استقدام المستشرقين لدعم الدراسات العربية والإسلامية لديها، ومن بين هؤلاء هاملتون جب الذي استقدمته جامعة هارفرد، غوستاف جرونبوم الذي دعته جامعة كاليفورنيا. ينتمي لويس إلى الاستشراق الأميركي الجديد أي ذلك الاستشراق الذي أحدث تحولاً وظيفياً من خلال انتقال المستشرق التقليدي إلى خبير ومستشار في مراكز البحث الأميركية التي ترسم السياسات الخارجية تجاه العالم العربي والإسلامي، إذ اعتمدت الإدارة الأميركية، خصوصاً في عهد جورج بوش الابن على خلاصات بعض المناوئين للعرب والإسلام وفي طليعتهم مارتن كريمر (تلميذ لويس)، ودانييل بايبس. بعد حرب الأيام الستة كتب لويس أول مقال له حول الصراع العربي - الإسرائيلي واستنتج «أن الإنسان الذي يتمتع بإرادة طيبة من الصعب أن يكون معادياً لإسرائيل من دون أن يكون ضد العرب». وضع لويس حوالى ثلاثين مؤلفاً الجزء الأكبر منها يعالج قضايا الإسلام وتاريخ الامبراطورية العثمانية والدراسات الشرق أوسطية، كان آخرها «Faith and Power: Religion and Politics in the Middle East» (الإيمان والسلطة: الدين والسياسة في الشرق الأوسط - 2010). ولم يكن صاحب «فرقة الحشاشين» بمنأى عن الحركات الاحتجاجية في العالم العربي، وقد أطلق بعض التصريحات، وهو الذي قدم النصحية لواشنطن وأوروبا من أجل الإقرار بالإسلاميين إثر وصولهم إلى السلطة. وقد رأى أن هذا الأمر يسمح بتحييد الاتجاه الإسلامي الراديكالي، وسيدفعهم إلى الاعتراف بإسرائيل أو على الأقل عدم المساس باتفاقيات السلام الموقعة، كما أنه راهن على الصراع المذهبي ما يؤدي إلى تخفيف الضغط على إسرائيل. (هاشم صالح: الانتفاضات العربية على ضوء فلسفة التاريخ). لعب لويس دور المنظّر لليمين المحافظ الجديد في أميركا، وقد اشتدت الحاجة إليه بعد أحداث الحادي عشر من أيلول، والأطروحة الأساسية التي دافع عنها وضعها في كتابين: «ما الذي حصل؟ الإسلام، والغرب، والحداثة» (2002)، «أزمة الإسلام حرب مقدسة وإرهاب غير مقدس» (2003). وينطلق في قراءاته لهذا الحدث من فكرة كراهية المسلمين للغرب المتأسسة على مفهوم أن الله له أعداء، وأنه يحتاج إلى مساعدة الإنسان لتحديهم والتخلص منهم، ويرى أن ما حدث ليس غريباً، بل يُعبر عن جوهر الإسلام والمسلمين، فالإسلام فرض الجهاد، والجهاد يعني القضاء على غير المسلمين باعتبارهم كفاراً. وبعد تحديده لمفهومي الجهاد الأخلاقي الهادف إلى ترويض النفس وتهذيبها، والجهاد الحربي الذي افتقد في العصور الحديثة قداسته بينما حافظ على بُعده الحربي البحت القائم على العنف والإرهاب، أدى الأمر في رأيه إلى تشويه صورة المسلمين ودينهم في العالم، لذا دعا المسلمين العقلاء إلى «أن يوجهوا تأنيبهم لهذه الحركات الأصولية، من دون أن ننسى أن معظم المسلمين ليسوا أصوليين، ومعظم الأصوليين ليسوا إرهابيين، ولكن معظم الإرهابيين في العالم اليوم هم من المسلمين». اعتبر لويس أن التأخر الحضاري للمسلمين يعود إلى الانغلاق اللاهوتي، وأن الإسلام هو ضحية الانسداد الراهن منذ قرون عدة، ويحدد القرن الرابع العشر بداية تاريخية، إلاّ أنه يستدرك أن الحضارة العربية – الإسلامية أخذت من التراث الإغريقي- الروماني وسبقت الغرب على المستوى الاقتصادي والثقافي لفترة طويلة، وما لبثت أن سقطت ذاتياً، في موازاة النهضة الأوروبية التي بدأت بالنهوض الحضاري بدءاً من لحظة تراجع المسلمين. لكن مشكلة لويس، مع أهميته العلمية كمتخصص في التاريخ العثماني، اعتماده على المنهجية التقليدية في علم التاريخ، إذ إنه لا يموضع الظاهرة المدروسة في سياقها الطويل كما فعلت مدرسة الحوليات الفرنسية. يعتقد لويس أن الإسلام يفتقر إلى النقد التاريخي للنصوص الدينية، كما حصل في المسيحية الغربية، وقد عمق فرضيته في كتابه المشار إليه سابقاً «أزمة الإسلام»، وهو لا ينكر وجود اتجاه عقلاني/ نقدي حين كان المسلمون في ذروة حضارتهم و «لا ريب في أنه وُجِد لاهوت عقلاني أو ليبرالي أيام المأمون والمعتزلة والفلاسفة وابن رشد، ولكنه ضمر ومات منذ زمن طويل، وانتصر عليه التيار الحَرْفي المتشدد منذ سبعمئة سنة على الأقل أي التيار المتمثل بالمذهب الحنبلي. وربما وجد اللاهوت الليبرالي أي التفسير العقلاني الحر للدين مستقبلاً في الإسلام كما حصل في المسيحية الأوروبية بعد عصر التنوير، أما الآن فلا يوجد شيء من هذا القبيل، وهذا الفهم الانغلاقي يتعارض كلياً مع الحداثة العلمية والفلسفية المعاصرة». تأكيد برنارد لويس التضاد بين الإسلام والحداثة بسبب الفهم الانغلاقي للدين دقيق في بعض جوانبه؛ الإسلام يعاني من مرحلة نكوصية، لكنه يحاول استعادة التحديث، وإن ببطء شديد، وليس من الممكن القول إن المسلمين اليوم في حال من الجمود اللاهوتي، أقله على مستوى النخبة أو الإنتلجنسيا، إذ ثمة محاولات حثيثة لإحياء لاهوت إسلامي إصلاحي، وهذا العبور ليس عاملاً طارئاً، فقد شهده التاريخ الإسلامي في مراحل مختلفة بدءاً من المعتزلة، وتابع مسيرته مع الإصلاحيين في الإسلام زمن النهضة العربية الأولى، وهو اليوم يستعيد مسيرته مع رواد النهضة العربية الثانية التي أسس لها العقلانيون العرب من أمثال محمد أركون ونصر حامد أبو زيد وهشام جعيط وطه وعبد الرحمن ومحمد عابد الجابري وعبد الله العروي وغيرهم الكثير، على رغم اختلاف مشروعاتهم الفكرية، لناحية الإشكاليات وكيفية معالجتها. وصحيح أن جهد هؤلاء لم يلق صدى على صعيد المناهج الحديثة التي من المهم أن تطبق في الجامعات ومعاهد الدراسات الإسلامية وكلياتها، وأن خطابهم التفاكري/ النقدي يصطدم بالواقع، لكن هذا لا يمنع أن الجهد المعرفي الذي أكمله هؤلاء المبدعون إنما هو دائرة من الدوائر الإصلاحية/ الحداثوية التي عرفها الإسلام في تاريخه الغابر والحاضر. درس لويس العلاقة بين الفرد والدولة في الأدبيات السياسية الإسلامية في عدد من بحوثه، وخلص إلى أن الذهنية الإسلامية لها طابع «ذري» أي أنها لا تستطيع النظر إلى الأمور نظرة شاملة نتيجة بنيتها التجريدية. وقد أخذ على المسلمين مسألة منع الخروج على الحاكم، وبحث في النصوص الإسلامية التي تؤكد إذعان الفرد للسلطة من بينها بعض الأحاديث النبوية ونص لابن جماعة حول «البيعة القهرية». (مازن مطبقاني: منهج المستشرق برنارد لويس في دراسة الفكر السياسي الإسلامي، نسخة رقمية). وفي مقال تحت عنوان «الإسلام والشيوعية» (مجلة الشؤون الدولية في لندن كانون الثاني/ يناير 1954)، رأى لويس «أن التاريخ السياسي للإسلام كان أوتوقراطياً بالكامل، باستثناء الخلافة الأولى حين كانت الفردانية الفوضوية للقبيلة العربية ما زالت فاعلة. وقد وصف هذا التاريخ بالأوتوقراطية، لا الاستبداد، لأن الحكم كان مرتبطاً بالقانون الديني ويرجع إليه، وكان هذا القانون مقبولاً كحاكم عادل يحفظ سلطة القانون الديني (الشريعة) التي تحفظه بدوره، لكنه كان متسلطاً، وظالماً في الغالب وطغيانياً أحياناً، لقد غلبت على الفكر السياسي للإسلام أقوال مأثورة أن الظلم أفضل من الفوضى وينبغي إطاعة الحاكم». لكن لويس تناسى أن من حق المسلمين مراقبة الحاكم ولهم حق المشورة، كما أن عدم الخروج على السلطة، كان له سياقه التاريخي وأسبابه، عدا أن صوت المعارضة في الإسلام التاريخي شهد أزمة احتجاجية دائمة. تصدى كثيرون لمقولات لويس وفي طليعتهم المفكر الفلسطيني الراحل ادوارد سعيد صاحب الأطروحة الشهيرة «الاستشراق»، وقد أحدثت أفكاره تأثيراً في مجمل الخطاب الاستشراقي الذي بدأ اليوم يندرج تحت مسمى دراسات الشرق الأوسط. لويس من أبرز البحاثة الغربيين في الحقبة العثمانية، إلاّ أنه قارب الإشكاليات التي يطرحها الإسلام من الخارج، ولم يطبق مناهج العلوم الاجتماعية الحديثة، ولم يأخذ بمدرسة الحوليات الفرنسية. يبقى أن الرجل البالغ من العمر 97 سنة ما زال من أهم المستشارين حول قضايا الشرق الأوسط في الولاياتالمتحدة وأوروبا.