موضع التساؤل في العنوان هو التفاوض وليس الشيشان وافغانستان. لكنه يتضمن كذلك اعتقادا بأن الطالبان والمقاتلين الشيشان طرفان سياسيان، لا بد من التعامل معهما هكذا. وهو ما يقتضي تغليب منطق السياسة على منطق الإلغاء والاستئصال الذي يمارسه الطرفان الأميركي والروسي. السؤال إذاً: ماذا لو كان السبيل الوحيد إلى شيء من الاستقرار ووقف النزيف البشري والمادي في افغانستان هو التسليم بأن الطالبان طرف أفغاني لا يمكن تجاوزه، لكن ربما أمكن دمجه سياسيا عبر الاعتراف به والحوار معه؟ وماذا لو لم يكن أمام الروس غير الجلوس إلى طاولة التفاوض مع المقاتلين الشيشان والانتهاء من وهم باهظ الكلفة تجاوز عمره عشر سنوات: وهم إخماد المشكلة بالقوة؟ ليس في ذلك اي دفاع عن طالبان أو المحاربين الشيشان، إنه دفاع عن السياسة. فهي مخطوفة اليوم من قبل الحرب وعقائد المطلق معاً. وقد يكون هذان هما الشيء ذاته. فإحلال العقيدة محل السياسة، أو إضفاء طابع عقيدي على نزاعات السياسة وسجالاتها و"معاركها"، من لوازم الحرب وعدتها الضرورية. وهو في الوقت نفسه مانع من التسييس ومضاد له. فحين يكون "الصراع" بين خير وشر، بين حق وباطل، بين إلهنا الحقيقي والصنم الذي هو إلههم وفقا لما تبرع بقوله عن "عدوه الصومالي" الجنرال وليم بويكن في حزيران/يونيو 2003، تكون الحرب السياسة الوحيدة الصحيحة، وإبادة العدو السلوك الأعدل. فحرب الإبادة ليست العلاقة الوحيدة الممكنة بين المطلقات النشطة لا تكون المطلقات نشطة دائماً بل الحل العادل لمشكلة التعايش المستحيل بين المطلقات العاملة. والحال ان التضييق على السياسة أو إخراج النزاعات الإنسانية من مجالها التفاوض والتسوية والحلول الوسط والتنازلات المتبادلة... أقرب إلى أن يتسبب بانتشار الإرهاب وتعميمه من أن يكون العلاج الشافي له. هنا تصح أطروحة هابرماس التي تقول إن تثقيف السياسة، سواء بتجميلها إسباغ طابع جمالي عليها او حلول نزعة أخلاقية متشددة محلها أو إخضاعها لتعاليم عقيدة ما، يكمن في جذر الإرهاب. فالإرهاب بهذا المعنى توسع ثقافي على حساب السياسة، أو احتلال الثقافة لأرض السياسة وإزالة نصابها ومصادرة استقلالها. إذا صح ذلك فإن المقاومة الناجعة للإرهاب تمر بصورة محتومة عبر إعمار السياسة والاستثمار المادي والفكري في قيام نصاب لها مستقل، أي الرهان على قوام ذاتي لها وحمايتها بثقافة سياسية تفاوضية ومدنية. وليس للإدانة المستحقة للأفعال الإرهابية للشيشانيين أو الطالبان أو غيرهم ان تحول دون إبراز الجذر السياسي للمشكلة الشيشانية او لحيازة الطالبان صفة تمثيلية لا يبدو من السهل الالتفاف عليها. لا شيء يسوغ اختطاف الأطفال والتسبب بقتلهم في اوسيتيا، لكن امتناع التسويغ لا يمس ضرورة الفهم ووجوب السياسة في شيء. تلقت السياسة لطمة قوية في 11 ايلول سبتمبر 2001 على يد تنظيم القاعدة، لكن تلك الضربات الإرهابية الملحمية كانت بداية عصر سياسي عالمي جديد، دانت الريادة فيه للقوة الأعظم. وفي تقديرنا أن 11 ايلول كان الفرصة التي أتيحت للولايات المتحدة لحل مشكلة اللاتوازن العالمي الناجمة عن زوال الاتحاد السوفياتي، والتي عبر عنها خلال قرابة عقد من السنين ما سمي بنظام القطب الواحد. الحل هو التحول من القطب الواحد إلى "الامبراطورية"، أي نشر أدوات النفوذ الأميركي الفعال في ارجاء العالم جميعاً، بما يمكّن واشنطن من احتلال موقع ممتاز للتحكم بالتفاعلات الاستراتيجية والاقتصادية الدولية جميعا. أما المنهج فهو القوة العسكرية حيث تتمتع أميركا بميزة تفاضلية لا تضاهى. لقد تواطأت حداثة العصر السياسي الجديد في البدايات تعود السياسة إلى أصلها: العنف مع الميزة الأميركية في مجال الحرب، على تهميش السياسة أو تضييق مجالها. وبالمقابل تم توسيع مجال الحرب وتطبيعها، أو اعتبارها خيارا مكافئا لغيره إن لم يكن متقدما عليه. وليس من الغريب أن يكون السيد جورج بوش ممن يضيقون ذرعا بدقائق الأشياء وتعدد وجوهها مع التوكيد على أن الوضوح الأخلاقي أمر مهم. لكن دقائق الأشياءnuances إنما هي الفرق بين الحرب والسياسة. فالأخيرة تمييز واختيار بمقتضى الفوارق. وليس من شأن التضحية بفوارق المعنى وظلاله وتلويناته أن تفضي إلى غير حكم الغريزة وترقية العمى إلى مستوى فضيلة سياسية. الحرب تهمل الفوراق أو تغض من شأنها، أما الإرهاب فلا يستطيع إقامة فسطاطيه دون إنكار نشط للفوارق. لماذ نتحدث عن رفض الأميركيين والروس للسياسة؟ وهل ينبغي أن "يتكتف" الطرفان حيال ما يتعرضان له من ضربات إرهابية حتى يوصفا بأنهما سياسيان؟ الواقع أن تهميش السياسة لم يترتب على محض مبادرة الولاياتالمتحدة إلى الرد الحربي الساحق على عدوان إرهابي تعرضت له. فقد كانت حرب أفغانستان مشروعة من وجهة نظر القانون الدولي بوصفها ردا على عدوان غير مسبوق باستفزاز. وشرعيتها التي تعني أنها تخضع للمعايير المقبولة في العلاقات بين الدول هي ذاتها التي تضمن خضوعها للسياسة، إذ تجعل منها وسيلة في خدمة غاية سياسية متعارف على سلامتها. فليست الحرب بحد ذاتها إنكارا للسياسة، بل إنها من مقتضياتها الأكيدة حين تكون دفاعا عن النفس. إن النزعة الرافضة للحرب رفضا مبدئيا نزعة مضادة للسياسة مهما أمكن لها أن تكون جديرة بالثناء من وجهات نظر اخرى، قدر ما هي كذلك النزعة الحربية المبدئية من النوع النازي أو من النوع الإسرائيلي او من النوع القاعدي. ما وقع بعد 11 ايلول هو الانتقال السريع من الرد على عدوان إرهابي إلى استغلال شرعية الرد من اجل تطبيق اجندة لم تنشأ عنه ولا ترتبط به ارتباطا ضروريا. حرب العراق أكبر من ان تكون مثالا على هذا الانتقال. إنها نموذج لترتيب طموح وبعيد المدى لعالم القرن الحادي والعشرين، نموذج تحتل الحرب والنزعة الحربية موقعا تأسيسياً فيه. وهذا، بالذات، وبصرف النظر حتى عن تزييف الذرائع لشن الحرب اصلا، ما يجعل من الحرب الأميركية هناك حربا غير شرعية. فليس ثمة ما يتنافى مع الديموقراطية بصورة اشد جذرية من اتخاذ العراق مثالا إيضاحيا لها أو نافذة عرض للمشروع الأميركي الخاص بإعادة تشكيل "الشرق الأوسط". والأرجح أن مشكلة موسكو في الشيشان تصدر عن آلية مماثلة رغم التعارض الظاهر في الأهداف. فبينما تريد واشنطن نشر العدوى الديموقراطية، تخشى موسكو من عدوى الاستقلال الشيشاني، مع ما يعنيه ذلك من ان المشكلة الشيشانية لا تعالج لذاتها القدر المناسب سياسيا من العنف بل لتعطي درساً ينال الشيشان نصيبهم من العنف مضافاً إليه علاوة تعليمية. هنا وهناك، الحرب ليست استمرارا للسياسة بوسائل اخرى حسب الرهان العقلاني والمتفائل لكلاوسفيتز، بل هي بديل عن السياسة، أقلّه حيال الأطراف التي تجمع بين الضعف إلحاق الهزيمة بها ميسور وآمن وبين التباعد "الحضاري" شن الحرب ضدها سهل التبرير وعتبة التعاطف معها بالغة الارتفاع. لكن ربما التضييق على السياسة، بما هي مداولة للاختلافات والفوارق و"الأيام" بين الجماعات البشرية، هو الذي يفضي إلى توسيع شقة الاختلاف الحضاري وليس العكس. فصدام الحضارات نعي للسياسة. وبالعكس: السياسة تقرّب ما تباعده "الحضارة".