حول المشهد النجفي الأخير، وما انتهت إليه الأمور حتى كتابة هذه السطور، قيل وسيقال عن آية الله العظمى السيد علي السيستاني ما يأتي:"مرض في"التوقيت المناسب"، واستعاد صحته في"الوقت المناسب"أيضاً. وسيقال أيضاً أن مغادرة المرجعية الشيعية الأكثر وقاراً واحتراماً وصاحب الكلمة المسموعة صادف موعد مغادرتها العراق تقويم الحكومة العراقية الموقتة ومن خلفها القوات ذات الجنسيات المتعددة... كما أن استعادة قلب السيستاني لنبضه الطبيعي وعافيته وعودته إلى النجف الأشرف تلاءم مع حسابات حكومة أياد علاوي من جهة والتقى بإحكام مع إنقاذ السيد مقتدى الصدر بعدما ضاقت الخيارات أمامه وفشله في الخيار العسكري الذي أصر على التمسك به. وهكذا كان خروجه مخرجاً لتصفية جيش المهدي وتحجيم ظاهرة الانتفاضة الصدرية، حتى كانت عودته لاحتواء الوضع المأسوي والمضطرب والخطر الذي أحاط بمصير النجف ككل وبالتحديد تحرير مرقد الإمام علي بن أبي طالب كرمَّ الله وجهه والصحن الحيدري الشريف من حالة إشكالية معقدة كادت تقود الوضع العام في العراق في هذه الآونة بالذات إلى نتائج أكثر كارثية ومأساوية. وما الاتفاق والتفاهمات التي تم التوصل إليها في الاجتماع الطويل 5 ساعات ما بين آية الله السيستاني والسيد مقتدى الصدر فور عودة المرجعية من العلاج في لندن إلا تكريساً للنفوذ المعنوي للسيستاني حيث عمل على إخراج أسلوب المعالجة للزعيم المتمرد السيد مقتدى الذي بلغ المأزق أو يكاد، كذلك كانت الترجمة العملية لهذا الدور مخرجاً لسلطة الحكومة العراقية المؤقتة ونجاحاً نسبياً أو إسمياً لاختيار منازلتها الأمنية والعسكرية مع مقتدى الصدر. وبذلك قطعت مرجعية السيستاني الكثير من اللغط والكلام عن أسباب غيابه عن النجف وعن العراق بالذات في هذه الفترة الحرجة والعصيبة. ولم يخف بعض أنصار الصدر ضيقهم من هذا الغياب، بقطع النظر عن ظروفه وملابساته الصحية، حيث قال أحد مساعدي الزعيم الثائر والمنتفض..."لقد وصل السيد متأخراً سبعة عشر يوماً ! وكان عليه أن يكون حاضراً منذ البداية". ويضيف المصدر نفسه ل"الفايننشال تايمز"التي قالت بأن معركة النجف هي صراع على قيادة العالم الشيعي: لقد كان بمقدور السيد السيستاني تلقي العلاج في مستشفيات العراق بدلاً من"الهروب"هكذا ... من الموقف بالسفر إلى الخارج، وفي حالات التأجيج من كل نوع تتفجر المشاعر المتطرفة. ومقابل هذه الأصوات العاتبة والغاضبة التي ترى الأمور بمنظار آخر أن المرجعية الكُبرى اختارت منذ البداية ألا تتدخل في مسألة انتفاضة مقتدى الصدر لا سلباً ولا إيجاباً على أساس أن الأمور تحل نفسها بنفسها، ولكن ومع تطور الأمور إلى ما بلغته في الأيام الأخيرة لم يكن بمقدور هذه المرجعية إلا أن تمارس دورها بقوة، وهذا ما حدث وتم فتح الصحن الحيدري يوم الجمعة للزوار كل الزوار. كعادة طبيعة الصحن العلوي المقدس في الظروف العادية، ليتم الانتقال إلى تنفيذ بقية البنود التي تم التفاهم عليها من حل جيش المهدي وإدخاله في الحياة العراقية العامة، إلى تجريد النجف والكوفة والجوار من الأسلحة والمسلحين، إلى تأمين سلامة مقتدى الصدر وعدم توقيفه في الوقت الحاضر على الأقل، على أن يقرر مستقبله النضالي والسياسي في وقت لاحق. والسؤال الطبيعي: هل أن ما حدث خلال الساعات القليلة الماضية كان نهاية الفصل المأسوي لأحداث النجف، أم أنها محطة توقف في المسار الطويل للجهود المضنية المبذولة لعودة الهدؤ والاستقرار إلى"العراق الجديد"؟ ولعله لا يمكن الإجابة القاطعة على هذا السؤال إلا بالعودة قليلاً إلى جذور المشكلة وبما أن ما يحدث اليوم يلغي أحداث الأمس، وما سيجري غداً سيلغي ما جرى اليوم نتذكر بدايات الانتفاضة الصدرية. شاب ثلاثيني عابس باستمرار وجاد وينتمي إلى أسرة نضالية عريقة قرر انتزاع المبادرة لقيادة المعركة ضد الاحتلال الأميركي. وتمكن وسط حالة التأجيج والصخب الأمنيين التي تسيطر على الأجواء العامة في العراق من استقطاب واجتذاب فريق شعبي محبط من الاحتلال، وما أكثر المحبطين من هذا الاحتلال، بالإضافة إلى الحصول على تعاطف فريق كبير آخر من الفقراء الذين لم يبق لديهم شيء يخشون على ضياعه. وساد الاختلاف وتعدد الاجتهادات في الصف الشيعي حول دواعي ودوافع مقتدى الصدر من القيام بهذه الإنتفاضة. لكن رهان الزعيم الشاب مع الزمن والرغبة في اختصار المسافات وإملاء الفراغ القائم كلها عوامل أقنعت الرجل بأن يعمل عبر رفع السقف العالي من المطالب لتأمين مستقبل أكثر ثباتاً ووضوحاً في الحياة السياسية في العراق المستقبلي والجديد بعد أن رفض المشاركة المتواضعة في مجلس الحكم الانتقالي، وعزف عن المسار السياسي واختار المسار العسكري عبر جيش المهدي في محاولة لفرض الأمر الواقع على حكومة فتية طرية العود. ومقابل"حيادية"المرجعية الشيعية الأساسية والذين يأتمرون بكلمتها كان السيد أياد علاوي مع أعضاء حكومته أو بعضهم على الأقل وخاصة وزير الدفاع ووزير الداخلية يتخذ القرار بعدم السماح لحركة الصدر الاحتجاجية بالسيطرة على الموقف الشيعي والشعبي معاً، فكان ما كان من مواجهات حادة وساخنة أودت بحياة كثير من العراقيين الأبرياء بالإضافة إلى من منحهم السيد مقتدى الصدر الصفة العسكرية. وانتهى عرض القوة بين الصدر وقوات الأمن العراقية المدعومة من القوات الأميركية والتي يطلقون عليها الآن إسم القوات ذات الجنسيات المتعددة بتضييق الخناق العسكري والسياسي على هذه الانتفاضة ومن والاها وأيدها. وكثيرون هم الذين راهنوا على عدم تمكن السيد مقتدى وجماعته من الصمود بوجه هذه الهجمة فترة تصل إلى العشرين يوماً. ولكن في نهاية الأمر أُسقط في يده، وكان لا بُد من المخرج الذي تمثل بالتدخل المباشر لآية الله السيد علي السيستاني. لذا وفي ضوء مجموعة من معطيات الأيام السابقة لا يمكن إلا الاعتراف بأن السيد مقتدى الصدر قد خسر الحرب رغم أنه ربح معركة أو أكثر، في حين أن حكومة أياد علاوي قد كسبت جولة مهمة رغم أنها لم تربح الحرب بعد. وإذا كان من المبكر بعض الشيء بإسم الموضوعية والحياد حصر وتحديد تداعيات ما انتهى إليه المشهد النجفي حتى الآن، لكن يمكن استشعار وتصور بعض الأمور التي يمكن أن تحدث. ومن ذلك أن دور مرجعية السيستاني تكرسّ من جديد داخل البيت الشيعي، وإن على السيد مقتدى الصدر الإفادة من وجوده في الحوزة العلمية النجفية لتعزيز مكانته العلمية والدينية والفقهية، وان بإمكانه أيضاً أن يكون له موقع مميز على الخريطة السياسية العراقية والتي ستفرزها الانتخابات العامة المقررة لمطلع العام المقبل 2005، هذا إذا أراد أن يسقط عن نفسه الشعار الذي انتهت إليه تطورات النجف من أن السيد مقتدى لا يُقتدى به لخوض معركة رابحة، والتاريخ النضالي البارز لعائلته خير رصيد له في حياته الآتية عبر أي خيار يختار أو أي مسار سينتهج. ومع كل ما حدث يبقى أمام الحكومة العراقية الموقتة العديد من المهام لجلب الاستقرار إلى البلاد نظراً لما يعشعش في العراق من مقاومين حقيقيين للاحتلال وهذا مشروع ومن مقاتلين امتهنوا الإرهاب نمط حياة ومهنة رابحة ليمعنوا في تدمير العراق وحصد أرقام جديدة من الأرواح البريئة من العراقيين. وإذا كان المطلوب تحرير العراق من الاحتلال فلا يجوز أن يترجم هذا الشعار إلى"تحرير"العراق من... العراقيين عن طريق الإيقاع بهم عبر أجهزة القتل والدمار. هذا في الشق العراقي الداخلي. ولكن لا يمكن عزل الجانب الإقليمي عما جري وعما سيجري، ونعني حصراً واقع العلاقات بين إيرانوالعراق. وقد سعت طهران عبر تصور استراتيجي مخطط ومدروس أن تعطي الانطباع الواضح والصارخ بشتى الأشكال والوسائل بأنها حريصة على الدفاع عن العتبات المقدسة في العراق، في حين يتحدث بعض المتابعين عن قرب للتقلبات الحادة التي شهدتها علاقات بغدادوطهران أن الأمر قد يذهب أبعد من الحفاظ على المصالح وأكثر من ضمان حسن الجوار إلى عمق المسألة وهو: تجدد الصراع حول المرجعيات ما بين قم والنجف. وفي حين يأمل الجميع أن ينجح العقلاء في إعادة اللحمة إلى البيت الشيعي سواءً في العراق أو فيما يتخطى العراق يجب التنبه لأطراف ظاهرة وخفية تعمل دائماً على إثارة وتحريك المشاعر المذهبية والطائفية بألف وسيلة ووسيلة. ومع التقدير التام للتصريحات التي تصدر عن الأطراف العراقية المعنية أكثر من غيرها بالأمر برفض الفتن الطائفية. فلا تكفي هذه التصريحات أو التعبير عن حسن النوايا لمنع وقوع الأسوأ في بلد يحاول استعادة وزنه وتوازنه على غير صعيد. وفي هذا السياق نلحظ وجود حرب مزدوجة على أرض العراق. واحدة على العراق وحوله والحرب الأخرى على نطاق أكثر اتساعاً وشمولية وهي الحرب الأميركية الإيرانية عبر استخدام أطراف بالوكالة لخوض هذا النوع من المنازلة. فأزمة الثقة والشكوك تتعاظم بين واشنطنوطهران ومرة تأخذ طابع الصراع النووي، ومرة أخرى طابع الخلاف العقدي، ومرة ثالثة وجه التصادم حول المصالح الإقليمية في المنطقة والعراق الآن هو أوسع الساحات لمثل هذا الصراع. وبقطع النظر عن عملية التجاذب الحادة القائمة حول احتمال لجؤ أحد الطرفين خصوصاً تهديد إيران إلى استخدام الأسلحة النووية، فقد كانت تصريحات وزير الدفاع الإيراني أحمد شمخاني خطأً تكتياً الأمر الذي استدعى تدخل القيادة الإيرانية لتوضيح أو لتصحيح هذه التصريحات والتخفيف من عامل الغلو والمبالغة التي تؤدي إلى تورط ما. ويبقى أن يعي أكثر من طرف معني بالشأن العراقي حقيقة ما حدث في الأسابيع الأخيرة وأن تؤخذ العبر والدروس مما حدث بالنسبة لأكثر من طرف: مقتدى الصدر من جهة والغلو في الحماس والمحاربة بسيف رابع الخلفاء المسلمين الإمام علي بن أبي طالب والحكومة العراقية من جهة أخرى والموازنة ما بين استخدام القوات العراقية ضد المواطنين العراقيين، وضرورة الحفاظ على الأمن في العراق الذي اشتاقت إليه جميع ألوان الطيف العراقي، وكل من يريد الخير للعراق ولأهله. وللحديث عن العراق تتمة، بل تتمات. وخصوصاً السؤال الكبير: هل أن مقتدى الصدر ظاهرة عابرة عبرت وأحرقت مستقبلها بنفسها أم أنها حركة قابلة للحياة والاستمرارية بشكل أو بآخر ؟ * كاتب لبناني.