الى خالد الرويشان أنت الذي هديتني الى الكثير من خفايا أم كلثوم، خفايا فنِّها الذي كان على الدوام جزءاً من طبيعتي الوجدانية ومن ثقافتي. كانت البداية عندما التقينا في اليمن قبل حوالى سبع سنوات، وذهبنا في رحلةٍ رائعةٍ عبر الجبال التي تقف كآباء هدَّهم التعب وما زالوا في شموخٍ ذاهلٍ نحو العلاء. جعلتَني اكتشف أغنيةً بديعةً لأم كلثوم، وضعتها في آلة التسجيل في سيارتك التي كانت تُقِلُّنا. هذه الأغنية هي "يا طول عذابي". استغربت أولاً كيف لم أستمع اليها سابقاً، وأنا الذي أدّعي معرفةً بفن أم كلثوم، وخبرةً نادرةً بالاستماع اليها. راح يتّضح لي شيئاً فشيئاً من خلال أحاديثنا التي كانت تقطع أحياناً انخطافنا بالأغنية أنك أكثر معرفةً وخبرةً مني. قلت لي إن هذه الأغنية غنتها أم كلثوم للمرة الأولى قبل أكثر من ستين عاماً، أي في آخر الثلاثينات أو مطلع الأربعينات من القرن العشرين. وقلت لي أيضاً ان التسجيل الذي كنا نستمع اليه، ليس شائعاً، وانما هو تسجيل نادر، تسجيل لحفلةٍ تجلت فيها أم كلثوم وارتجلت، أي أنها كانت أحياناً تخرج عمّا رسمه لها الملحن، لئلا تكون مجرّد مُؤديةٍ ذات صوت جميل، وانما لكي تكون مبدعةً تشارك في تأليف الأغنية، في تأليف لحنها خصوصاً، لأنها تبادر عبر ارتجالها الى خلق جملٍ أو صيغٍ تسبق بها الفرقة الموسيقية، وتجعل هذه الأخيرة مضطرة للحاق بها. أنت يا خالد الذي حدثتني عن الارتجال في أغاني أم كلثوم، لم أسمع عنه من أحد غيرك. وقدمت لي شرحاً في ذلك ونحن نستمع الى أول أغنية أسمعتني اياها من تسجيلاتك النادرة. بهرني شدو أم كلثوم بجملٍ مثل: "وقتها تحتار/ أي الضنى تختار"، أو "قابلتو بعد الغياب/ وكان سلامي عتاب". الأغنية من ألحان رياض السنباطي وكلمات أحمد رامي. كانت لديّ أفكار حول علاقة اللحن بالكلمات، وحول مقومات الأغنية الجميلة، حاولت أن أقول شيئاً، ولكنني شعرت يومها بأن تبادلنا الأفكار سيقتضي وقتاً أطول بكثير من لقائتا الأول السريع. ولكن - على أية حال - نشأت بيننا منذ هذا اللقاء بوادر علاقة روحية عميقة، راحت ترتفع بها أم كلثوم الى أعالي الأثير في شعاب الجبال التي تعانق السماء. أهديتني الأغنية. وعندما عدت الى بيروت، صارت تحفتي اليومية وأنا في السيارة، وفوجئ بها بعض أصدقائي الذين هم أيضاً من عشاق أم كلثوم. لم يطل بي الأمر حتى عدت الى اليمن، وكان لقاؤنا الثاني كالموعد والمفاجأة في آن. كان فرصةً فريدةً، سنحت لنا تلقائياً، لكي نتبادل التعبير عن حبنا لأم كلثوم، ولكي نحتفي انطلاقاً من ذلك بالصداقة التي انعقدت على نحوٍ عميقٍ ما بيننا. في هذا اللقاء الثاني، أخبرتني يا خالد بأنك تمتلك الكثير من التسجيلات النادرة لأغانٍ لأم كلثوم، وبأنَّ بعضها كان من مقتنيات أم كلثوم الشخصية. أخبرتني بأنك حصلت على هذه التسجيلات في أثناء زياراتك المتكررة الى مصر، وبسبب علاقاتك ببعض الذين رافقوا أم كلثوم أو كتبوا عنها أو اتصلوا بفنّها على نحوٍ أو آخر. عند ذلك، لاح لي كم أنني سأستفيد من صداقتك في تعزيز علاقتي بفنّ أم كلثوم. الأغنيات التي أهديتني إياها في لقائنا الثاني هي "نهج البردة"، و"رقّ الحبيب"، و"سهران لوحدي". هذه الأغنيات التي كنت أعرفها جيداً، وأحبها كثيراً، وأحفظها عن ظهر قلب، بدت لي في تسجيلاتك أغنياتٍ جديدة. كنت تقدم لي أشرطة منقولةً عن تسجيلاتك هذه، وتطلب مني ألا أُهديها الى أحد. لقد وجدت فيها جوهرتك الفريدة، ثم ارتضيت أن تكون جوهرتنا معاً. تكلَّمنا كثيراً على هذه الأغنيات الثلاث. وكم كنت متحمِّساً وأنت تتحدث عن مواضع الارتجال أو الإبداع فيها. ففي "نهج البردة"، تبذل أم كلثوم حوالى نصف ساعة في شدوها بيتاً واحداً، تُنوع كثيراً، تعلو أو تهبط، تُخرج الكلمات أو الحروف بأساليب رائعةٍ مختلفة. هذا البيت هو: "حتى بلغت سماءً لا يُطارُ لها/ على جناحٍ ولا يُسعى على قدمِ". قلت لك يومها رأيي في هذا البيت من قصيدة أحمد شوقي. قلت لك انه ليس من أحسن أبياتها، بل هو في نظري بيت عادي، ليس قوياً من الناحية الشعرية، وقلت أيضاً: كان يمكن أمّ كلثوم أن تختار بيتاً آخر، تجد فيه ما يساعدها على الشدو والتنويع والابتكار أكثر مما تجد في هذا البيت. ثم اتفقنا، أنت وأنا، على أن أم كلثوم ربما تتقصَّد أن تركب المركب الصعب، بل الأصعب، لكي تجد المجال الأنسب لإظهار امكاناتها الهائلة في الغناء. في "رقّ الحبيب"، رائعة القصبجي التي كتبها أحمد رامي، لاحظنا أكثر من موضعٍ تُحلِّق فيه أم كلثوم خارجةً على الخطة الأصلية للملحّن، التي تلتزم بها في التسجيل الشائع بين الناس. ثم أخبرتني بأنك اكتشفت تسجيلاً آخر نادراً، وقدَّرت انه قد يكون لأول حفلةٍ شدت فيها أم كلثوم "رقّ الحبيب". وأذكر أنني أبديت لك رأيي في القيمة الشعرية لبعض العبارات الواردة في هذه الأغنية، مركِّزاً على العبارة الآتية: "من كثر شوقي/ سبقت عمري". في أغنية "سهران لوحدي"، لاحظنا - أنت وأنا - أن الموضع الأساسي الذي تُبدع فيه أم كلثوم في تسجيلك النادر هو غير الموضع الذي يبدو للناس أساسياً في التسجيل الشائع. ففي هذا الأخير، يبدو المقطع الأساسي متمثلاً بالعبارات الآتية: "ياللي رضاك أوهام/ والسهر فيك أحلام/ حتى الجفا محروم منّو/ يا ريتها دامت أيّام". أما المقطع الذي تسترسل فيه أم كلثوم وترتجل، في التسجيل النادر، فهو الذي يبدأ بهذه العبارة: "كان عهد جميل/ حاسد وعذول". والجملة التي تتجلى فيها أم كلثوم تجلياً باهراً هي الآتية: "راحت عواذلي وحسّادي/ وطفيت النار". وبعدها تأتي هذه الجملة: "ياللي صبرت على بعادي/ وأنا عقلي احتار". لاحظنا معاً أنَّ القوة والجودة في أغاني أم كلثوم تعودان الى قوّةٍ في صوتها، والى ما يشبه العبقرية في الأداء، وفي التنويع في الأداء، وفي الارتجال قليلاً أو كثيراً. وخلصنا معاً الى أن الأغنية الجيدة إجمالاً لا تحتاج الى أكثر من كلامٍ مناسبٍ للغناء، أي أنها لا تحتاج الى شعرٍ عظيم، بل الأصح ان الشعر العظيم من شأنه أن يعصى على الغناء، أو على الأقل لا يسلُس له. في هذه النقطة، وجدت من المناسب أن أبيِّن لك رأيي في الكلام الذي غنّته أم كلثوم، وبالأخصّ في الكلام الذي كتبه لها أحمد رامي، الذي كان من بين شعراء أم كلثوم أكثر من غنَّت له. وكنت أخبرتك عن ندوة تلفزيونية خصصتها احدى القنوات لتقويم شعر أحمد رامي، وذلك في حلقتين على مدى ما يقارب الساعتين، وكنت واحداً من اثنين في هذه الندوة - المناظرة. لخَّصت لك رأيي بالقول إن أحمد رامي لم يكتب شعراً عظيماً، وإن كان من أبرز الشعراء الذين كتبوا شعراً للغناء. وقلت أيضاً إن أفضل ما كتبه أحمد رامي هو ما كتبه خصيصاً لأم كلثوم، وقلت إن أحمد رامي يكاد لا يُذكر إلا عندما تُذكر أم كلثوم. ولاحظت أيضاً أن الأغنية، من كلام رامي، تحتوي في الغالب على جملةٍ أو جملتين قويتين من الناحية الشعرية، تُشكلان ما يشبه بيت القصيد، ثم تكون الجمل الباقية تنويعاً على تلك الجملة أو الجملتين، لا ترقى اليهما شعرياً إلا أنها تخلق الجوَّ المناسب للغناء. وخلصت من ذلك الى القول إن أحمد رامي أفاد من أم كلثوم أكثر ممّا أفادت منه أو من أي شاعر آخر من الذين كتبوا لها. وتوافقنا - أنت وأنا - على أنَّ القوة في غناء أم كلثوم انما تعود في الدرجة الأولى الى امكاناتها الخاصة وعبقرية صوتها. أنتَ، يا خالد، الذي هديتني الى ظاهرة الارتجال في غناء أم كلثوم، وجعلتني أتبينها بنفسي من خلال استماعي الى ما أهديتني من تسجيلاتٍ نادرة. وقد عبَّرتُ لك عمّا تراءى لي من أن أم كلثوم لم تُدرس حتى الآن دراسةً فنيةً حقّة، ولو قُيّض لها من يستطيع أن يبحث في ابداعها من خلال ارتجالها، مقارناً بين تسجيلاتٍ مختلفةٍ للأغنية الواحدة، لربما أمكنه الكشف عن أهم الأسرار في ظاهرة أم كلثوم الفريدة، لأنه سيتناولها كمبدعةٍ مشاركةٍ في تأليف الأغنية، لا كمؤدِّيةٍ تبذل صوتها الجميل لما يرسمه الملحنون. في آذار مارس من هذا العام 2004، عدت الى اليمن للمشاركة في ندوةٍ عن الشاعر الراحل عبدالله البرودني. وكنتَ أصبحت وزيراً للثقافة والسياحة في اليمن. وجدتُكَ منهمكاً بتنفيذ برنامجك الحافل في مناسبة اعلان صنعاء عاصمة الثقافة العربية للعام 2004. أخذت على نفسك أن تقدم من النشاطات والاحتفالات الثقافية ما لم يُقدَّم في اليمن من قبل، ما لم تشهد مثله العواصم العربية التي أُعلنت عواصم ثقافيةً الواحدة تلو الأخرى. ولكنني اكتشفت أنّك - على رغم انهماكك هذا - عملت على انشاء منتدى صغير سمَّيته "منتدى أم كلثوم"، جعلته مقتصِراً على خمسةٍ أو ستةٍ من أصدقائك الذين يعشقون غناء أم كلثوم. تلتقون على نحو شبه أسبوعي لكي تستمعوا الى ما تكتشفونه من وقتٍ الى آخر من تسجيلاتٍ نادرة. لقد استمتعت كثيراً بحضوري هذا المنتدى، وعدتُ الى بيروت هذه المرة بتسجيلٍ نادرٍ للأغنية المعروفة "أنا بانتظارك". زيارتي التي قمت بها أخيراً الى اليمن، في شهر آب أغسطس 2004 كانت مناسبةً جديدةً للاستمتاع بحضور المنتدى. فعلى رغم انشغالك المتزايد، أقمت جلسةً طويلةً كنت وعدتني بمفاجآت كثيرةٍ فيها. وفعلاً كانت المفاجآت في تسجيلاتٍ نادرةٍ لأغانٍ مثل: "سلوا كؤوس الطلّى"، و"أروح لمين"، و"يا ظالمني"، و"رباعيات الخيام"... الخ. لم يكن الوقت يتّسع لسماع هذه الأغنيات كلِّها، فآثرت أن تُسمعني - الى جانب أصدقائنا في المنتدى - من كلِّ أغنيةٍ ما وجدته فيها من ارتجالٍ أو ابتكار، خصوصاً أنَّ هذه الأغنيات معروفة جداً في تسجيلاتها الشائعة. راودتني على أثر هذه الجلسة أسئلة كثيرة ومتنوعة: ما سرُّ ذلك التأثير البعيد الذي تُحدثهُ فينا الأغاني الجميلة لأم كلثوم؟ وما نوع الظاهرة الثقافية التي تنطوي على ذلك السرّ؟ وهل لدينا - نحن العرب - ظاهرة ثقافية حديثة العهد تُضاهي ظاهرة أم كلثوم؟ ولماذا تجنب الدارسون العرب دراسة هذه الظاهرة على نحو عميق؟ هل عجزوا عن ذلك؟ والاتهامات التي وجِّهت الى ظاهرة أم كلثوم في مراحل سابقة من جانب مثقفين عرب، ما شأنها؟ ألم تكن تعبيراً عن إفلاسٍ أو قصورٍ لدى أولئك المثقفين؟ كيف نجعل من تأثرنا العميق بفن أم كلثوم منطلقاً الى النظر النافذ والمرهف في ما نريده وفي ما لا نريده من الفن عموماً؟ إذاً، كيف ندعو من يتأثرون بأغاني أم كلثوم - وهم في ظني جمهورٌ واسع - الى تعميق معرفتهم بهذه الأغاني، والى عدم الاكتفاء منها بالتأثر السطحي؟ ازاء هذه الأسئلة، قد يقول قائل: لماذا هذا كله؟ وما الجدوى منه؟ وقد يكون ردُّنا: حسناً، ما الجدوى من أيّ شيء؟