ربط المفكرون الإسلاميون فكرة الشورى بالديموقراطية، فمنهم من رفض الديموقراطية وجعل الشورى هي البديل، ومنهم من حاول في سعيه للتجديد والمعاصرة الى محاولة التقريب بينهما، ومنهم من دعا الى الأخذ بالديموقراطية باعتبارها نظام حكمٍ وآلية للمشاركة، وأن التغاير بين المشروع الحضاري الإسلامي وبين الديموقراطية هو من باب التنوّع والتمايز لا التضاد والخصومة، يقول السيد فهمي هويدي: "لا يحسبن أحد أنه يمكن أن تقوم لنا قيامة بغير الإسلام، أو أن يستقيم لنا حال بغير الديموقراطية، إذ بغير الإسلام تزهق روح الأمّة، وبغير الديموقراطية التي نرى فيها مقابلاً للشورى السياسية يحبط عملها. بسبب ذلك نعتبر أن الجمع بين الاثنين هو من قبيل المعلوم بالضرورة من أمور الدنيا، ويقول الدكتور حيدر ابراهيم علي معلقاً على رأي السيد فهمي بقوله: "يمثل هويدي هنا قمة التوفيقية أو الانتقائية الحائرة، فقد كان بإمكانه التوقف عند الشورى فقط طالما هي مقابل الديموقراطية، ومن صميم الدين، ولكنه يُفصِّل الديموقراطية على مقاس الشورى على رغم اختلاف السياقين التاريخيين للمفهومين، ويحاول أن يختزل الديموقراطية الى مفهوم ديني بحيث يقول: "الديموقراطية التي نقبلها ونعتبرها مقابلاً للشورى، أو ترجمة معاصرة لها، هي تلك التي لا تحل حراماً ولا تحرم حلالاً، فهذه لغة دينية تطمس السياسي في مفهوم الديموقراطية، فهي لم تأت لتحديد أحكام شرعية أو فقهية، بل لتنظيم العلاقة بين الحكام والمحكومين وتأكيد الحريات وحقوق الإنسان بحسب رؤيتها وتاريخيتها". ويلاحظ ان السيد فهمي هويدي استخدم الديموقراطية مقابل الشورى، وكأن الشورى نظام حكم واضح المعالم في الإسلام نظرياً وتاريخياً. كما أن الدكتور حيدر عَدَّ الشورى أمراً دينياً فنعى على السيد فهمي استعماله. وواضح ان مفهوم "الشورى" الذي عرفه الإسلام بنصوصه أو تطبيقاته، هو غير مفهوم "الشورى" السائد بين الأوساط السياسية الإسلامية، فقد لاحظنا في عصرنا هذا مفهوماً مختلفاً لهذا المصطلح، فقد أريد له أن يعني ما يتصل بشؤون الحكم والمشاركة والعلاقة بين الحاكمين والمحكومين، فوجدنا بعض أنظمة الحكم العربية تستعمل "مجلس الشورى" بمعنى "مجلس النواب" أو "مجلس الشيوخ"، ووجدنا دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية يعتمد الشورى فيعتبر: مجلس الشورى الإسلامي، ومجلس شورى المحافظة، والقضاء، وأمثالها، من مراكز صنع القرار وادارة شؤون الدولة. ومع ايماننا بأن لا مشاحة في الاصطلاح، لكن يتعين علينا التنبيه إلى أن هذا المفهوم للشورى يخالف المفهوم النظري الذي جاءت به النصوص الإسلامية، وهو غير التطبيق التاريخي العملي لمبدأ الشورى. جاء لفظ الشورى في آيتين من القرآن الكريم، الأولى في سورة آل عمران الآية 159 في قوله تعالى: ]فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك، فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر، فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين[، يقول الطبري في تفسير هذه الآية: "ان الله عز وجل أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بمشاورة أصحابه فيما حزبه من أمر عدوه ومكايد حربه، تألفاً منه بذلك من لم تكن بصيرته بالإسلام البصيرة التي يؤمن عليه معها فتنة الشيطان وتعريفاً منه أمته مأتى الأمور التي تحزبهم من بعده ومطلبها ليقتدوا به في ذلك عند النوازل التي تنزل بهم، فيتشاوروا في ما بينهم، كما كانوا يرونه في حياته صلى الله عليه وسلم يفعله. فأما النبي صلى الله عليه وسلم فإن الله كان يُعرّفه مطالب وجوه ما حزبه من الأمور بوحيه أو إلهامه إياه صواب ذلك. وأما أمته، فإنهم إذا تشاوروا مُستنِّين بفعله في ذلك، على تصادق وتوخٍّ للحق وارادة جميعهم للصواب، من غير ميل الى هوى، ولا حيد عن هدى، فالله مُسدّدهم وموفقهم. وأما قوله: ]فإذا عزمت فتوكل على الله[ فإنه يعني: فإذا صح عزمك بتثبيتنا إياك، وتسديدنا لك فيما نابك وحزبك من أمر دينك ودنياك، فامض لما أمرناك به على ما أمرناك به، وافق ذلك آراء أصحابك وما شاوروا به عليك أو خالفها". وأما الآية الثانية ففي سورة الشورى الآية 38، قال تعالى: ]والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون[ يقول الطبري: "وإذا حزبهم أمرٌ تشاوروا بينهم". وذكر الحافظ ابن كثير في تفسيره أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يشاور أصحابه في الأمر إذا حدث تطييباً لقلوبهم، ليكونوا في ما يفعلونه أنشط لهم، كما شاورهم يوم بدر، ويوم أُحد، ويوم الخندق، فكان صلى الله عليه وسلم يشاورهم في الحروب ونحوها. ويلاحظ من تفسير الطبري للآية الأولى أن النبي صلى الله عليه وسلم انما كان يشاور تطييباً لقلوب أصحابه - مع عدم الزامية هذه الشورى له والمضي في ما أُمر به وإن خالف ما أشار به أصحابه - وتعليماً لمن يأتي بعده بضرورة المشاورة. ومن هنا يتعيّن الفصل بين الشورى في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وممارسات الشورى لمن جاء بعده، فالاستشهاد بالتطبيقات العملية للشورى في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم فيه الكثير من عدم الدقة، ذلك أن شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم شخصية رسالية يصعب التمييز دائماً بين تصرفاته الرسالية المتأتية من الوحي، وبين الاجتهادات الشخصية الدنيوية، فعقد صلح الحديبية مثلاً كان وحياً من الله مع أنه من الأمور الدنيوية، والتوكل الذي أشارت اليه الآية في سورة آل عمران سواء أجاء موافقاً أم مخالفاً لأهل الشورى، هو أمر من الله، ويمكن الاستشهاد بالعديد من الأمثلة المشابهة. أما الخلفاء الذين جاؤوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم فكانوا يستشيرون الصحابة، ولكن الآراء لم تكن ملزمة لهم بإتباع ما أشير به، والأمثلة على ذلك كثيرة، وهو الموافق لمبدأ الشورى نظرياً وعملياً، فكل انسان قديماً وحديثاً يستشير، ولكنه غير ملزم باتباع ما أشير اليه دائماً، وإلا فلا معنى للفظ "الشورى". اننا نعتقد أن الإسلام وضع قاعدة كلية اسمها "الشورى" حين أمر بالمشاورة، فالمشاورة بين المسلمين مأمور بها، لكن الإسلام لم يضع التفاصيل، كما هو حاله في كثير من الأمور، لتكون ملائمة لكل زمان ومكان، وليمكن تطوير مؤسساتها بحسب الحاجة. فالمجتمع الإسلامي يستطيع اليوم أن يضع القوانين والنظم والتعليمات الخاصة بالشورى بحسب ما يراه ملائماً لعصره دفعاً للاستبداد بالرأي من غير اعتبار للتطبيقات العملية التي مارسها الخلفاء أو الأمراء أو الحكام عبر العصور، لأنها كانت ملائمة لعصورهم، وليست أموراً دينيّة. إن مفهوم "المستشار" هو الإنسان المتخصص الذي يستعان برأيه في مسألة من المسائل ADVISOR في الشؤون العسكرية أو الأمنية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية أو الثقافية ونحوها في كل منحى من مناحي الحياة، ففي جميع الدول اليوم مستشارون سواء أكانوا على شكل هيئات ومؤسسات أم أفراد يستعين بهم صاحب القرار عند اتخاذ قراره، ولا شك في أن آراءهم غير ملزمة له، لأن صاحب القرار يطلع على مجمل الآراء ويتخذ قراره، وهذه هي الشورى، فلا داعي بعد ذلك الى الأبحاث التي تحاول أن تدرس الزامية الشورى أو عدم الزاميتها. وأرى أن أهل الشورى هم أهل الذكر ]واسألوا أهل الذكر ان كنتم لا تعلمون[ الأنبياء 7 ومع أن الآية المذكورة جاءت في معرض سؤال علماء أهل القرآن أو أهل الكتب من التوراة والانجيل، لكنها عامة في ضرورة سؤال أهل الاختصاص والمعرفة. ولما كانت الشورى بطبيعتها غير الزامية، فإن ربطها مما يساوي البرلمانات في عصرنا فيه تقليل من شأن هذه المؤسسات الضرورية في أي نظام حكم، وحرف لها عن مهماتها في مراقبة السلطة التنفيذية، فالمفروض في مثل هذه المؤسسات أن تكون قراراتها ملزمة، كما أن ربط "الشورى" بالمجالس التي تقترح القوانين وتصادق عليها فيه تقليل من شأن هذه المجالس، فإن الذين يقترحون القوانين والتعليمات هم الفقهاء العلماء المجتهدون العارفون باستنباط الأحكام من الشريعة الإسلامية بعد الاستعانة بالمستشارين، فيبقى المستشار هو المستشار، سواء استشاره رئيس الدولة أو الوزير أو ممثل الشعب أو العالم أو أي هيئة أو شخص يمكن أن يستفيد منه. مفهوم الحاكمية ومثلما اختلف الباحثون الإسلاميون في مفهوم نظام الحكم في الإسلام، فإنهم اختلفوا كذلك في مفهوم الحاكمية، فلم يقتصر بعض الكتّاب الإسلاميين على أن الله هو المشرِّع سواء أكان ذلك عن طريق القرآن الكريم أم السنّة المشرفة، ولكنهم ذهبوا الى أبعد من ذلك حين فسروا شعار الخوارج المشهور "لا حكم إلا لله" بأنه ينطبق على الحُكم والسلطة في اتساعها، مستدلين بقوله تعالى ]ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون[ المائدة 44 أو ]هم الظالمون[ المائدة 45 أو ]هم الفاسقون[ المائدة 47، وقد وصف أبو الأعلى المودودي الدولة الإسلامية بأنها "دولة شاملة محيطة بالحياة الإنسانية بأسرها، تطبع كل فرع من فروع الحياة الإنسانية بطابع نظريتها الخلقية الخاصة، وبرنامجها الإصلاحي الخاص، فليس لأحد أن يقوم بوجهها، ويستثني أمراً من أمورها قائلاً: إن هذا أمر شخصي خاص لكيلا تتعرض له الدولة". لقد حاول الفكر الإسلامي الحديث أن يطوِّر مفهوم الحاكمية بأن يجعل السيادة لله أو للشريعة، وأن يجعل السلطان للشعب أو الأمة، كما هو حال حركة الإخوان وحزب التحرير وغيرهما، وهو ما عبَّر عنه أحد الكتّاب الإسلاميين بقوله في معرض التمييز بين الدولة الدينية والدولة الإسلامية بقوله: "الفارق الأساسي بين الدولة الدينية والدولة الإسلامية هو أن الأولى تقوم على فكرة أن الله هو مصدر السلطة، بينما في الثانية - الإسلامية - فإن الله هو مصدر القانون، بينما الأمة هي مصدر السلطة. ومن ثم فلا حصانة ولا عصمة لحاكم، وإنما القانون فوق الجميع والحاكم في المقدمة منهم". وإذا أخذنا بالفكرة الأخيرة ووجدنا الأدلة التي تقوي فكرة كون الأمة هي مصدر السلطة، فلا شك في أن المقصود بالسلطة هنا هو "السلطة التنفيذية": ولم يتمكن الباحثون الإسلاميون من دراسة مفهوم "السلطة التشريعية" ذات المصدر الإلهي دراسة علمية معمّقة، فَسَلَّم أكثرهم بأن الله هو المشرِّع سواء أكان ذلك عن طريق القرآن أم السنّة، وأن الفقهاء مجرد مفسرين، وهو أمر يحتاج الى اعادة نظر، فنحن نعتقد أن الإسلام وضع قواعد كلية ومبادئ عامة ومقاصد لهذه الشريعة تضمنها القرآن الكريم والثابت من السنّة النبوية، وهي ما يمكن أن يصطلح عليه "بالبينات" وأنه قلما تناول القضايا التفصيلية إلا في حالات خاصة في الحدود والإرث ونحوهما، وترك الأمور الأخرى يجتهد فيها الفقهاء، فيضعوا القوانين والتعليمات المحققة لمقاصد هذه الشريعة بما يتلائم ومصالح الناس. ومما يؤسف عليه أن بعض الإسلاميين ظنوا - غلطاً - أن "الشريعة" هي ما كتبه الفقهاء في الأحكام، ما ارتآه المنظرون الإسلاميون في العصور الإسلامية في أساليب الحكم والإدارة مثل أبي يوسف والماوردي، وأبي يعلى الفرّاء، وابن تيمية، وابن خلدون، وغيرهم، مع أن الفقه بمجمله فكر وليس شريعة، وأن تلك النظريات هي أفكار وليست شريعة واجبة الاتباع، فالفقهاء علماء مجتهدون حاولوا فهم الشريعة وتفسيرها استناداً الى فهمهم واجتهادهم في زمن معين، ولذلك فهم مختلفون في ما بينهم قليلاً أو كثيراً، وهو بمجمله رحمة لأنه يوسّع دائرة الفهم والتفسير، ويقدم حلولاً متنوعة للمسألة الواحدة. ومن ثم فإنّ تقليص الدور الذي يمارسه أهل العلم في تقنين القوانين والتعليمات المستمدة من روح الشريعة القواعد والمقاصد ليس في صالح النظام الإسلامي، لأن الذي ذكرت يقدم مرونة في فهم المقصود "بالسلطة التشريعية" عند المُحدَثين، وهو يدحض الرأي القائل بأن الفقهاء المجتهدين هم مجرد مفسرين. ان توسيع دائرة الاجتهاد ووضع الأسس الكفيلة بأن يكون هذا الاجتهاد ممثلاً لعلماء الأمة الذين توافرت عندهم أدوات الاجتهاد بعد استشارة أهل الذكر، هو المفهوم الأمثل لما يسمّى في عصرنا "بالسلطة التشريعية" مع اختلافنا في المصطلحات لأن المُشرِّع في الأصل هو الله سبحانه، ونحن نقرّ أن الشريعة إلهية بقواعدها ومقاصدها، وأن تفاصيلها تبنى على تلك القواعد وتحقق المقاصد فيما لم يأت به نص صريح فسلطة البناء انما تقوم على هذه الشريعة الإلهية، وتفصِّل لها، وتقنن لأصولها وتُفَرِّع لكلياتها. وكذلك فإن لهذا الإنسان سلطة الاجتهاد في ما لم ينزل به شرع سماوي شريطة أن تظل السلطة التشريعية محكومة بإطار الحلال والحرام الشرعي، أي محكومة بإطار فلسفة الإسلام في التشريع. إن تحديد المفاهيم في غاية الأهمية لتطبيق الأمر على واقع الحال. وهذا النموذج المقدّم لثلاثة من المفاهيم يمكن تطبيقه على الكثير منها بغية توضيح دلالاتها والغاية المرجوة منها. * أكاديمي عراقي مقيم في الأردن.