على رغم الالتزام الصارم بمفهوم السُنة من جانب علماء الدين المسلمين، فإنهم لم يكونوا دائماً يتجاهلون في عناء تلك الاحتياجات المتغيرة والظروف الجديدة التي تنشأ في مجتمعهم بمرور الايام بل إنه حتى في العقود الاولى من التاريخ الإسلامي، كانت ثمة حاجة الى استحداث انظمة سياسية واقتصادية لم يعرفها الإسلام في بداية نشأته، وما كانت الكافة بالتي ترفض ان تأخذ الظروف المستجدة في الاعتبار، او التي تشعر بأن مراعاتها لا يتفق مع الأخذ بروح السُنّة. وذهب مؤسس أحد المذاهب الإسلامية الأربعة، وهو مالك بن أنس، الى أن مصلحة الجماعة أمر لا بد من الاسترشاد بها عند تطبيق الشريعة، ذلك أنه يحق لنا الخروج عن الطريق الذي أسنته الشريعة لنا متى ثبت أن مصلحة الجماعة تقتضي الأخذ بحكم غير الحكم الشرعي، وأكد هذه القاعدة فقيه من اعظم فقهاء المسلمين، وهو الزرقاني المتوفى في القاهرة عام 1122ه / 1710م الذي اعلنها صراحة ومن دون التواء أن الظروف والاحوال الجديدة تبيح للمرء أن يتبنى احكاماً شرعية جديدة، وأنه من الواجب ان تساير الشرائع الظروف. فباب التجديد والابتداع والإصلاح إذاً ليس بالباب المغلق في الإسلام، وكان بإمكان المجتمعات الإسلامية على مر الايام ان تتبنى انظمة جديدة مقتبسة من الحضارة الغربية أقرتها فتاوى صادرة عن علماء بارزين لهم وزنهم في تلك المجتمعات. فإن انتقلنا الى ميدان القانون الدستوري، نجد أن الكثيرين من فقهاء القرن العشرين رحبوا بمبدأ تبني نظام الحكومة الدستورية، واستندوا الى آيات من القرآن نفسه لإثبات أن الشكل البرلماني للحكومة هو وحده الذي يتفق مع الشريعة الإسلامية، وبذلوا جهداً كبيراً من اجل استخراج الاحاديث النبوية التي تلبي احتياجات الحياة السياسية المعاصرة، وتتفق مع مبادئ الديموقراطية، وعندهم أن أهم ما ورد في القرآن الكريم في هذا الشأن هو الآية 38 من سورة الشورى والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون، والآية 156 من سورة آل عمران فأعف عنهم، واستغفر لهم، وشاورهم في الأمر. هاتان الإشارتان القرآنيتان الى التشاور بين المؤمنين بصدد تصريف الأمور لا نجد عند المفسرين اجماعاً على مدلولهما الدقيق، وقد استهل السلطان العثماني العام 1909 خطابه في حفل افتتاح الدورة الجديدة للبرلمان بتلاوة الآية 38 من سورة الشورى وباشارة الى "أن الشريعة الإسلامية تقضي بإقامة حكومات برلمانية"، كذلك فإن الكثيرين من علماء الدين المعاصرين يؤكدون ان تلك الآية تتضمن امراً الهياً للمسلمين بالتزام التشاور الديموقراطي في ما بينهم في الامور كافة، بينما تذهب قلة قليلة الى أن الآية انما تخص علاقات قبلية او عائلية، وأموراً اجتماعية او اقتصادية تمس مصلحة الجماعة ورخاءها والنظام فيها، بدليل ان الآيات التالية مباشرة للآية 38 تتحدث عن الاخذ بالثأر، وضرورة تجنب البغي فيه، وتفضيل العفو، مما يكاد يقطع بأن الآية تشير الى نظام برلماني للحكم. وفي اعتقادنا ان هذا الرأي الثاني هو الأصح، ذلك انه لا القرآن الكريم، ولا سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا مسلك الخلفاء الراشدين، يعير تفصيلاً الى كيفية ادارة هذا التشاور، ولا الهيئة المكلفة به، أو الجهة التي عليها تنفيذ القرارات. فما من اجابة واحدة نجدها في طيات الكتب عن سؤالنا عن صفة وعدد الذين امر ولاة امور المسلمين باستشارتهم، او عن الشكل الذي ينبغي ان يتخذه التشاور، او عن طبيعة الامور الواجب احالتها الى مجلس للشورى، او، وهو الاهم مما اذا كان ولي الامر ملزم بالاخذ برأي الغالبية، وتنفيذ ما اشارت به عليه. بل ان الثابت المقطوع به هو انه ما من اغلبية مهما كانت حجمها بل ولو كانت اجماعاً، لها الحق في ان تنسخ احكاماً قضى بها الشرع الالهي، فإن نظرنا الى الشؤون العادية الدنيوية للامة، تساءلنا: هل استشار ابو بكر الامة قبل تعيينه عمر بن الخطاب خلفاً له؟ هل شاور عمر بن الخطاب احداً قبل اتخاذه قرار فتح مصر، أو قرار عزل خالد بن الوليد عن امرة الجيش في الشام؟ ما من اجابة عن مثل هذه الاسئلة نجدها في كتب المؤرخين المسلمين، ما يوحي بأن الاغلب انه لم يحدث تشاور قبل اتخاذ هذه القرارات المهمة. ومع ذلك نلحظ في كتابات معظم فقهاء أواخر القرن التاسع عشر وأوائل العشرين بمن فيهم أبو الاعلى المودودي ان هؤلاء الفقهاء يرون ان مفهوم الشورى في القرآن يعادل مفهومنا عن الشكل الديموقراطي لنظام الحكم، وهو امر قد يحمدون عليه باعتباره محاولة جادة لأخذ الظروف الجديدة واحتياجات العصر الحديث في الاعتبار، وهو في الحقيقة من قبيل الإجماع بين فقهاء امة المسلمين الذين ارتأوا - بعد معارضة في البداية للافكار الجديدة ومظاهر السلوك المستوردة مما كانوا يعتبرونه بدعة - ان يكفوا عن المقاومة والتحدي. ومع ذلك، فقد كان ثمة دائماً في المجتمعات الإسلامية اقلية هي اقل استعداداً للمصالحة والتنازل في ما يتعلق بالسنة والبدعة، واشد تمسكاً بحرفية النصوص الدينية، لا يضيفون اليها شيئاً ولا يحذفون منها شيئاً، يحاولون جاهدين ان يبقوا الإسلام على نقائه من البدع، رافضين فكرة المرونة والمصلحة والمسايرة، ولو أدى هذا الرفض منهم الى اللجوء الى العنف. ومع اشتداد ساعد الاصولية في الحقبة الاخيرة انشغل الاصوليون بمحاولة تأكيد الاختلاف بين القيم والمفاهيم الإسلامية، وقيم الغرب ومفاهيمه بشأن بضعة أمور، مثل الديموقراطية الغربية والشورى الإسلامية، وقد ارسل سيد قطب بعد اندلاع ثورة تموز يوليو 1952 بأسبوعين رسالة الى اللواء محمد نجيب قائد الثورة يدعو فيها الى اقامة "ديكتاتورية عادلة تقصر منح الحريات السياسية على العقلاء الصالحين وحدهم"، وهو في كتابه "في ظلال القرآن" يذهب الى أن الشورى تفرض على ولي امر المسلمين ان يشاور ولو بعض المحكومين وهم عادة من الصفوة في اطار احكام الشريعة التي هو ملزم بتطبيقها. غير ان سيد قطب لم يشر في اي موضع في كتابه الى انتخاب المحكومين للحاكم، ولا هو ذكر ما اذا كان الحاكم مُلزماً بأن يأخذ بنصيحة من استشارهم سواء كانوا من الصفوة او من غيرهم، وقد رفض قطب في البداية ان يصف الإسلام بالديموقراطية، وتحول في أواخر الخمسينات من القرن الماضي الى ازدراء صريح للديموقراطية، قائلاً إنها شكل من اشكال الحكم الفاشلة التي ثبت فشلها في الغرب، واصبح من غير المجدي ان نحاول استيرادها. وحذا المفكر الإسلامي السوري سعيد حوّا حذو قطب، فنفى ان تكون الشورى الإسلامية كالديموقراطية الغربية، بل ذهب الى انها في بعض الاحيان نقيض لها "فأما المحدثون الذين يلبسون الإسلام زي الديموقراطية، فقد انحرفوا انحرافاً خطيراً عن المعنى الحقيقي لمفهوم الشورى في النظام الإسلامي للحكم"، فالديموقراطية عنده هي كلمة يونانية تعني سيادة الشعب الذي هو مصدر الشرعية والذي يشرع ويحكم. أما الشورى فتعني ان يشاور الحاكم شخصاً او عدة اشخاص في شأن تفسير نقطة معينة في الشريعة الإسلامية "ذلك أنه في الإسلام لا يحكم الشعب نفسه بقوانين يسنها هو كما في نظم الحكم الديموقراطي، وانما يحكمه نظام وقوانين فرضها الله عليه، ليس من حقه ان يغيرها او يعدلها بأي حال من الأحوال، وعلى ذلك فإن مفهوم حكم الأغلبية لا يمكن أن يقره النظام الاسلامي للحكم، لان الاسلام لا ينسب سيادة الى الاغلبية". وكان لأفكار سعيد حوّا صدى في كتابات الاصوليين بعده فها هو المفكر الليبي محمد علي دنّوي يقول: "إن الدولة في الإسلام تطيع الشرع الالهي لا الشعب، فالاسلام يحرر الدولة من ذل الشهوات والأهواء والأوهام الإنسانية، سواء كان أصحابها اغلبية او اقلية"، أما الشيخ المصري متولي الشعراوي فقد اعلن في مقابلة معه عام 1982 ان الاسلام والديموقراطية لا يمكن التوفيق بينهما، وان الشورى لا تعني الحاجة الى التزلّف الى الغالبية وكسب تعاطفها، وكرر بعض الحكام بعد ذلك المقولة نفسها بحذافيرها حين تحدثوا الى شعوبهم عن التناقض بين الديموقراطية الغربية والمفهوم الإسلامي للشورى، وعدم توافق ديموقراطية الغرب مع احتياجات شعوب منطقة الخليج وتقاليدها. هذه الأقوال الصريحة الواضحة تكشف بجلاء عن موقف الأصوليين من الديموقراطية، وينبغي أن تؤخذ في الحسبان كلما زعم حزب من احزابهم مثل الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الجزائر، خصوصاً عشية إجراء الانتخابات العامة، انه على استعداد لقبول مبادئ اللعبة الديموقراطية وقواعدها، ولتبني مفهوم التعددية، وللسماح للاحزاب السياسية الأخرى بمزاولة نشاطها في ظل النظام الإسلامي، كذا ادعى عباس مدني زعيم الجبهة الإسلامية للإنقاد في حملته الانتخابية العام 1990، مخالفاً بذلك ما سبق له ان ادلى به من تصريحات تتوافق مع مواقف سيد قطب وسعيد حوا ومحمد علي دنوي والشيخ الشعراوي والكثيرين غيرهم. فهي إذاً مجرد وسيلة او حيلة تهدف الى تبديد مخاوف وقلق الليبراليين والمؤمنين بالديموقراطية في مجتمعاتهم، حتى يحرز الاسلاميون الفوز في الانتخابات ويفرضوا سلطاتهم، ذلك ان ما من موقف اخر من المبادئ الديموقراطية يمكننا ان نتوقعه من الذين يسمون جماعتهم او حزبهم "بحزب الله" وغير جماعتهم بأحزاب الشيطان. * كاتب مصري.