إسرائيل محمية أكثر من ضحيتها الشعب الفلسطيني. هذه الدولة ذات النزعة العسكرانية في بنيتها وفلسفتها وفي تجربتها اليومية تحظى بحماية دولية أكثر من أهالي قريتي مسحة والزاوية المنكوبين بجدار الفصل العنصري، وأكثر من أطفال حي الزيتون ومخيم رفح المنكوبين بهدم بيوتهم والمطاردين بالاباتشي وغيرها من منظومات الأسلحة"الذكية"! كيف يتطور المشهد على هذا النحو، فتنقلب الصورة على هذا العبث المرّ! على رغم كل هذا الغبن التاريخي المتواصل بحق الفلسطيني، وعلى رغم إمعان الجانب الإسرائيلي في التهجير والتقتيل وتدمير المدينةالفلسطينية للمرة الثالثة في غضون ستة عقود، لا تزال إسرائيل القائمة على أنقاض الشعب الفلسطيني تتمتع بحماية دولية، تتجسد درعاً فوق ترس فوق خوذة داخل برج وسور وخندق، بينما الضحية الفلسطينية لقمة مستساغة مباحة مستباحة بحيوات أبنائها وأرضهم وسمائهم؟! كيف يحصل هذا، سؤال لا نطرحه استدراراً للعطف أو توسلاً لرحمة أو استبكاء على ما آل عليه الحال، بل لنفكر ولو قليلاً خارج دائرة القضاء والقدر أو العجز والشلل وتجاوزاً لحدود المؤامرة الكبرى أو الصغرى المفترضة. من عوامل رسم هذا المشهد العبثي ما ليس في متناول يدنا يمكننا تصنيفه ضمن دائرة العوامل الموضوعية، إلا أننا غير محررين - ولم نكن - من تفكيك مباني العوامل الذاتية. لأننا على اعتقاد أن تلك الموضوعية لا يمكنها أن تصمد إلا بتوافر تلك الذاتية، بل لا يمكنها أن تكون ذات نفاذ وبهذه الحدة لولا الفعل الذي تفعله فينا تلك العوامل من صنع أيدينا أو في متناولها. ومن هنا محاولتنا أن نخوض في ما يتعلق بنا، في تعاطينا مع هذه القضية كعرب وكفلسطينيين، في البنى الفكرية والسلوكية التي تنتج تلك العوامل التي تسهم في قلب الصورة وفي تلوينها على النحو العبثي المشار إليه. كوننا محكومين لمبنى قوة محدد واضح في المواجهة مع إسرائيل يغطي على جملة مبان ذهنية مستترة تعطل الطاقة الذاتية وتهدرها أو تحركها على نحو يلتقي المشاريع الإسرائيلية من حيث لا ندري أو عن عمد. ويشار هنا إلى أن الأمر لا ينحصر في المواجهة الفلسطينية - الإسرائيلية، بل في تلك الأوسع والأشمل بين العرب وإسرائيل، أو بين العرب والغرب بصيغته الأميركية. ومن هنا فإن حديثنا يأتي ضمن الدائرة الكبيرة للصراع وعن مباني الفكر المستترة التي تتحكم بتوجهاتنا. الرأي العام العالمي وتغييب الحاضر يعتمد الموقف العربي في الصراع مع إسرائيل في كثير من ادعاءاته على قرارات ونصوص الشرعية الدولية بشكل عام وبخصوص الحالة عينياً. فهذا الموقف هو شق واحد من المعادلة التي تفترض العمل على مستويات أخرى مكملة أبرزها الرأي العام العالمي والاقليمي في تلك الدول المحورية على الساحة الدولية. في أميركا الشمالية وأوروبا وفي شرق آسيا لا سيا الصين واليابان. افترض أن العمل على هذا المستوى مثلاً لم يخط في توجهاتنا من مرحلة الحديث عنه، ربما لأن الثقافة السياسية العربية على العموم لا تشمل في بنانها"مادة"الرأي العام وكسب الشرعية والولاء من المواطنين بفعل إداري وحرّ. كأننا نتصور الغرب على محاوره يعمل بطرق الثقافة العربية، أنظمة يدين لها المواطنون بالولاء وراثة أو وضعياً لمجرد أنها سلطة؟ وهذا ما يقودنا إلى عمليات صنع القرار كجزء من مبنى في الثقافة السياسية عندنا. فعلى الغالب تفرض القرارات من فوق مزاجياً أو هوائياً من الزعيم أو من القلة المتحلقة حوله، لا رأي فيها لرأي عام أو ما يشبهه. أما الهيئات، إذا وجدت، فهي لتنفيذ القرارات لا لصنعها أو ممارسة الرقابة عليها أو نقدها وتقويمها. لأننا مبنيون كأنظمة على هذا النحو تحكمنا أنماط توجّه محددة تجعلنا لا نقيم وزناً للرأي العام في العوالم الثقافية الأخرى، فلا نأتي بأي تحرك نحوه، بل أكثر من ذلك لأن النظام عندنا يهيمن من خلال أجهزته على كل صغيرة وكبيرة ويلغي المسافة التي ينبغي أن تكون مفتوحة بين الدولة والمجتمع لدينا بدايات لمجتمع مدني وبين السلطات الأربع - أنا اسجل الصحافة سلطة رابعة - نحو تطابق شبه تام يمكن اثباته على طريقة تطابق المثلثات، فإنه من العسير علينا فهم طبيعة عمل الأنظمة الغربية كمقدمة للتأثير في مناخاتها السياسية وقراراتها وسياساتها وتوجهاتها. وأدعي، بناء على تجربتي الصحافية وأحاديث مع زملاء في أوروبا وأميركا، أننا نعدم في الغالب مهارات وأدوات التعاطي مع الصحافة حتى تلك المتعاطفة والمناصرة! بل يمكننا الاستدلال من الحيّز المتاح للإعلام عندنا ومن أدواره في أعين الأنظمة على شكل تفكيرنا في الإعلام الغربي وأدائه، وفي النهاية على فهمه وتعاطينا معه وعلى استثمارنا له أو على الأدق عدم استثمارنا له، لأننا غير ديموقراطيين على الغالب، حتى على طريقتنا، لا نقيّم وزناً لرأي المواطنين ولا نترك لهم مساحة للتأثير والتحرك لنرَ كيف قمعت تظاهرات الاحتجاج في بيروت والقاهرة وعمّان غضباً على جرائم إسرائيل في رفح وغيرها من مواقع فلسطينية أخيراً، نغيبهم في حساباتنا كأنظمة ونلتفّ عليهم لنصير غير قادرين على التفكير بالشعوب في الدول الأخرى ولا بقدرتها على التأثير أو التغيير! غيّبناها عندنا ونغيبها هناك على رغم حضورها المكثف! مشاريع تقادمت وأخرى غائبة من الواضح للعالم أن لإسرائيل مشروعها السياسي المحدد وان صراعها مع العرب يأتي ضمن هذا المشروع، لكن ما هو المشروع الفلسطيني عينياً في هذه المرحلة، وما هو المشروع العربي أو جملة المشاريع العربية؟ التعامل العربي والفلسطيني مع هذا السؤال على تفرعاته يقلق على نحو خاص، فكأنه من المفروغ منه أن الأمور واضحة، وأن العالم الذي اتخذ القرارات الدولية في شأن الصراع مع إسرائيل لن يهدأ ولن يستكين إلا بتطبيق القرارات بحذافيرها! باعتقادنا أن لا شيء قد يتغير إلا إذا غيّر العرب والفلسطينيون من أنفسهم. فالمشروع السياسي الفلسطيني اليوم غير واضح، لأن القراءة المعتمدة اليوم تقادمت وصارت في عداد"قضي الأمر الذي فيه تستفتيان". فهل المشروع هو مقاومة الاحتلال فحسب، وكل الوسائل المشروعة؟ هل هو الموقف من بناء الجدار؟ هل هو دولتان للشعبين أم دولة من البحر إلى النهر ثنائية القومية؟ هل قبل الفلسطينيون إدارة الصراع بدل حله؟ هل قبل العرب بإدارة القضية الفلسطينية وتوطين اللاجئين حيث هم؟ وهل يتم الانتقال الآن إلى العمل السياسي المنظم والمقاومة السلمية مع العزوف تماماً عن العمل العسكري؟ هل الإرادة الفلسطينية الآن مجسّدة بالسلطة الوطنية وفصائلها أم مجزأة تتقاسمها مع السلطة منظمتا"حماس"و"الجهاد الإسلامي"؟ هل الفلسطينيون نحو مشروع علماني يسيرون أم نحو مشروع إسلاموي؟ هذه الأسئلة تعكس الارتباك الفلسطيني بسبب تقادم المشروع السياسي وانكسار تحولاته لا سيما الأخيرة منها على صخرة فائض القوة الإسرائيلي، وهو مشروع صيغ في زمن كانت فيه المفاهيم والمصطلحات المتداولة ذات مدلولات بعينها، كان الخطاب السياسي الثوري يتصل بتجربة تحرر الشعوب وحق تقرير المصير بمفهومه الكلاسيكي، بينما الصراع مستمر الآن في زمن مغاير من حيث مدلولات المصطلحات والمفاهيم ومن حيث الوقائع على الأرض لا سيما في فلسطين التاريخية. ومن هنا أهمية أن يصار إلى تجديد المشروع السياسي الفلسطيني ليس في تحديد التطلع فحسب، بل في بناء الإرادة الجمعية ووجهتها وأدواتها واستراتيجيتها. إلى أين يذهب الشعب الفلسطيني من هذه النقطة في دالة الصراع وكيف؟ والأسئلة ذاتها يمكن أن تطرح بالقوة ذاتها على الأنظمة العربية التي تتخبط في وحل انكسار مشاريع النهوض القومية والوحدة والاشتراكية، وفي تراجعها المتواتر ليس في مستوى الصراع مع إسرائيل فحسب، بل في مستوى أبسط أهدافها لا سيما توفير الأمن الغذائي! هنا أيضاً، ينبغي أن تتجدد المشاريع السياسية العربية وبالذات في دول المواجهة لتصير مشاريع بلغة الثقافة السياسية السائدة عالمياً، بلغة المفاهيم التي تتضمنها المواثيق الدولية ونصوص الأدبيات السياسية والأخلاقية المستحدثة التي تتخاطب بها المجتمعات العالمية الحديثة في ما يتعلق باستحقاقات شعب على شعب ودولة على دولة. علينا أن نخرج تماماً وليس نصف خروج كما هي الحال حتى الآن من نفي إسرائيل وانكار وجودها بالكلام والصياغات، من الانتصار عليها معنوياً وانشائياً، من ازالتها وتدميرها بخطب نارية إلى محاولة تفكيكها كظاهرة تاريخية سياسية فاعلة بقوة. ونستطيع أن نؤكد من تجربتنا المتواضعة هنا في الداخل أنه عندما ننقل الحديث من مفاعيل مبنى القوة المائل مطلقاً لمصلحة الإسرائيليين إلى مساحات الخطاب الأخلاقي والسياسي المدرك والمتوّج بمشروع واضح، فإن القدرة على المواجهة تتضاعف مرات عدة لتعوضّنا عن ضعفنا الظاهر في مواجهة الوقائع على الأرض! ولكن، ونحن على انشغال بهذا السؤال حول تجديد المشاريع السياسية الفلسطينية والعربية عموماً لا يغيب عنا السؤال الأولي واستيضاح قدرتنا على الاتيان بفعل التجدد والتجديد. لكن تشخصينا على حاله، فإما أن مشاريعنا السياسية تقادمت كما في الحالة الفلسطينية، أو أنها غائبة تماماً في الحالة العربية العامة. * أكاديمي فلسطيني، دالية الكرمل.