قدمان تمشيان بين شواهد القبور في وسط غابة قنوات الموسيقى. ما الذي أتى بهما إلى هنا حيث، عادة، لا يوجد سوى الكثير من الفرح والإثارة والقليل من كل شيء آخر؟ هالة بيضاء تسيطر على الفيديو كليب. وتبقى حالة الإستغراب مسيطرة على العين حتى تحضر على الشاشة كلمة، تسبق صوت الأغنية، خطّت على شاهد قبر محدد: ذكرى. الفيديو كليب هو أغنية لم تصوّرها الفنانة الراحلة ذكرى. سجلتها بالصوت ولم تحفظ عن نفسها صورة بينما تؤديها. عنوان الأغنية: "بحلم بلقاك". رحلت وبقي منها قبر، فتوجهت الكاميرا نحوه لتستحضرها، من حيث هي الآن. أخرج الفيديو كليب جميل المغازي. يتمشى الحبيب باحثاً عنها، على إيقاع صوتها. هذه المرة، لن يؤدي الشاب دور حبيب تتوجه إليه كلمات الأغنية... وإنما سيختصر جمهورها وقد كرّس الموت بينها وبينه علاقة حميمة. يتنقل بين الأمكنة بحثاً عنها. السماء حاضرة في الفيديو كليب تماماً كما حضر بيت يعنى به بيتها، خاو من البشر، أقمشة بيضاء تغطي أثاثه، كقصة هجر مؤلمة. تحضر صورتها في شكل "مضيء" بين الفينة والأخرى، كخيال. ينتهي الفيديو كليب فتعود قنوات الأغاني لحياتها الطبيعية. فتاة ترقص غناءً وأخرى تغني رقصاً، شاب أحاط الجمال بمفرقيه، شاب أحاطت السيدات بزنديه. تماماً كما كانت الشاشة قبل رحلة الموت تلك. ها هي صورة قبرها تحتل مكان صورتها. في "بحلم بلقاك"، تم تكريس غيابها كموت محسوس هو ختام القصة، النهاية وقد أعلنت رسمياً، بدلاً من تلك الصورة التي كان يمكن لها أن تستمر حاضرة في الذاكرة عند كل إعادة بث لأغنية صورتها. بعد رحيل داليدا، كثرت الفيديو كليبات التي تستعيد صوراً لها على إيقاع أغنيات بصوتها. وكان آخرها أغنية "مريض" لسيرج لاما. ليس الموت أهم ما في داليدا وإنما غناؤها. ليس القبر أهم ما في صورتها وإنما أداؤها. والموت في حياة ذكرى ليس أبرز ما قدمته وليس خاصاً بها. قصته خاصة، لكنه يبقى موتاً. لذلك، على كل من يعتبر نفسه معنياً بتخليد صورة ذكرى أن يجيب عن سؤال يفرض نفسه، قبل أن ينطلق لتكريمها: لماذا تشعر بأن على ذكرى أن تبقى خالدة في الذاكرة؟ وإن كانت مفاجأة الموت هي الإجابة، يأتي التكريم على شكل "بحلم بلقاك"، إنحناءة موسيقية أمام الموت، بغض النظر عن غرضه.