قبل اكثر من 15 عاماً ذهبت ومجموعة من أصدقائي الشعراء وكنا طلاباً في كلية الآداب - جامعة القاهرة، الى كلية دار العلوم البعيدة جدا عن ذائقتنا ومزاجنا لنرى فقط عبلة الرويني، هذه الكاتبة التي اصابتنا بالهوس ونحن نقرأ كتابها البديع "الجنوبي" الذي يروي تجربتها مع زوحها الشاعر الراحل امل دنقل. في ذلك اليوم رأيناها تتحدث عنه بحماسة عن تجربته بنبرة ثورية جعلتنا نفهم كيف اقنعت الشاعر المتمرد صاحب "أوراق الغرفة 8" بالانصياع لشروط مؤسسة الزواج. وطوال نحو عشرين عاماً تفصل بين ايامنا هذه والعام الذي صدرت فيه الطبعة الاولى لكتاب "الجنوبي"، ظلت عبلة الرويني في نظر الكثيرين ضحية سهلة للنجاح الساحق الذي حققه الكتاب وأسيرة كسلها ومتعتها الدائمة في الشغب. وكان الذين يتابعون مقالاتها القليلة في صحيفة "الاخبار" وفي اسبوعية "اخبار الادب" يلمسون فيها طاقة نقدية استثنائية وينتظرون الموعد الذي تخرج فيه هذه الطاقة الى الناس بكتاب يحرر صاحبته من لعنة "البطولة المطلقة" التي لعبتها في الحياة الثقافية امام شاعر استثنائي في شعره وسيرته. أخيراً صدر عن الدار المصرية - اللبنانية في القاهرة كتاب جديد لعبلة الرويني يحمل عنوان "الشعراء الخوارج" وهو كتاب أرادت صاحبته منذ السطر الاول وحتى السطر الأخير ان يكون اقرب الى "بيانات الحرب" التي ترفض حال السلام البارد التي تعيشها الحركة الشعرية في عالمنا العربي وتكشف وجهاً جديداً من وجوه الرويني، هو وجه الشاعرة التي أغواها النقد وسرق نار قصيدتها وأبقى على شعرية ناصعة تتجلى في لغتها وفي غرامها بالصورة والمفارقة. وباعتزاز يصل الى حد الاستفزاز تقول الرويني في السطر الاول ان كتابها "ليس مصالحة بل هجوم"، وتفخر في الوقت نفسه بانجذابها الدائم الى منطقة الخطر وملاحقة الشعراء الانقلابيين منهم تحديداً، "فهي لم تكتب يوماً عن شاعر محافظ وتعتز بكل الأسماء الواردة في كتابها، لأنهم كانوا دائماً "مشحونين بتلك الطاقة التهديمية الصادمة وجمعيهم خوارج، عنيفون في تحولاتهم الجمالية وفي امزجتهم الشخصية ايضاً". وتشد الرويني قارئ الكتاب الى الدلالة اللغوية لكلمة "الخوارج" بكل ايحاءاتها الجمالية وطاقتها المفتوحة على التمرد ولا ترى المعنى يبعد كذلك عن الايحاءات الدينية والتاريخية للكلمة المفتاح في كتابها الذي يتضمن دراسات حول شعر امل دنقل ومحمود درويش ومنذر مصري وحوارات مع 13 شاعراً عربياً خمسة من مصر وثلاثة من سورية واثنان من فلسطين ولبنان سبق نشرها - باستثناء حوار مع ممدوح عدوان. لكن جمعها في كتاب يصنع لها سياقاً جديداً يهم القارئ والباحث المهتم بتحولات الشعرية العربية ويثير من جديد شهية المتربصين بالمؤلفة او بالاسماء التي تحتفي بها على طريقتها وهي تبدو حادة أحياناً وجريئة دائماً لكنها تقع ضمن "السجال المطروح في الشعر وفي الواقع". فهذا السجال كما تراه الرويني هو جوهر أو عمق الرؤى الحداثية التي يقدمها الشعر ذاته. و"الخوارج" هنا في الكتاب وكما ترى المؤلفة "قوس جمالي يتباين شعراؤه بالضرورة وأشكال خروجهم كل بحسب ثقافته وبيئته وتكوينه وكل بحسب مشروعه ورؤيته للعالم... "لكنهم جميعاً تنويع على الرفض وزحزحة لما هو قائم". لكنّ هذا التعريف لا يبرر وضع شعر سميح القاسم بنبرته العالية مع شعر انسي الحاج او وديع سعادة الا إذا قبلنا بمنطق المؤلفة التي تلفت نظر قارئها الى انها لا تؤمن بوجود "حداثة واحدة" في الشعر العربي، فهناك "حداثات" مختلفة بتعدد الشعراء واختلاف مفاهيمهم ورؤاهم. وهي أيضاً ترى ان حضور تعبير الحداثة كعنوان رئيس للحركة الشعرية العربية الآن يبقى محاطاً بالاسلاك الشائكة. فهي حداثة ملتبسة ومتناقضة يمزقها وعي شقي وازدواجية عاصفة. فالابداعات تخطو الى الامام بمعطيات جديدة وذهنية متفتحة، بينما البنية الاجتماعية والسياسية غير قادرة على تحقيق التراكم المعرفي. انها الازدواجية التي تعمق من مأزق القصيدة. تطرح الرويني مجموعة من الافكار الخلافية المثيرة للجدل حول حركة الشعر العربي في نصف القرن الاخير والتي تبدو اقرب الى الفرضيات التي تختبرها في الحوارات التي اجرتها مع الشعراء الذين يمثلون "عينة بحث نموذجية". ومن هذه الافكار ما تقوله عن شعراء مجلة "شعر" البيروتية وهم كانوا دائماً يوجهون البصر الى الشمال مسكونين بالمفاهيم المستعارة طموحاً الى حداثة ليبرالية وقصيدة كونية انسانية بتأثير من افكار الحزب القومي السوري المنسلخ، كما تقول، من الثقافة العربية الى الثقافة المتوسطية والمتطلع الى الثقافة الاوروبية. لذلك رأى انسي الحاج في اللغة العربية لغة مقدسات بينما الفرنسية لغة انتهاكات لتكون هي الأكثر ابداعاً. وتميز الرويني تجربة الماغوط في سياق تجربة "شعر" اولاً لخصوصية تكوينه الشخصي والاجتماعي وثانياً لموهبته الشعرية التي احتمت بالسليقة والتلقائية اكثر من الافكار النظرية. كذلك تميز تجربة ادونيس لأن القصدية التي يكتب بها وبكل ما تتضمن من خبرة معرفية هي احد مكوناته الجمالية التي تتماهى مع حريته وهويته، وهي أيضاً تعبير جمالي عن وعي يتجاوز ذاته باستمرار. وعلى رغم ذلك يبقى ادونيس موضع سجال دائم في الكتاب، خصوصاً في الفصل الذي يحمل عنوان "تأويل الغبطة" او الثاني وعنوانه "عندما بكى ادونيس في المقهى"، وكلاهما تعليق نقدي على تجربة ادونيس الشعرية واشتباك مع آرائه السياسية ونظرته المتغيرة لجمهور الشعر. وتشير فيهما الى ان ادونيس خضع دائماً لثبات الصورة واختار لتجربته المركزية في الشعر العربي منهجية القطيعة والانفصال محتفظاً بفاعليته داخل دوائر النخبة ومناهضاً لفكرة الجمهور على حساب فكرة القارئ. وهي فكرة تتشابه الى حد كبير مع فكرة عبدالمعنم رمضان الواردة في حواره المنشور في الكتاب حين ينظر الى الجمهور كفكرة بذيئة "وقرين ايديولوجيات انقضت بينما القارئ قرين ابدية وعي". موقف آخر من الحداثة الشعرية تتوقف امامه عبلة الرويني ويعكس خلافاً اعمق حول الهوية يتعلق بشعراء يستندون الى تاريخهم وثقافتهم العربية وواقعهم منشغلين بإشكالية الصراع بين القديم والجديد او بالصراع بين الاجيال وازدواجية العلاقة مع المؤسسة الاجتماعية وقراءة الواقع. وهذا الموقف يدك الحداثة بصفتها ممارسة اجتماعية ونمط حياة مرتبطاً بالضرورة بالتجديد والتغيير. فلا شعر خارج التاريخ او خارج شرط الواقع فرضية يؤكدها أحمد عبدالمعطي حجازي في حوارين داخل الكتاب. وفي هذا السياق تقرأ تجربة امل دنقل وتدرسها باعتباره شاعراً اختصر المسافة بين الدور الاجتماعي والدور الجمالي، مؤكداً ان الموقف الجمالي الصحيح هو بالضرورة موقف سياسي صحيح. وتناقش المؤلفة تجارب شعراء السبعينات، فترى من زاوية ان القصيدة السبعينية لم تخل من ذلك التناقض بين الاجتماعي والجمالي. وظل خيارهم الجمالي شكلياً صورة من صور ابتكار العزلة وابداع الهامش والتعبير الساطع عن ازمة العلاقة بالواقع. ومن هنا تكمن المفارقة التي تلح على ابرازها. فالشكل الرافض كل ما هو سياسي واجتماعي ينطوي جوهرياً على موقف سياسي يؤكده اشتغال بعضهم او انخراطهم في تنظيمات سياسية علنية وسرية. وعلى رغم اصواتهم العالية واستعراضيتهم او بسببها تقول عبلة الرويني: "ظل شعراء السبعينات في مصر متمتعين بأخلاق الغيتو والغرف المغلقة" او كما تقول: "كانوا يساريين على مستوى الشعار او المقولات النظرية، يمينيين على مستوى القصيدة المشغولة بذاتها والمتعالية على ما حولها". وفي الكتاب اعجاب لا يخلو من سجال بتجارب عبدالمنعم رمضان وأحمد طه وحلمي سالم، والأخير حاضر في ثلاثة فصول لأنه "حداثي من دون استعارة محكومة بمرجعية غربية باردة ومن دون عزلة متعالية". ولا يفهم القارئ لماذا تجاهلت الرويني تجربة شعراء التسعينات في مصر على ما فيها من قوة رفض وتقويض. كذلك لا يمكن ان نقرأ مقالها الوارد في الكتاب كمراجعة لأحد اعداد مجلة "الجراد" التي نشرت نصوصاًَ لهؤلاء الشعراء على انه موقف من هذه الموجة الجديدة في الشعر المصري، خصوصاً انها تسقط فيها الكثير من مواقفها تجاه "السبعينيين" حين تنظر اليهم كرعاة رسميين لهذه التجارب. وهذا ليس صحيحاً على الأقل الآن بعد ان نضجت هذه التجارب وتمايزت ولم تعد "حرية في فراغ او "كتابة مجانية" كما كتبت عبلة. وفي سياق تأكيد فرضياتها، ترى الرويني في شعر محمود درويش وفي وعيه حضوراً لتلك العلاقة الضرورية التي تربط الواقع والتاريخ وتمكنه من التحطيم المتواصل لسلطته الجمالية وصوره الاسطورية ومجابهته الدائمة لشاعريته داخل القصيدة، أي الخروج ب"ديناميكية فاعلة". فليس ثمة مشاريع مجانية - كما تقول - والا كان على الشاعر ان يعمل في فراغ هلامي. وتقول: "ان مجانية انسي الحاج تلك التي يجاهر بشرطيتها الدائمة تظل مجانية طوباوية وموقفاً مثالياً يبتعد عن الواقع ويباعده ولكنه لا يسقط المشروع والوظيفة والدور". ويحظى الحاج في الكتاب بأكثر من اهتمام يخضع تجربته الشعرية للمساءلة والنقد. فهي تؤكد ان حداثة الحاج حداثة عاصفة ومدوية ومجلجلة، لكنها تظل انقلاباً بالمنهج نفسه والنسق الميتافيزيقي السماوي المحافظ على الجوهر ونقاء الاصل. وتلك مفارقتها لأن انسي الحاج عندما اعلن القطيعة مع المقدس ومع كل مرجعية دينية مؤسساً موقفاً ضدياً راح يعيد النظر في اللاهوت، وقد فعل ذلك باللغة ذاتها وكأنه يسقط ملكوتاً سماوياً ليقيم ملكوتاً سماوياً آخر لحسابه الشخصي. تسمح الحوارات للرويني باختبار فرضياتها، خصوصاً انها تحرص على اثبات حضورها الايجابي في مواجهة "المحاور" ولا تسقط في آبار التماهي معه، حتى وهي امام الاسماء التي لا تكف عن ابداء الاعجاب بها محمد الماغوط او التعاطف مع تجاربها مثل حلمي سالم الذي يبدو حالاً نموذجية في السجال حول شعر السبعينات او وديع سعاده وهدمه الدائم للمكان والاقامة والذاكرة وخروجه الساطع على كل حضور وربما بسبب هذا الحضور الفذ يصعب القفز فوق سطور الكتاب الذي يمتلئ بحقول الالغام ويحفل بالاعترافات الواردة على لسان الشعراء الذين حاورتهم.