} أثار كتاب "شعراء السبعينات: السيرة، الجيل، الحركة" الصادر حديثاً في القاهرة سجالاً بين بعض الشعراء والنقّاد الذين ينتمون الى اجيال وتجارب عدة. هنا مداخلة عن الكتاب وجيل السبعينات نفسه. الميزة الكبرى التي ينطوي عليها كتاب "شعراء السبعينات: السيرة، الجيل، الحركة"، الذي أعدّه الشاعر شعبان يوسف وحرّره، والصادر أخيراً عن المجلس الأعلى للثقافة في مصر، هي احتواؤه على شهادات ذاتية لشعراء السبعينات أنفسهم، حول تجربتهم الشعرية وتكوينهم الثقافي وتحولاتهم الفنية، وهو بذلك يعدّ أول عمل توثيقي جاد يتحدث فيه أصحابُ الشأن أنفسهم بعيداً عن النواب الذين انتدبوا أنفسهم كثيراً للحديث عن تجربة شعر السبعينات في مصر. غير أن هذه الميزة الكبرى لا تعني خلو الكتاب من بعض الهنات الجزئية البسيطة. من هذه الهنات، أولاً: خلو الكتاب من شهادات شعراء أساسيين في حركة شعر السبعينات في مصر، من مثل عبدالمنعم رمضان ومحمد سليمان وعبدالمقصود عبدالكريم ومحمد عيد إبراهيم ومحمد صالح وأحمد سماحة وعبدالدايم الشاذلي، من غير أن يقدّم لنا محرِّر الكتاب تفسيراً معقولاً لغياب هؤلاء. ومن هذه الهنات، ثانياً: حاجة بعض الشهادات إلى إعادة كتابة تنقذها من ركاكة التعبير وشفويته العشوائية التي تعوق قراءتها قراءة ميسورة. ومن هذه الهنات، ثالثاً: استغراق بعض الشهادات في نزوع ذاتي مفرط، جعل شاعراً من أصحاب الشهادات يؤكد أن شعره ليس فيه حرف زائد أو كلمة في غير موضعها أو نقطة بلا ضرورة حاكمة. والحق أن هذا النزوع الذاتي المنحرف يعطي ذريعة قوية لخصوم حداثة السبعينات المصرية وللأجيال الشعرية الجديدة، تجعلهم يقولون: سحقاً لهذه الذوات المتورّمة في هذا الجيل الخرب. ومن هذه الهنات، أخيراً: أن الكتاب يعطي لقارئه انطباعاً بأن جماعة "إضاءة 77" هي "جيل السبعينات" وأن جيل السبعينات هو "إضاءة 77". وهو انطباع غير صحيح لأنه مبني على مطابقة غير حقيقية بين "الجيل" كله وبين "الجماعة" على رغم ما في هذه المطابقة من دغدغة لمشاعر شخص مثلي، فجيل السبعينات أوسع بكثير من "إضاءة 77"، حتى وإن اتخذت هذه الأخيرة موقعاً محورياً فيه. هذه الهنات "التي لا ذنب للمحرر في معظمها" لا تقلل من أهمية الكتاب وتمايزه، ولا تمنع انتمائي له ومشاركتي في حمل مسؤوليته. ومن واقع ذلك الانتماء وهذه المشاركة، سألخص تعليقي على ملاحظات الناقدة عبلة الرويني، التي وردت في مقالها القيّم الساخن "الحياة" 1/12/2001، في النقاط الموجزة الآتية: 1- لست أرى عيباً في أن تصطبغ حركة شعرية بطابع سياسي واجتماعي، فكل حركة أدبية لا بد أن يكون لها مثل هذا الطابع، وهذا ما حدث مع مدرسة أبوللو الرومانسية ومع مدرسة الشعر الحر، ومع كل مدرسة فنية. ولعل هذا الطابع قرينة من القرائن التي تنفي عن شعر السبعينات التهمة الشائعة عنه، وهي الانعزال عن الواقع والبعد عن القضايا الساخنة. العيبُ الحقيقي هو أن يحتمي الشعراء خلف ذلك الطابع السياسي الاجتماعي لتغطية رداءة الشعر أو تبرير ركاكته، وهذا ما لم يفعله شعراء السبعينات، فعلى رغم ذلك الطابع السياسي الاجتماعي، كنا نركز دائماً على أن المعول الرئيس في الشعر هو مستواه الفني والجمالي، على عكس بعض الشعراء السابقين الذين كانوا يدارون برفعة القضية هبوط الشعر. 2- ليس صحيحاً أن شعر السبعينات كان منعزلاً - أو هو منعزلٌ - عن الحياة، لكن الصحيح أن كل تجديد فني يعاني في بدايته من وجود مسافة بينه وبين الذائقة الراسخة التي يتمرّد عليها. وهذا ما حدث مع كل حركة تجديدية، بما فيها حركة شعر التفعيلة الحر نفسه، ولعلنا نذكر اتهامات قادة الذائقة التقليدية - كالعقاد وزكي نجيب محمود - للشعر الحر إبّان ظهوره: بدءا بالتعالي على الناس ومروراً بالشيوعية وانتهاء بتدمير الهوية والتراث والحضارة العربية. 3- ليس صحيحاً أن شعر جيل السبعينات لم يقدّم إضافات جوهرية على الشعر السابق عليه. وسوف أتطوع بأن أضع بين أيدي خصوم هذا الشعر بعض الأمثلة السريعة لهذه الإضافات الجوهرية، مع أن ذلك ليس عملي بل هو عمل النقاد، لا سيما الخصوم منهم، لو أخلصوا البحث ونزّهوا الغرض ونظّفوا العيون. من هذه الإضافات: إعادة الاعتبار للتشكيل الجمالي، بعد أن كانت نظريات النقد الغالبة في الخمسينات والستينات تعطي الصدارة للمضمون النبيل حتى لو كان تشكيله الفني منحطاً. ومن هذه الإضافات: توسيع معنى الموسيقى ليتجاوز حبسَها في سجن "الوزن" الخليلي الضيق، ليغدو "الوزن" إحدى صيغ الموسيقى، لا الصيغة الوحيدة. ومن هذه الإضافات: الاتصال بالتراث العربي عبر مناطقه المحجوبة والمغمورة والمغدورة مثل الصوفية والصعاليك والحروفيين وليس عبر مناطقه الرسمية المعلنة المصرح بها. ومن هذه الاضافات: فتح الطريق لكتابة النثري واليومي والعابر والمعيش، على نحو جعل هذا الطريق تياراً كاملاً في الأجيال التالية. 4- هل يمكن أن يكون هناك شعراء "يساريون على مستوى الشعار، يمينيون على مستوى القصيدة"؟. نعم يمكن، ولكن هذه لم تكن حالة شعراء السبعينات، بل هي حالة نفر من الشعراء، السابقين والمجايلين واللاحقين، الذين ينتمون إلى فكر يساري تغييري تجديدي بينما شعرهم غارق في التقليد والشعارية والنسج على منوال السابقين. أما شعراء السبعينات فقد سعوا إلى أن يتجسد فكرهم اليساري التغييري عبرَ النص نفسه: بتجديد تقنياته وتقليب جمالياته وتغيير تشكيلاته الفنية، من غير أن يكتفوا بتقدميّة الموقف الفكري وحده، متحمّلين في ذلك مسؤولية مركبة، هي أعقدُ وأشجعُ من مسؤولية الذين ارتاحوا إلى أن شرف القضية يعني شرف الشعر. وعلى ذلك فإن قصيدتهم ليست - ولم تكن - مشغولة بذاتها هل هناك أصلاً قصيدة مشغولة بذاتها؟ بل هي مشغولة بتطوير الأساليب الفنية لنوعها الأدبي الشعر وتجديد ميراث هذا النوع. وأعتقد أن هذه المهمة هي من أوجب ما يتوجب على الفنان في أي فن. ومن دون إدراك هذه الحقيقة ستظل حياتنا الأدبية تهلل للغث على أنه الثمين، وتدين الثمين على أنه الغث، وهذا هو الإعورارُ بعينه. 5- يعيب خصوم شعراء السبعينات عليهم أمرين أراهما طبيعيين في كل حركة شعرية: الأول هو حس التحرك الجماعي، والثاني هو الفارق بين التنظير الجمالي وبين المنجز المتحقق في النصوص نفسها. فالتحرك بحسٍّ "جماعي" ليس نقيصةً، بل لعله كان - وسيظل - فضيلةً من فضائل أي فعل من أفعال المقاومة. وإنما تصير هذه "الجماعية" العمليةُ عيباً ذميماً إذا طمست - على المستوى الإبداعي - الفروق الفردية بين المبدعين، وإذا سترتْ ضعفَ الشعراء الضعفاء. وهذا ما لم يحدث في حالة شعراء السبعينات في مصر: فقد كانت تمايزاتهم الفردية واضحة منذ البدء، على مستوى الشعر، وإن تقاربت رؤاهم الفكرية والجمالية على مستوى الوعي والنظر. كما أن "الجماعية" لم تصنع من شاعر ضعيف شاعراً قوياً، ولا انتقصت من خصوصية شاعر متفرد. وإذا أفرزت هذه الحركة الجماعية الواسعة أربعة أو خمسة شعراء مميزين - كما ألمحت عبلة الرويني نفسها - فإنها تكون قد نجحت نجاحاً باهراً فاق الجيلين السابقين: فقد أفرز جيل ريادة الشعر الحر شاعرين مميزين هما صلاح عبدالصبور وأحمد عبدالمعطي حجازي، وأفرز جيل الستينات ثلاثة شعراء مميزين هم أمل دنقل وعفيفي مطر وابراهيم أبو سنة. بحسبة بسيطة - إذاً - يكون ظهور خمسة شعراء مميزين وبعضهم شعراء كبار في نظري من بين جيل السبعينات إنجازاً غير مسبوق. اللهم إلا إذا كان خصوم جيل السبعينات يأملون أن يكون كل شعراء الجيل مميزين. وهو أمل يعبر عن ثقة زائدة فينا نشكرهم عليها، أو عن تفاؤل مفرط لم نقع فيه نحن، أو عن تعنت عابث نبتسم لهم بسببه إشفاقاً ورأفة. ومعلوم، كذلك، أن المسافة بين ما تطرحه أية حركة أدبية تجديدية من شعارات نظرية وبين ما تنتجه من منتجٍ إبداعي متعين، تكون مسافة كبيرة، وذلك لسبب بسيط هو أن الشعارات النظرية سهلة لأنها بنت الطموح العقلي وبنت الوعي اليقظ وبنت الحلم غير المشروط، في حين أن الانتاج الإبداعي صعب لأنه مشروط بالموهبة ومرهون بالكفاية ومربوط بالإمكانات الذاتية. لقد قال صلاح عبدالصبور إن لديه شهوةً لإصلاح الكون، وقال شللي إن شعره سيسدّ النقص الذي تعاني منه الحياة. ولم يحاكم أحد عبدالصبور لأن شعره لم يُصلح أي كون، ولا حاكم أحدٌ شللي لأن شعره لم يسد أي نقص. وإذا كانت "الفجوة بين النظرية والتطبيق" واردة في النظريات الاجتماعية والمشاريع الفلسفية وخطط الدول، فإن نفي ورودها في عالم الشعر وهو عالم الموهبة والرزق الرباني يغدو نوعاً من الاصطياد غير الكريم. والحق أن الحكم السليم - في الفن خصوصاً - لا يكون بمدى "مطابقة" الشعار النظري للتطبيق الفعلي، بل بمدى اقتراب أو ابتعاد التطبيق الفعلي من الشعار النظري. بهذا المعيار المصنف سنجد أن الفجوة بين نصوص شعراء السبعينات وبين تنظيرهم كانت أضيق ما تكون، على غير ما جرى في حركات سابقة وصلت فيها الفجوة إلى التضاد بين الشعار والشعر ومثالي هنا مدرسة الديوان: العقاد وشكري والمازني، حيث الكلام عن الشعر تجديدي تغييري انقلابي، أما شعرهم نفسه فركيك ضعيف جامد. 6- لا يدعي شعراء السبعينات في مصر أنهم الممثلون الوحيدون للشعر، لأنهم يؤمنون حق الإيمان بالتعدد، ويعلمون حق العلم أن الشعر متعدد وكثير. أما أن يقول أحدنا رأياً في شاعر مجايل أو سابق أو رائد، فتلك آراء نقدية يختلف فيها التقويم، لكنها لا تنفي أحداً أو جماعة أو اتجاهاً. فقد شبعنا من النفي ومن الإقصاء، ودفع الجميع ثمنهما باهظاً. والحق أن الدقة تقتضي من الناقد أن يتابع الظاهرة التي يقيمها في تطورها واتساعها ونضجها، لا أن يتسمر عند لحظة بدايتها الساخنة وحدها. ولو فعل ذلك لاكتشف بسهولة أن رؤية شعراء السبعينات "للآخر" قد ازدادت اتساعاً يوماً بعد يوم، لتتبلور في إدراك رحب يرى أن مجتمعاتنا العربية لم تدخل بعد طور "الحداثة" دخولاً كاملاً شاملاً، ولذا فهذه المجتمعات تحفل بالتشكيلات الاجتماعية العديدة، بدءاً من البدوية والزراعية والتقليدية والصناعية وانتهاء بالعصرية والحداثية و.... ومن ثم فإن هذه المجتمعات تحفل بشتى الأشكال الفنية المعبرة عن تلك التشكيلات الاجتماعية المتعددة. وما زال الصراع بين هذه التشكيلات مفتوحاً، لكنه يجب أن يدور بأصوله الصحيحة: لا نفي، ولا مصادرة، ولا إلغاء. لعل في بعض ما تقدم بعض إجابة عن سؤال عبلة الرويني "والآن، ما الذي تبقى؟". عساها تنظر فيه باعتناءٍ وصفاء نَفْس. فقد تراجع بعض أحكامها السابقة التجهيز، هي والنقاد الذين يشاركونها الرأي. وآمل أن ينال هذا الكتاب الحيّ ما يستحقه من تحليل سوسيولوجي ونقدي، من النقاد، لما يمثله من "وثيقة نابضة"، علماً بأن جيل السبعينات لم يزل موّاراً منتجاً متطوراً متنوعاً، لم يتجمد في "لحظة" سابقة، كما يريد له خصومه المستسهلون. أما الاتهام بالمراوغة والانتهازية، فهو خارج أي حوار جاد.