متى تأسست الرواية السعودية؟ أي مراحل اجتازت؟ أين أصبح موقعها اليوم على الخريطة الروائية العربية؟ هل هناك رواية سعودية حديثة؟ على مثل هذه الأسئلة تجيب هذه الدراسة جامعة بين التوثيق والتحليل. في العام 1930 ظهرت رواية "التوأمان" لعبدالقدوس الأنصاري عن مطبعة الترقي بدمشق. "التوأمان" تعد أول رواية سعودية، وإن وجدت بعض الروايات المجهولة التي يُذكر أنها صدرت قبل التوأمان، لكن غيابها وغياب المعلومات الأكيدة عنها قلّلا من أهمية الإشارة إليها. ونظراً إلى تاريخ صدور أول رواية سعودية نجد أن الرواية في السعودية لم تكن متأخرة في الصدور عن مثيلاتها في البلدان العربية الأخرى، بل كانت موازية لها، إذا استثنينا مصر بالطبع. وقد ساهمت عوامل عدة في بروز الكتابة الروائية في الساحة السعودية التي استأثر الشعر بجذب مبدعيها ومتذوقيها. ومن تلك العوامل انتشار التعليم واطلاع الفرد السعودي على الكتب والصحف العربية من خلال توزيعها في الداخل، ووجود كوادر تعليمية تضم نخبة من المثقفين والمبدعين العرب، او من خلال المسافرين من مدرسة تحضير البعثات، ما هيأ لهؤلاء السعوديين - إلى مصر خصوصاً - فرصة الاطلاع على أعمال روائية ناضجة عربية أو مترجمة. وقد مرت الرواية السعودية منذ نشأتها بمراحل عدة. المرحلة الأولى: 1930 - 1957 بدأت هذه المرحلة بصدور رواية "التوأمان" لعبدالقدوس الأنصاري عام 1930 وكان من الكتاب الشباب آنذاك، فعمره لم يتجاوز الخامسة والعشرين، وهذه الرواية تخلو من العناصر الفنية للرواية في شكل واضح، ومهمتها كما قال كاتبها في مقدمتها هي التربية والإصلاح. لكن نظرة المجتمع المحافظ والذي عجنته الذائقة الشعرية المسيطرة قابل الرواية كفن أدبي جديد بنظرة استغراب واستهجان واعتبرها فناً أقل من الشعر، إضافة إلى أنها ارتبطت في الوعي العام بمصدرها الغربي، والنظرة العامة إلى الغرب كانت نظرة عداء ومواجهة. ولعل هذه النظرة وغيرها من العوامل ما أخر صدور عمل روائي آخر يشفع "التوأمان" مدة ثمانية عشر عاماً، أي إلى عام 1948 حين أصدر أحمد السباعي رواية "فكرة" ومحمد علي مغربي رواية "البعث" في العام نفسه، عن دور نشر مصرية. وكانت هاتان الروايتان هما الأقرب إلى مسمى رواية من الناحية الفنية، أما بقية الروايات الصادرة في هذه الفترة الممتدة على مدى سبعة وعشرين عاماً فإنها لا تعدو كونها محاولات خلت من الفنية الروائية. صدرت في هذه المرحلة سبعة أعمال روائية اتسمت بأنها مجرد محاولات لكتابة رواية، فقد غاب عنها كثير من عناصر البناء الروائي، وغلبت عليها النزعة التعليمية الإصلاحية، كما كان بعض هذه الأعمال يدور في بيئات خارجية، كما في رواية "ابتسام" و"الزوجة والصديق" إضافة إلى لغة سرد تراثية معجمية، ما أحوج كتابها إلى مزيد من الهوامش والحواشي التوضيحية. المرحلة الثانية : 1958 - 1979 مع صدور رواية "ثمن التضحية" عام 1959 للكاتب حامد دمنهوري دخلت الرواية السعودية مرحلة جديدة فنياً، وعُدّت هذه الرواية نقلة في الرواية السعودية بمقاييس تلك الفترة وفي اعتبار ما سبقه من أعمال. فهذه الرواية الأولى اعتبرت البداية الحقيقية للرواية السعودية فنياً. ثم توالت الأعمال بعد ذلك. فأصدر محمد سعيد دفتردار رواية "الأفندي" عام 1961، وتبعه في العام نفسه إبراهيم الناصر الحميدان بإصدار أولى رواياته "ثقب في رداء الليل" ثم محمد مليباري "وغربت الشمس"، ثم عاد دمنهوري وأصدر عمله الثاني "ومرت الأيام"، كما أصدر إبراهيم الناصر "سفينة الموتى". شهدت هذه المرحلة تنوعاً في الإنتاج الروائي" فقد ظهرت اول رواية تاريخية وهي "أمير الحب" لمحمد زارع عقيل عام 1965، كما شهدت حضور أول مساهمة نسائية في الرواية السعودية وهي سميرة خاشقجي التي كانت تكتب تحت اسم "سميرة بنت الجزيرة"، وأصدرت في هذه الفترة ست روايات أولاها "ودعت آمالي" عام 1961، وتتابعت الأقلام المؤنثة فأصدرت هند باغفار روايتها "البراءة المفقودة"، وهدى الرشيد "غداً سيكون الخميس". لكن الرواية النسائية في هذه الفترة اتخذت من البيئات الأجنبية بأحداثها وشخصياتها فضاء للسرد، ولعل ذلك راجع إلى أن معظم كاتبات المرحلة قضين حياتهن في تلك البيئات خارج الوطن، وغلب الضعف على بنائها الذي اعتمد في تطوير الأحداث على المصادفات والأحداث المأسوية المبالغ فيها. ولعل رواية هدى الرشيد كانت أقرب الأعمال إلى الفنية. قفز الإنتاج الروائي خلال هذه المرحلة التي استغرقت اثنين وعشرين عاماً إلى ضعف ما أُنجز في المرحلة السابقة على رغم قصر المدة. وساهم في هذه الحركة النشطة تزايد وعي الطبقة المثقفة بأهمية الرواية في هذا العصر وازدهار حركة النشر والطباعة المحلية، وشجعت الدولة الكاتب السعودي بشراء 30 في المئة من كمية الكتاب المطبوع. تميز إنتاج هذه المرحلة إضافة إلى الغزارة الكمية بظهور جيل جديد من الكتاب بدا أكثر وعياً بقواعد الفن الروائي وأصوله كما تميز أيضاً بظهور القلم المؤنث للمرة الأولى، وظهور انواع روائية جديدة غير الرواية التعليمية التي سادت في سنوات سابقة. ووجدت الرواية الواقعية والتاريخية والوجدانية إضافة إلى دأب كثير من الكتاب في مواصلة الإنتاج حيث صدرت روايات عدة لكاتب واحد. المرحلة الثالثة : 1980- 1992 في هذه الاثني عشر عاماً صدرت أعمال روائية تشكل أكثر من ضعف ما أُنتج في خمسين سنة خلت. ومع هذه الغزارة غير المعهودة يحق لنا القول بجلاء إن الأعمال الناضجة في بنائها الروائي ظلت قليلة أيضاً، ربما لا تصل إلى ثلث المنتج المنشور في هذه المرحلة. هذه الطفرة الروائية لها ما يبررها من الوضع السياسي المستقر والطفرة الاقتصادية والعمرانية التي مرت على المواطن السعودي، إضافة إلى الانفتاح الثقافي على المنتج العربي بخاصة والعالمي بدرجة اقل. وكان لانتشار الجامعات والكليات المتخصصة أثر بالغ في ذلك. أبرز روايات هذه المرحلة هي أعمال عبدالعزيز مشري "الوسمية" و"غيوم الخريف"، وطاهر عوض سلام "الصندوق المدفون" و"قبو الأفاعي"، وعبدالعزيز الصقعبي "رائحة الفحم"، ورجاء عالم "4 صفر" وسواها. وشهدت هذه الفترة ظاهرة جديدة تمثلت في ظهور أعمال نقدية خاصة بالرواية السعودية، ابتدأها السعودي منصور الحازمي بكتاب "فن القصة في الأدب السعودي الحديث" 1981، ثم المصري السيد محمد ديب بكتاب "فن الرواية في المملكة العربية السعودية بين النشأة والتطور" 1990، ثم كتاب آخر للفلسطيني محمد صالح الشنطي "فن الرواية في الأدب السعودي المعاصر" 1990. يعد ازدهار الحركة الروائية أبرز سمات هذه المرحلة، وازدياد كمية الأعمال الفنية المتميزة، مع انها لا تجاوز ثلث المنشور من الأعمال، وكذلك ظهور أسماء روائية جديدة انضمت الى الأسماء التي واصلت إنتاجها في مراحل سابقة، ومنها: عبدالعزيز مشري وأمل شطا وحمزة بوقري وعبدالعزيز الصقعبي. وعالجت الرواية قضايا جديدة كالاغتراب وعمل المرأة وهجرة أبناء القرى إلى المدن وزحف المدنية على المجتمعات القروية، ما جعل الرواية تقترب أكثر من قضايا المرحلة وإن كان اقتراباً يكتفي بالقشرة دون اللبّ. توقفت هذه المرحلة عند 1992 لتبدأ الرواية السعودية مرحلة أخرى من مسيرتها سنصطلح على تسميتها بمرحلة "الرواية الجديدة". الرواية الجديدة أو "رواية التسعينات" كثيرون من المتابعين للرواية السعودية من النقاد يعدون عقد التسعينات هو التاريخ الحقيقي للرواية السعودية، وما أنتج قبل هذه الفترة من روايات إنما يأتي في سياق النشأة والمحاولات الأولية. وعلى ما في هذا الرأي من تجنٍّ وجور واضح على منجز ستين عاماً كُتب خلالها ما يقارب مئة رواية، إلا أنه حقيقي وموضوعي بالنظر إلى حجم الأعمال الناضجة في المراحل السابقة، فهي كانت قليلة العدد إضافة إلى أن الضعف الفني لم يفارق كثيراً عناصرها البنائية أو التعبيرية. إن تأخر كتابة رواية سعودية ناجحة كمّاً ونوعاً وفنية، راجع إلى عوامل عدة أهمها انعدام الجرأة والشجاعة الأدبية، كما تحمّل المسؤولية الثقافية لدى الكتاب السعوديين في معالجة قضايا مجتمعهم التاريخية والواقعية على السواء، إضافة إلى ضعف التجربة والممارسة الكتابية لديهم، يضاف إليه كسل المبدع السعودي في وجه عام، وتراخيه في القيام بصورته الثقافية والفنية كشاهد على الواقع من جهة، وفاعل مؤثر في صيرورته وتحوله من جهة اخرى عبر عمل روائي زاخر وجريء. وكتابة الرواية تحتاج إلى دأب وطول نفس ما جعل بعض الكتاب والكاتبات يترددون ثم يتراجعون عن الإقدام على تجربة الكتابة الروائية. وذلك واضح في المقدمات الاعتذارية التي كتبها عدد من الروائيين لرواياتهم وكذلك في حواراتهم الصحافية. تلك العوامل السابقة المتعلقة بالكاتب السعودي ذاته يوازيها في المقابل هيمنة التقاليد وسيطرتها على المجتمع في شكل مخيف، إضافة إلى محدودية الزمان والمكان الضروريين والتجارب الحياتية المؤهلة لكتابة عمل ناضج. ما استجد في عقد التسعينات من عوامل اجتماعية في الداخل أو قادمة من خارج المجتمع السعودي وبخاصة بعد حرب الخليج الثانية أفرز مناخاً حيوياً لإنتاج رواية حديثة فنياً ودلالياً. هذا المناخ هيأ لبروز رواية قادرة على الإيغال في أعماق الذات والخلوص إلى داخل حجب الخوف من التقاليد والقيود الحقيقية أو المتوهمة. ووفر كمية صالحة من الثراء البيئي والمعرفي مكّن الكاتب السعودي من الانتقال بالمتلقي إلى لوحات جيدة ومتغيرة تجذبه لتطرح أمامه قضايا فنية إنسانية واجتماعية، مكانية وزمانية وسياسية أيضاً. هذا المناخ دشن هامشاً حوارياً جيداً يتمحور حول عديد القضايا الساخنة والراكدة آنذاك في تجاويف البيئة السعودية، ما انتج خطاباً ثقافياً جريئاً ومتفاعلاً أدى إلى بروز مغامرات روائية جديدة في الساحة السعودية. تعتبر رواية "شقة الحرية" 1994 لغازي القصيبي عملاً روائياً مفصلياً في مسيرة الرواية السعودية. فهي افتتحت بداية مرحلة جديدة من الكتابات الروائية التي تحمل إضافة إلى نضجها الفني واكتمال عناصرها البنائية إلى حد كبير، جرأة غير معتادة في الكتابة السعودية، وحرية في الطرح كشفت المستور الاجتماعي والسياسي والثقافي. تتابعت روايات القصيبي في ما بعد حتى وصلت إلى ثماني روايات، منها: "العصفورية"، "دنسكو" و"سلمى". ثم زاد من هامش الحرية ومساحة الجرأة الكاتب تركي الحمد بثلاثية "أطياف الأزقة المهجورة" التي ابتدأها برواية "العدّامة" 1997 ثم "الشميسي" و"الكراديب" 1998، وهذه كانت شهادات حية وواثقة على تحولات المجتمع السعودي وتغيرات البنية الثقافية والسياسية التي مر بها جيل الستينات والسبعينات من القرن الماضي. وبعدها توالت أعمال الكتاب الذين تشجعوا في إصدار أعمال روائية جديدة بعد أعمال غازي القصيبي وتركي الحمد. ويصرّح بذلك الروائي عبده خال في حوار صحافي بقوله: "غازي القصيبي منحنا هامشاً واسعاً وتركي الحمد فعل ذلك أيضاً، الأيام القادمة كما أرى ستقدم المزيد". المنجز الجديد لهذه الأعمال قدم خطاباً حوارياً جديداً ومنفتحاً في شكلٍ واعٍ على مسارات واتجاهات عدة. فروايات غازي القصيبي وتركي الحمد وعلي الدميني في "الغيمة الرصاصية" عالجت المخبوء السياسي من خلال تفاعل بعض النخب السعودية المثقفة مع تيارات التقدمية والناصرية التي سيطرت على أفق المرحلة، بينما جاءت روايات عبده خال "الموت يمر من هنا"، و"مدن تأكل العشب" و"الطين"، وكذلك رواية "الفردوس اليباب" للكاتبة ليلى الجهني كاشفة عن جوانب كثيرة من المستور الاجتماعي، وقد رصد عبده خال التحولات الكبيرة التي مرت بالمجتمع السعودي في مرحلتي التأسيس والطفرة بخاصة، من خلال طرحه بيئة مزدوجة لعالمي القرية والمدينة. في حين كانت ليلى الجهني في فردوسها أكثر جرأة على الغوص في اعماق المدينة السعودية الحديثة وما تعج به من عذابات ومفارقات. توالت بعد ذلك الأعمال الروائية المدرجة ضمن هذا التيار الاجتماعي الثقافي العام بأسماء جديدة أبرزها: عبد الحفيظ الشمري في روايتيه "فيضة الرعد" و"جرف الخفايا"، وعبدالله التعزي في "الحفائر تتنفس"، ويوسف المحيميد في "فخاخ الرائحة"، ونورة الغامدي في "وجهة البوصلة"، وزينب حفني في "لم أعد أبكي"، وأحمد أبو دهمان في "الحزام" وبعض أعمال عبدالعزيز مشري الصادرة منتصف تسعينات القرن المنصرم. في الجانب الآخر كانت رجاء عالم تتماهى في أعمالها الأخيرة "سيدي وحدانة" و"خاتم" و"موقد الطير" مع ذاكرة تحمل مخزوناً ثقافياً أسطورياً ربما يمتد إلى مراحل مغرقة في الموروث الإنساني بعامة، مما أدى بأعمالها إلى صعوبة في التلقي عبر لغتها المراوغة والعصية، وبيئاتها الروائية الغامضة إلى حد بعيد، إذ اعتبرت رجاء عالم تجربة فريدة في الرواية السعودية قوبلت برفض كثير وقبول أقل. ولعل أبرز ما يميز رواية تلك المرحلة جرأة الطرح وملامسة قضايا حيوية في الداخل السعودي مع حمولات فكرية وأيديولوجية، وتميزت بنضج فني أوفر مما سبق. هوامش حول الرواية الجديدة الاتجاهات التي طرحتها الرواية الجديدة سياسياً واجتماعياً وثقافياً لم تكن حادة تماماً، إذ جاء كثير من الأعمال محملاً بمختلف القضايا وتداخل فيه الكثير من التيارات والاتجاهات. نالت الرواية الجديدة حظها من التجريب، كما لدى رجاء عالم ويوسف المحيميد في روايته "لغط موتى". افتقر النضج الفني إلى التراكم الكمي الذي يعزز حضوره في شكل كاف. فعلى رغم وجود الأعمال الناضجة وتتابعها إلا أن الساحة الثقافية لا تزال تتلقى روايات متهالكة فنياً تعيدنا بطرحها التربوي والإصلاحي إلى زمن الأنصاري والسباعي مثل رواية "دفء الليالي الشاتية" لعبدالله العريني، ورواية "بعد المطر دائماً هناك رائحة" لفاطمة بنت السراة. ظهرت في فترة تسعينات القرن الفائت أعمال لروائيين عرب بيئتها سعودية. وهؤلاء كانوا أقاموا في السعودية مثل "براري الحمّى" لإبراهيم نصر الله، و"نجران تحت الصفر" لوزير الثقافة الفلسطيني الحالي الروائي يحيى يخلف. جرأة الكتاب لا تزال غير كافية، الى درجة تؤهلها للغوص بعيداً في المعالجة السردية. فلا تزال الشخصيات غير مسماة والأماكن معمّاة والزمن مبهماً. مستوى التلقي العام لهذه الأعمال الجديدة يقبع في درجات متدنية جداً. فكثيرون من القراء وبعض المثقفين يطلقون عبارات التجريح الشخصي على الكتاب الجدد بتعصب مقيت. وظفت تقنيات السرد الحديث في أعمال تسعينات القرن المنصرم بوعي تام، كالاسترجاع والمونولوغ وتعدد الأصوات وتقطيع الزمن السردي وغيرها. * كاتب سعودي، والمقالة هي النص العربي الأصل للترجمة الإنكليزية التي نشرتها مجلة بانيبال في عددها الجديد.