1 فكرة الحرية هي ما لا بد من التشديد عليه، كلما انتبهنا إلى موضوع الزمن الذي نعيش فيه، وكلما راجعنا الزمن الحضاري. لا عجب في موقف كهذا. إنه ما دلنا من اليوم الأول على الطريق وعلى اختيار رفيق الطريق. نحن هنا وهناك. ننتقل من زمن إلى زمن فيما نحن نعيش الزمنية الكبري. من دون ذلك يصبح الماضي معتقلاً في الماضي أو الحاضر أسير الماضي. وهما ينفيان إمكان مستقبل. أعني مستقبلاً أساسه فكرة الحرية. من جديد أستدعي فكرة الحرية، لأن الولاياتالمتحدة الأميركية ترفع شعار الحرية مقدمة لإعلانها الحرب على ما يتعارض و"مصلحة العالم". الحرية فكرة تشترك فيها الإنسانية. وهي في ملكية كل من يدافع عنها. من هنا لا تكون أميركا راعية الحرية ولا الغرب راعيها. هي فكرة تهاجر من أرض إلى أرض. ومن حضارة إلى حضارة. لأن الإنسان ابن الحرية. وابن البحث عن الحرية. وابن الدفاع عن الحرية. بهذا أيضاً أفرق بين الانتماء الى الفكرة، فكرة الحرية، وبين الانتماء الى الدول. لا يمكن أن نقيس درجة الانتماء الى فكرة الحرية بقدر الانتماء الى بلد من البلدان. هذا مجاف للواقع ومخالف لتحكيم العقل. نعم، يمكن أن أكون ابن بلد يحكمه التسلط والاستبداد ولكني متشبع بفكرة الحرية. كذلك، يمكن شخصاً ما أن ينتمي الى بلد يعتمد فكرة الحرية ولكنه هو، كشخص، لا يؤمن بها. تلك أوليات. والتذكير بها مفيد في مناقشة ما يتهيأ لنا، رغماً عنا. والتذكير يحفظ ما يحتاج إليه من الجرأة على مواجهة الذات والآخر، في موضوع الإصلاح. لا الذات واحدة ولا الآخر واحد. فكرة الحرية هي ما يضع الفاصل بين الأرض التي تزهر فيها الحرية وبين الأرض التي تعلن الوصاية على الفكرة الحرة وعلى المومنين بها. ولربما كانت أميركا نسيت ما لا يجب ألا تنساه وهي تطرح مشروع الإصلاح علينا وعلى من يشترك معنا في حدود المرعى الأميركي. هنا، على الأقل، مواطنون مفكرون وأدباء وفنانون كانوا اختاروا فكرة الحرية ودافعوا عنها في أعمالهم وفي ممارساتهم السياسية والنقابية ومؤسسات المجتمع المدني. دافعوا عن الانتقال من عهد الوصاية على فكرة الحرية إلى عهد التصريح بها والإعلان عنها أمام الناس، جهراً، دونما خوف على حياة فردية أو جماعية. فما موقع هذا التاريخ الحديث، ضمن مشروع الإصلاح الأميركي، لفكرة الحرية في العالم العربي؟ سؤال يمكن توجيهه للأميركيين مثلما نوجهه للحكام العرب. هل ما كان اقترحه أنصار الفكرة الحرة من العرب يتعارض مع فكرة الحرية؟ وهل هناك من هو أفضل من أبناء البلد في اختيار نمط الحرية واختيار الفاعلين وحقول الفعل؟ أسئلة تتوارى خلف أشباح لا نراها. وهي التي تهيئ الفصول الأخيرة من المسرحية التي علينا أن نشاهدها أو أن نكون ممثلين فيها، بهذا القدر أو ذاك. فالنخبة، التي عارضت الحكم الفردي وحاربت الاستبداد، ستجد لنفسها مكاناً في مشروع الإصلاح. علينا ألا نكون أغبياء فنتخيل أن الأميركيين سيقومون بأنفسهم بتنفيذ المشروع الذي أعدوه لنا ولهم. والتذكير يضع أمام النظر جميع هذه الأطراف. 2 "مصلحة العالم" تعبير جديد في الخطاب السياسي. فهو لم يكن مستعملاً ولا متداولاً في زمن الحرب الباردة. الآن كل شيء واضح. "مصلحة العالم" تترجرج على سطح البسيطة بدلالة العالم النافع، الصالح، الحارس لمصلحة أميركا وأوروبا وإسرائيل. قيل 11 أيلول سبتمبر كانت أميركا تضع الموازين. وفي مقدمها حقوق الإنسان، في المناطق التي ترى من مصلحتها مطالبة الآخر بها. الاتحاد السوفياتي كان الهدف الأول. ثم بلاد استبدادية عدة. وهو ما فتح الباب لعدم اصطدام المصلحة بصخرة الآخر، الذي لا ينضبط للغرب. المغرب نموذج للبلاد التي خضعت فيها السلطة عندما طلبت منها أميركا احترام حقوق الإنسان. وحتى التجربة التي أصبحت معروفة في المغرب باسم تجربة التناوب كان الأميركيون وراءها. هناك من يعتقد في المغرب، وخارج المغرب، أن القوى التي تعتبر نفسها وطنية وتقدمية هي التي كانت سبباً في انتزاع بعض من حقوق الإنسان أو الحقوق السياسية أو الوصول إلى التناوب في الحكم. اعتقاد قاصر. لأن ميزان القوى، كما يصطلح على ذلك الخطاب السياسي، لم يكن يسمح من الداخل بفرض رأي ولا موقف على ملك المغرب. تظل حقوق الإنسان من مبادئ مشروع الإصلاح. وهي كانت حاضرة، من قبل، في الخطاب الأميركي وفي الممارسة السياسية الأميركية. لكن الجديد، بعد 11 أيلول، هو ظهور شعار جديد يتمثل في العلوم الإنسانية. أي في اللغة والفلسفة والأدب والتاريخ. رد الفعل الأميركي الأول على الهجوم تلخص في نقد الفكر الذي قاد إلى أحداث 11 أيلول، بما هو فكر صادر عن تعليم متنكر للعلوم الإنسانية. لا أظن أن حاكماً عربياً واحداً استوعب الملاحظة. هذه المعرفة باللغة والفلسفة والأدب والتاريخ كانت موضوعة موضع الاتهام في النظام العربي بطرفيه. الأول، هو الذي كان يحرِّم العلوم الإنسانية لأنها عنوان الحداثة. وهي من هنا كفر وإلحاد. أما الطرف الثاني فكان من قبل اتهم العلوم الإنسانية بأكثر من جريمة. فالفلسفة، مثلاً، لم يعد لها مكان في الغرب، لأنها علم غير نافع. والأدب والتاريخ علمان لا يستحقان أي عناية. واللغة مجرد ضجيج. نحن مجتمع يعاني البطالة. وأول ما سيخلصنا من البطالة هو التوجه نحو تعليم النافع، أي هجر اللغة والفلسفة والأدب والتاريخ، والاقتصار في التعليم على العلوم الطبيعية والتقنية والدقيقة. ويبقى الدرس الديني والوطني مشتركاً بين الطرفين، لأنهما أساس المواطن النافع للوطن. حجج متداخلة. فالخوف من العلوم الإنسانية هو خوف من الفكرة الحرة، من الوعي النقدي، من الانفتاح على مسار الحضارات الإنسانية والاندماج في المجتمع الإنساني الحديث. وها هي البطالة لا تتوقف عند حد. وها هو الانغلاق والتعصب والأصولية والإرهاب. ولنا من الدم ما يؤلف بين أبناء مجتمع في مآتم بعدها مآتم. بين عالمين نحن في قراءتنا وفي تأملنا. والدعوة الأميركية إلى الإصلاح لم تنزل بغتة ولا في جملة واحدة. بعد حقوق الإنسان والعلوم الإنسانية جاءت الصيغة المعبر عنها في الشهور الأخيرة. إنها المرحلة الثالثة، التي أصبح الخطاب الأميركي فيها أوضح عندما جمع في الدعوة إلى مشروع الإصلاح بين الديموقراطية وحقوق الإنسان من ناحية، ووضعية المرأة من ناحية ثانية ثم التعليم من ناحية ثالثة. ثلاثة حقول تحدد صياغة استراتيجية "مصلحة العالم" عبر مبدأي التسامح وقبول الآخر. ثلاثة حقول هي بمثابة الآراء الكبرى التي كان دافع عنها أنصار فكرة الحرية في المجتمع العربي الحديث. وهي تلخص ما سعى إليه تاريخ فكري وأدبي وفني، وما دعمته قوى سياسية على امتداد أكثر من قرن. الحاكم العربي لم يكن يسمح بهذا الخطاب أو كان يعامله بالازدراء. غاوون عادوا من بلاد الغرب بأفكار تتعارض وقيم الإسلام. هكذا ادعى. وبهذه الفتوى تمت مواجهة نخبة واسعة من المثقفين والسياسيين. وفي كل مرة كانت مصلحة الاستعمار ومصلحة الغرب إلى جانب الحاكم العربي أو صامتة عما يفعل، حفاظاً على مصلحتها العليا. هي المصلحة كانت حاضرة في الخطابات والممارسات الأوروبية والأميركية. وبها كان الحاكم العربي يعرف كيف يزج بأصحاب الفكرة الحرة في الأقبية أو كيف يعدمهم أو ينفيهم. ونادراً ما كانت المصالح بين الطرفين متعارضة. أميركا كانت مطمئنة إلى حكمتها في العالم العربي. المصالح واضحة وآمنة. ما يتجاوز ذلك يبتعد عن همها. والنخبة العربية، التي دافعت عن فكرة الحرية، كانت بالنسبة الاستعمار أو بالنسبة الى أميركا عدواً. فمفهوم المصلحة لا يراعي حاضراً ولا مستقبلاً للعالم العربي. ولا لشعوب عربية. ولا لثقافة. 3 مشروع الإصلاح الأميركي لا يعطينا اليوم أكثر مما نعرف في شكل تصريحات وبيانات. وهي تأتي مدعمة بمساندة أوروبية في مؤتمرات ولقاءات دولية لها قوة القرار. وما يجد صداه الصادم، في المؤسسات العربية، هو ما يمس الجانب التعليمي. أي ما يتضح في التعليم الديني. وهو ما توالى الحديث في شأنه. مثل تغيير الخطاب الديني في التعليم والإعلام بما يتوافق والتسامح وقبول الآخر. أو إعادة النظر في المساجد، من حيث ضبط البناء أو المراقبة أو حتى الاستعمال. فالمساجد للدولة لا لله. والدولة هي صاحبة المصلحة في بناء المساجد وفي مراقبتها واستعمالها. مصدر الأصولية والإرهاب هو الخطاب الديني وهو المساجد. لذلك فأول ما يتوجب إصلاحه هو المجال الديني، قبل سواه. وفي دعوة كهذه أبواب لا عدّ لها. ف"مصلحة العالم" تقتضي ما لا يتوقعه الفقهاء ورجال الدين وأولياء الحكم. وهم ملزمون بما يصدر في شأنه الأمر، حيناً بعد حين. وكل رافض للأميركيين يعتبر من أصحاب التطرف والأصولية والإرهاب. لن أقابل، هنا، بين فكر ديني يهودي وفكر ديني إسلامي، في مسألة العنف أو الإرهاب. بين وضع التعليم الديني في إسرائيل وفي العالم العربي. تلك مشكلة لا يطرحها الأميركيون. ف"مصلحة العالم" لا تقتضيها. لكن الأمر الذي يتطلب التوضيح هو أن الأميركيين لم يأتوا بجديد في القضايا المحورية لمشروع الإصلاح. جميع هذه المحاور كان أنصار فكرة الحرية من العرب دعوا إليها في كتاباتهم الفكرية وفي أعمالهم الأدبية والفنية. الحاكم العربي لم يكن يسمح بما يكتبون وبما يدافعون عنه أو كان يزدريه. كان الكرسي أعلى من قامة شعب، والمجد الشخصي أعظم من كرامة أمة. لهذا، فإن النخبة العربية لن تنزعج، من حيث المبدأ، من الخطاب العام الذي يعتمده مشروع الإصلاح الأميركي. فهذا الخطاب هو خطابها وقد سرقته أميركا من النخبة العربية بعد أن أدركت أن هيمنتها على العالم العربي، بالتحالف مع الأصولية، لا تنحصر عواقبه في العالم العربي بمفرده. عواقبه هاجمة على "مصلحة العالم". من هنا تعيد أميركا النظر في مفهوم العالم العربي وفي مفهوم المنطقة برمتها. عدم انزعاج النخبة العربية الداعية لفكرة الحرية يتوقف عند المبدأ. والمبدأ مسور بسياق. وفي اختلاف السياق يكمن عدم التوافق بين الأميركيين والنخبة العربية. السياق الأميركي يتحدد في "مصلحة العالم"، فيما سياق النخبة العربية كان يتحقق في "مصلحة العالم العربي ضمن العالم". بين السياقين مسافة من تأويل لمحاور الديموقراطية وحقوق الإنسان ووضعية المرأة والتعليم. من هذا المنظور يبدأ الاختلاف في البروز. ويبدأ الشك في دلالة كل محور من المحاور الكبرى لمشروع الإصلاح. ويبدأ ما لا يقبل الصمت عنه. تأويل فكرة الحرية، أو استراتيجية التسامح وقبول الآخر، في السياق الأميركي، يتحول إلى تأويل مفتوح على عبودية جديدة. المواقف الأميركية لا تدعو إلى المزيد من البراهين. هي وحدها الدليل على أنها تلغي مصلحة العالم العربي من "مصلحة العالم"، أي تطرد العالم العربي من العالم. 4 بسهولة تختلط السبل وتلتبس. فالقراءة الأولى لمشروع الإصلاح تشجع على الدفاع عنه، في وجه حاكم عربي مستبد وسلطة عربية قانونها هو الطاغوت. ولست من أهل القراءة الأولى. محنة العالم العربي تشجع على التشبث بأي منفذ لمواجهة انهيار يمس حياة ويمس موتاً على حد سواء. وهو تشجيع أحترمه، لكون أصحابه ضاقوا. انسد الأفق الذي منه يمكن أن يدركوا شبراً واحداً ليتنفسوا. مسألة القبول أو الرفض لا تنطلق من الراهن، اليومي. تلك حكمة السياسيين الذين يقيسون ممارستهم وأفعالهم بالمسافة اليومية. وأقل من اليومية أحياناً. تلك مشكلتهم. أما في التأمل الفكري، فإن اليومي له اعتبار في علاقته بالمصيري. بالمستقبلي. بقدر ما له علاقة بالماضي. لذلك، فإن السياق الخاص بمشروع الإصلاح يصبح أسبق. السياق ليس جملة اعتراضية ذات دلالة على تعصب لوجهة نظر. هو أساس الاختيار. أساس التحرر من منطق الوصاية، أكانت وصاية صادرة عن الحاكم العربي المستبد أو كانت صادرة عن أميركا المفضلة ل"مصلحة العالم" على مصلحة العالم العربي. أفكار منيرة في تاريخ البشرية كان السياق محولاً إياها إلى أفكار معتمة، إن هي لم تكن تحولت إلى أفكار نارية، لمجرد أن السياق الذي هي له لم يعد سياقها. وفي الفرق بين السياقين وبين الشرطين تنكشف عوالم وتندثر أخرى. 5 من هذا المنظور تصبح قراء مشروع الإصلاح التزاماً معرفياً ودفاعاً عن فكرة، هي فكرة الحرية. ولنا في يومنا ما يخرسنا. حتى لا كلام إلا من خلف حجاب بيننا وبين أنفسنا. ذلك هو التأمل الذي يبقى المأوى. بتعريف يضيء الطريق إلى التأمل، بعيداً عن ضغوطات حياة يومية تطالب بالمزيد من الاستسلام. وفي التأمل ما يخفف العبء أو يثقله. هو ما يرافقني وأنا أقرأ عالماً يتهاوى.