في تقديم "الحياة" للبطولة الأوروبية الثانية عشرة لكرة القدم يورو 2004 أكدنا أن المدرب الألماني لمنتخب اليونان أوتو ريهاغل نجح في تحويل الفريق المستقر في الظل إلى الأضواء، وأن نجوم كرة القدم في اليونان انتزعوا الشعبية التقليدية من لاعبي كرة السلة، وأن ريهاغل أصبح الملقب ب "الملك" في الصحافة اليونانية. واليوم وبعد مرور خمس مباريات للمنتخب اليوناني في البطولة وتأهله المشرف والمستحق إلى المباراة النهائية غداً أمام البرتغال صاحب الملعب تحول كل شيء من جديد لمصلحة ريهاغل. وأصبح المدرب الألماني أحد أهم وأبرز الشخصيات في تاريخ البلاد متخطياً حدود الرياضة وكرة القدم، وباتت صورة المدرب موجودة في الصفحة الأولى لكل الصحف وعلى جدران المقاهي والمدارس والمنازل. ريهاغل تسلم المنتخب اليوناني بلا إنجازات ولا طموحات، بلا نجوم ولا ألقاب، وتحول معه كل شيء إلى الأفضل، وكأنه قادر على تحويل التراب إلى ذهب. عندما ذهب المنتخب اليوناني إلى النهائيات الأوروبية وضعته الترشيحات في المركز الرابع عشر بين المنتخبات المشاركة في البطولة، وهو المركز ذاته الذي ذهبت إليه المراهنات أيضاًً، واعتبر الجميع أنه بلا فرص في التأهل عن مجموعته في وجود الرهيبين البرتغال وإسبانيا، ومعهما روسيا. ومن اليوم الأول فرض ريهاغل ورجاله كلماتهم وبصوت عال بالفوز المفاجئ على منتخب البرتغال 2-1 في مباراة الافتتاح في ملعب بورتو، وكان اليونانيون الأفضل بجدارة من البداية وهم الذين بادروا بالتسجيل وعززوا فوزهم، وقدموا للعالم درسا في الأداء الجماعي والالتزام الخططي والتفاني في بذل الجهد من أجل مصلحة الفريق، ولم يحاول أحدهم استعراض مهاراته أو عمل أي مراوغة أو أداء لعبة فنية، حتى تحول اللاعبون عملياً إلى قطع من الشطرنج في أرض الملعب، يحركهم المدرب ريهاغل من الخارج بإبداع وتمكن كاملين وبقدرة من الجانبين على القيادة من ناحية والطاعة من ناحية أخرى. ريهاغل أحسن اختيار اللاعبين في قائمة فريقه، وركز على القادرين على التنفيذ والالتزام التكتيكي بغض النظر عن الأسماء والمهارات والخبرات والتاريخ. لم يعبأ بالمشاكل الداخلية للاعبين ولا بأقوال الصحف عنهم، وجاء اختياره وتركيزه على الحارس نيكوبوليديس صاحب أكبر قضية انتقال محلية دليلاً على اهتمامه بالمستوى على حساب أي شيء آخر. ومن اليوم الأول قرر ريهاغل اللعب بطريقة 4-2-3-1 بدلاً من الأسلوب التقليدي الذي اتبعه في التصفيات 3-5-2، وجاءت تلك النقلة على النوعية والحضارية دليلا على اهتمامه بتحقيق التطور والتركيز على المنافسة، وهما أمران لم يعتقد أحد أن اليونان ستضعهما في اعتبارها في "يورو 2004" والجميع اعتبر أن مشاركتها شرف كبير يجب أن تعترف به وتكتفي بالإشارة إليه. ريهاغل قرر اللعب بطريقة 4- 2- 3- 1 التي تعطي أبعاداً وقدرات هجومية لفريقه وتتيح له مقارعة الكبار وتمنح الثقة للاعبين في أنهم ذاهبون للمنافسة والفوز. وعلى مدار البطولة أثمرت الطريقة نجاحا هائلاً من اليوم الأول، ولكن النجاح الأكبر كان لريهاغل في تصميمه على الاستمرار بها وفي التعديلات التي أدخلها على تشكيلته من مباراة إلى أخرى، وهو أعطى الأولوية دائما للأجهزة والأصلح لتنفيذ طريقته. والعارفون بالمنتخب اليوناني يدركون أنه كان يلعب بطريقة 3- 5- 2 قبل البطولة، وأن تشكيلته الأساسية كانت تعتمد على نيكوبوليديس في المرمى وديلاس ودابيزاس وغوماس في الدفاع الخلفي وسيتاريديس وفينيتديس في جانبي الملعب وكاراغونيس وزاغوراكيس وغياناكوبولوس في الوسط، وثنائي الهجوم لاكيس ونيكولايديس. وبدأ اليونانيون البطولة أمام البرتغال بتشكيلة من نيكوبوليديس وأمامه سيتاريديس وديلاس وكابسيس وفنيساس في الدفاع وكارغونيس وباسيناس في ارتكاز الوسط وغيانا كوبولوس وزاغوراكيس وفريزاس في الخط الهجومي الخلفي وخريستاس في رأس الحربة. كل شيء تغير في الفريق من مباراة إلى أخرى، واعتمد ريهاغل على المهاجم البارع خريستاس كرأس حربة وحيد وأساسي، وهو لم يخذله مطلقا سواء بهدفيه ضد روسيا وفرنسا أو ألعابه الرائعة إلى زملائه أو مساعدته لهم بتحركاته الذكية وجلب انتباه المدافعين لتفريغ وخلق المساحات للقادمين من الخلف، وأصبح نيكولايديس احتياطيا باستمرار. ووضع ريهاغل ثلاثة في الهجوم الخلفي من زاغوراكيس وفريزاس ولاكيس، وركز على حركتهم الدائبة في الملعب للانطلاق في المساحات ولاسيما على الجانبين وإرسال الكرات العرضية مع التسديد من كل الزوايا، ولم يدخر الوقت في تغيير أي لاعب يقل مجهوده وهو ما أعطاه الفرصة لإشراك غياناكوبولس وتسارتاس ونيكولايدس وباستياس في معظم المباريات بلا خوف من المخاطرة. ولكن ريهاغل سيعاني بكل تأكيد في المباراة الأخيرة ضد البرتغال من الغياب الاضطراري لرمانة الميزان الدفاعية في وسط الملعب كاراغونيس الموقوف بإنذارين، وهو لاعب محوري في هدم هجمات المنافسين وفي تنفيذ الضغط السريع والسليم وفي إيقاف الألعاب السريعة بالمخالفات التكتيكية ولديه قدرة جيدة على بناء الهجمات. ومعه في الوسط محور آخر لا يقل إبداعاً وهو كاستروانيس الذي يمتلك كل مواهب كاراغونيس باستثناء الشق الهجومي أو التسديد، والبديل المرشح للمشاركة في النهائي سيكون دابيزاس أو غوماس مع التركيز على الرقابة اللصيقة للنجم النشيط ديكو. ورباعي الدفاع البرتغالي به ثبات كامل للظهير الأيمن سيتاريديس وهو الأفضل في مكانه طوال البطولة بين جميع الظهراء، ومعه قلبا الدفاع ديلاس وكابسيس، والأول ممتاز في ألعاب الهواء ويشكل مظلة ممتازة أمام حارسه وسجل برأسه هدف الفوز الغالي في مرمى تشيخيا، والتزامهما مميز، سواء في الرقابة أو التغطية أو التمركز ولكن براعتهما في الهواء أكثر منها في الألعاب الأرضية. والظهير الأيسر يتبادله فيساس وفينيتيدس بكفاءة تجعل المدرب مرتاحا وهادئا عند إشراك أحدهما. وفرة البدلاء لدى ريهاغل تمثل قدراً جديداً من النجاح وقدرته على توظيفهم تمثل أكبر جوانب النجاح. براعة البرازيلي سكولاري في قيادة البرتغال إلى النهائي واقتدار ريهاغل مع اليونان أكدا أن "يورو 2004" هي بطولة المدربين، وسقطت تماما نظرية الفوز الدائم للمدرب الوطني مع بلاده باللقب الأوروبي، وسيشهد عام 2004 للمرة الأولى فوز مدرب غير وطني باللقب الكبير.