"آفاق ثقافية" و"مختارات" سلسلتان ثقافيتان شهريتان بدأت وزارة الثقافة السورية - مديرية التأليف والترجمة - إصدارهما منذ العام 2003. وصدر من أولاهما 12 عدداً، ومن ثانيتهما 10 أعداد. ومن المعروف ان الساحة الثقافية السورية تفتقد لمثل هذه السلاسل، مثلها مثل الكثير من الدول العربية الأخرى، عدا مصر والكويت والمغرب. سلاسل مهمة صدرت مثل: "اقرأ" التي كان يشرف عليها الأديب طه حسين، وسلسلة "كتابي" لحلمي مراد و"كتاب الهلال" ورواياته، التي لا تزال تصدر عبر دار الهلال القاهرية. والسلسلتان الكويتيتان المهمتان: "عالم المعرفة" و"إبداعات عالمية". وكلها أثرت المكتبة العربية بشتى أنواع المعرفة والثقافة والأدب. كما انها تعتبر جسوراً تمتد بين الثقافة العربية والثقافة العالمية. تصدر "مختارات" بالتعاون مع دار البعث وجريدتها، في 10000 نسخة لكل عدد، توزع مجاناً للمشتركين. أما "آفاق ثقافية"، فيوزع منها 2000 نسخة من كل عدد وتباع بسعر زهيد 50 ليرة سورية فقط، وذلك ليتسنى للقارئ من الجيل الجديد شراؤها، اللاهث وراء لقمة العيش. والأمر اللافت حقاً، ان هاتين السلسلتين سرعان ما تنفدان من الأسواق، وهذا أمر لم يحدث لأي مطبوعة اعلامية أو ثقافية أو أدبية في سورية، سواء كانت صادرة عن مؤسسات رسمية أو عن دور النشر الخاصة. تكمن أهمية هاتين السلسلتين في نواح عدة، فهي تعمل على تواصل القارئ شهرياً مع عالم المعرفة، كما تساعده على تنظيم هذه المعرفة، وذلك بمحاولتها، في ما يبدو، أن تكون انتقائية، ثم عبر تنوع مضامينها وشموليتها، وتنوع مصادرها العربية والعالمية. من الملاحظ، أن الاهتمام الأكبر يطاول الكتّاب السوريين، الأحياء منهم والأموات. وذلك لاعتبارات عدة، منها: حق الجيل الجديد بمعرفة ما أتى به الأسلاف، وحق الأسلاف في الحضور الدائم. كما ان ذلك يعمل على سد الثغرات، وربما يعتبر بمثابة رد على الزعم القائل في حدوث قطيعة ما بين هذا الحاضر وذاك الماضي خلال عقود القرن العشرين. كما انه يشكل مشهدية موضوعية وجادة للثقافة السورية بشتى وجوهها خلال ذلك القرن. يضاف الى ذلك رد الاعتبار للكتابات الجادة والحقيقية التي لا تزال قضاياها وأسئلتها حاضرة بقوة، يضاف الى ذلك أيضاً رد اعتبار لمبدعين استشرفوا المستقبل بخطوطه العامة من دون أن يتمكنوا من العيش فيه جسدياً، فإعادة طباعة نماذج من مؤلفاتهم اعادة إحياء لأفكارهم ازاء من يتصورون انهم على ساحة الحاضر، لا يشاركهم فيها أحد. يلمس القارئ انفتاحاً واضحاً على شتى الاتجاهات السياسية والفكرية والأدبية في سورية وفي بقية الوطن العربي، في ضرب من احترام وجهات النظر وضرورة تعددها وحضورها في الراهن الثقافي. ثمة كتاب لشكيب أرسلان، وآخر لسلامة موسى، وثالث لصادق جلال العظم. والجدير ذكره هنا، انه يحدث للمرة الأولى ان يطبح كتاب للمفكر والباحث صادق جلال العظم ويوزع عبر مؤسسة رسمية سورية. فكر سياسي وأدبي تتنوع الموضوعات في السلسلتين، من فكر سياسي، الى فكر أدبي، وأنواع أدبية مختلفة، الى الدراسة والمقالة، ربما محاولة لبناء قاعدة ثقافية عريضة رفيعة المستوى في مختلف فروع الثقافة، وفي محاولة لجعل الكتاب بين أيدي قطاعات واسعة وشرائح متباينة من القراء غير المتخصصين. ثمة كتاب يخص الرواية، هو بمثابة ثمانين وردة للروائي حنا مينه بمناسبة عيد ميلاده الثمانين، ضم مقالات عدة في الرواية، بقلم مينه، وتأملات حول تجربة أشبه بالشهادة، هذا الى جانب ثلاث قصص قصيرة من مجموعته الوحيدة "الابنوسة البيضاء". وفي القصة القصيرة صدر "صهيل الجواد الأبيض" المجموعة القصصية الأولى لزكريا تامر، ثم مختارات قصصية لوليد اخلاصي، و"الفهد" لحيدر حيدر، ولفارس زرزور صدرت مجموعة "42 راكباً ونصف". أما في الشعر، فنقرأ "غرفة بملايين الجدران" لمحمد الماغوط، "أبيات ريفية" للشاعر عبدالباسط الصوفي، و"مختارات" من قصائد عمر أبو ريشة، كما سيتم لاحقاً نشر أشعار لنزار قباني وبدوي الجبل. من الكتب الطريفة والممتعة كتاب لعبدالسلام العجيلي بعنوان "المقامات"، وهو بمثابة صلة وصل مع التراث والمقامات الهمذانية، قدّمها العجيلي في الشكل التقليدي المعهود، ولكن بمضامين راهنة وروح عصرية مسربلة بخفة دم واضحة. ولربما يعتبر نموذجاً للتصالح بين المتعاركين المتخندقين في خنادق التراث وخنادق الحداثة. كتاب آخر يبدو نموذجاً آخر لمقامات العجيلي، وهو كتاب "يا ليل"، للباحث اللغوي خير الدين الأسدي، ومعه نذهب في رحلة شيقة للبحث عن أصول وجذور يا ليلي يا عين وصلتهما بالموال، لنجد أن ذلك يعود الى الآشوريين، انطلق من هناك عابراً للأمكنة والأزمنة. كتاب ثالث يبدو صادِماً لأمرين، الأول: ان صاحبه مجهول تماماً بالنسبة الى الجيل الجديد، وهو عبدالرحمن آل شلبي، الذي عاش في النصف الأول من القرن العشرين، وقد طبع كتابه هذا للمرة الأولى في حلب عام 1947، عنوانه "من المجهولة الى مايا - كتاب المستحيل"، والأمر الثاني: ان القارئ سيكتشف ان هذا الكاتب هو أحد الرواد الذين فتحوا باباً آخر نحو المستقبل، على نحو ربما، يبرهن على ان الحداثة قائمة في كل زمان ومكان. والكتاب، إن صح القول، نصٌ مفتوح على أمداء وجودية، نفسية، روحية، عاطفية، روح جريئة في لحظة تجلٍّ وانعتاق تتغلغل في غياهب السؤال والإجابات مشكِّلة أسطورة روح وملحمة جسد يدوران في عبثية الوجود، ويعومان في فضاء لغة متلألئة تعبق بطزاجة الحداثة. ومن الكتب الفكرية صدر كتاب للأمير شكيب أرسلان بعنوان: "لماذا تأخر المسلمون وتقدّم غيرهم؟". يطرح فيه السؤال المقلق والموجع لا يزال. وكتاب "في الحب والحب العذري" لصادق جلال العظم، وكتاب "مقام العقل عند العرب" لقدري حافظ طوقان، و"الأوراق" مقالات مختارة في الأدب والفن والاجتماع لمؤلفين عدة، ثم كتاب "فتاوى كبار الكتاب والأدباء" في مستقبل اللغة العربية وفي نهضة الشرق العربي وموقفه ازاء المدنية الغربية، شارك فيه الكثير من الكتّاب العرب والغربيين، وكانت الطبعة الأولى منه قد صدرت عام 1923 عن دار الهلال القاهرية التي أرادت طرح السؤال وإيجاد مخرج لمشكلة لا تزال ساخنة. وأضيف الى هذه الطبعة الجديدة استبيان حديث طرح الأسئلة ذاتها على كتّاب كبار محدثين في محاولة لاستجلاء إجاباتهم عن الأسئلة المقيمة في ثقافتنا العربية. كما صدر كتاب في الانسان "باني الحضارة وهادمها" بعنوان "حضارة الطين"، لشاكر مصطفى. وحول القومية العربية صدر كتاب للناقد محيي الدين صبحي بعنوان "الأدب والفكر القومي". وكتاب "العرب وتجربة المأساة" لصدقي اسماعيل، كما سيصدر لاحقاً كتاب "تاريخ الحضارة الإسلامية". وإيماناً بوحدة الثقافة الانسانية، وضرورة التواصل بين الحضارات تم اصدار كتابين هما: "بابلو نيرودا" دراسة للمؤلف ألبيرتو كوستي، قام بترجمته الأستاذ صالح علماني، المعروف بترجماته عن اللغة الاسبانية. والآخر لبول فاليري بعنوان "الخلق الفني وتأملات في الفن"، ترجمة الفيلسوف الراحل حديثاً بديع الكسم. وضم الاصدارات اللاحقة "تاريخ الحضارة الأوروبية" و"مختارات من أدب المقالة الانكليزية". هذا وقد احتوت الكتب على مقدمات موجزة ومكثفة، بمثابة بطاقة تعريف بالمؤلف أو بالمترجم على السواء، مع عناوين مؤلفاتهم، وذلك لتبسيط وتسهيل البحث عنها لمن يهمه الأمر من القراء. نأمل لهذه النافذة الثقافية، التي فتحتها وزارة الثقافة ومديرية التأليف والترجمة في دمشق للقارئ العربي، أن تظل مفتوحة، هذا إضافة الى فتح نوافذ أخرى عدة. فقد آن للبيت المغلق أن يطل على الآفاق النيّرة.