أ ولدتها أمها - ذات فجر - في بيت من الطين معتم، وأمها امرأة من قرية تقع على النهر الذي تسامقت على حوافه أشجار العبل، وخرجت من بطنه روافد لقنوات كثيرة تروي الأرض الممتدة. حين صارت الطفلة صبية بضفيرتين تنتهيان بشريطين على هيئة وردة صحبها أبوها بين الحقول تجمع البرسيم، وتنطلق خلف نعجتين له ترعيان الحشائش النابتة على الشطآن، وفي مواسم القطن، تلم مع رفيقاتها زهر القطن الذي تفتح على تيل أبيض مندلق على السيقان وعلى الأوراق الجافة. في مواسم الحَب كانت تلتقط الحَب الساقط من أحمال الجمّال، في الدار علمتها أمها كيف تتصيد الروث من الدواب لتسوي منه أقراصاً تضيفها بين حطب السطح لتجف بدفء الشمس. حين صارت شابة علّمتها كيف ترفع ماء الترعة في جرة ترسخ على رأسها، كما علمتها كيف تقدح السمن، وتقلي البصلة، وتخلط الطماطم، وكيف تعارك العجين، وكيف تحيل كرة العجين إلى رغيف يتقافز بين يديها تسوّيه سخونة الفرن المُتّقد. ب من البلد البعيد يهبط الباعة الجائلون وصُنّاع غرابيل الحَب، ومناخل الدقيق، ورجال يبيعون القُفف والمقاطِف، وفتية يلحمون بالنار نعال البلاستيك. كان يجلس هناك عند مدار الساقية، تحت ظلة شجر التوت أمامه وابور يوش، ونسوة على رؤوسهن أغطية. لما رأت عينه البنت المقبلة حضنها بشوق كان راقداً في الدم منذ عهد قديم، أزاحت العين الجرئية غطاء الرأس، وحلت الشعر المنسدل كأغصان صفصافة، صعدت ربوة الصدر لسعت النار التي بيده يده. ولسعت النار التي بفؤاده فؤاده فانتفض من النار. قالت النسوة حوله: سلامتك من كل عين. حدَّث أباها قال: إنني لم أرتد زي الجُند، ولم أطعم عدسهم بعد. اطلب ابنتك فهي دون البنات تمددت بقلبي، سآخذها معي إلى بلدي التي تُقام فيها الاسواق وتجري فيها القطارات، كما تجري العربات بين دورها على طريق الأسفلت، يسكن ناسها بيوتاً ترتفع طابقين وثلاثة. سيصير لي - في الغد - بيت ودكان أجعله لبيع النعال الجاهزة، وإصلاح الهالك منها إن شاء الله. قال الأب من فوره: هي لك... فأنت طيب، لولا كنت أريدها هنا إلى جواري، وبالقرب من أمها التي تحبها. ج اسكنها لحّام النعال غرفة فرشها بحصير لامع جديد، وصوان بداخله مرآة كبيرة، وسرير بأربعة أعمدة سود، ترتفع إلى السقف يحوطها داير أبيض مرسومة عليه ملائكة صغار تحلق بأجنحة. وعليه ملاءة يتناثر عليها ورد أحمر كبير، ووسادة على جانبيها عصافير تشقشق وتضرب بأجنحتها الصغيرة الهواء حين ترى الجسدين يلتحمان في ذُبالة المصباح المعلق في الركن، تحط عليهما لترتوي كل واحدة بقطرة عرق ثم تستكين في مكانها على جانب الوسادة. ولما أطلق النفير، وتخضب الأفق بلون النار، زمجرت الحرب لتطرد الغرباء الذين دقوا أوتادهم على الجانب الآخر من البلاد، نودي على الرجال، واقتيدوا إلى هناك بوجوههم المغبرة. مكثت البنت في فراغ الغرفة تحادث نفسها: يا رب كيف يؤخذ إلى هناك، وأنا عروس لم أذق من بستانه غير ثمرة، أو ثمرتين. د في الليل نامت وحيدة تعارك جسدها... طوت الوسادة بين الرأس المحموم، فاختفت العصافير بين ثنايا شعرها المحلول. * كاتب مصري.