انكسرت الأرض وأنا في السادسة، لا أعرف من الدنيا سوى الكرة الشراب وصيَّاد الحمام. ربما كنت أكتب اسمي الرباعي كاملاً، ونازلاً عن السطر. سوسن قالت أنا جُعت، ونصر قال أنا جعت، وليس هذا كافياً لأحب سوسن، ونصر إمّعة جدير بالكراهية: كلما قالت سوسن شيئاً قال وراءها الشيء نفسه. انكسرت الأرض ولم يغير أبي لون جلبابه الأبيض، لم يدهن زجاج الشبابيك بالأزرق، يقرأ جريدة «الأهرام» من الصفحة الأخيرة كالعادة، يقف طويلاً جداً في صفحة الوفيات، وإفطاره الخفيف من عسل وجبن خال من الملح وشاي من دون سكر. انكسرت الأرض، وأذكر ثوب أمي - أخضر زيتي بنقاط صغيرة سوداء - وقد شمرت ساعديها، بشعرها المنكوش تجمعنا من الشارع، في الشارع تظاهرات، وعند المعهد الديني حمل المشايخ واحداً منهم، أعمى البصيرة والبصر غارقاً في الهتاف: أقبل، أقبل يا ديان. انكسرت الأرض، الطائرات دكَّت الأطفال في بحر البقر. انكسرت الأرض: مات قائد الأركان تحت حائط الصواريخ، الجرائد تكتب المانشت الرئيس بالأسود. انكسرت الأرض: في أيلول حزنت أمي على ديكها الرومي، وفِي الليلة نفسها كنت منبطحاً على الأرض، أبي على سريره والزعيم يودع الملوك والرؤساء في نشرة الأخبار، أمي إلى جواره نائمة، هزَّها بعنف ولما استفاقت قال لها: انظري، شعر رأسه واقف مثل ديكك الرومي، كأنه سيموت. في الصباح كان الزعيم ميتاً. انكسرت الأرض: كأنها لم تنكسر، عبر الجنود في وضح النهار، وبالليل حضرتُ معارك الطائرات مِن فوق السطوح. انتصرنا، في نشرة الأخبار وفِي الأغاني، وابن صاحب البيت، ضابط الصاعقة، وصاحبي، مات في الحرب، فلم ننتصر. انكسرت الأرض، وعلى الحائط في مكتبه الحكومي، وراء ظهره، أو فوق رأسه، صورتان كبيرتان: واحدة للزعيم وواحدة للمشير في زيه العسكري، ومثلهما في مقهى «نعيم» - حيث ينتظر عمال التراحيل بمقاطف سوداء ووجوه كأنها فوارغ الأسمنت، ومثلهما في بيت جارتنا، بألوان طبيعية وأطر مذهبة، قبل أن تنزل صورة المشير وتحرك صورة الزعيم إلى الوسط. انكسرت الأرض وليس في بيتنا صور مثلها، ربما لأن أبي كان وفدي الهوى - يحب توفيق الحكيم، وشاعر الجندول وكل ما غنى عبدالوهاب بخاصة «في الليل لما خلي» - لم يحبهما، لكنه يوم أن مات الزعيم، أغلق الباب على نفسه، وبكى. انكسرت الأرض، تقول أمي: لم تكن قفة بأذنين لكي يحملها اثنان، فنسقط مرة في الطين ومرة في السخام. وتقول أيضاً في كل بيت عسكري أو شهيد، وأنت تريد أن تكون ضابطاً. أقول لها: لا تعرفين كيف أرتجفُ كأن في قلبي أجنحة كلما رأيته في الزِّي المموه لرجال الصاعقة. تقول لي: وأنت لا تعرف النار في قلوب الأمهات. أقول لها: أعرف، أم محمود صارت مخبولة تماماً، كلما رأتني عائداً بصفيحة الكيروسين - من خلف شباكها الموارب - أوقفتني، وحدثتني عن بطولته، وكيف أوقف العدو في «شدوان» وأن روحه ترفرف فوق «رأس العش» وفوق «شاوَه». كل يوم تختنق دموعها وهي تناولني حبة من «النادلر» وتقول لي إنها رأته، وإنه عائد.