تتزايد الاشارات والمعلومات والتطورات التي تجعل مصير المبادرة المصرية لن يختلف، او لن يختلف كثيرا، عن المبادرات التي سبقتها، من تقرير ميتشل وخطتي تينت وزيني الى مبادرة السلام العربية، ومن المبادرات الاوروبية الى خريطة الطريق. فكل هذه المبادرات فشلت! فهي اما ولدت ميتة او ماتت بعد ان رأت النور وقبل ان تقف على رجليها. والقاتل لكل هذه المبادرات واحد ومعروف وهو حكومة شارون. لكنه مجرم لم ينل الجزاء الذي يستحقه، بل قوبلت خطته، خطة الفصل الاحادي الجانب من غزة بالترحيب الدولي الواسع، رغم انها تقفز عن جوهر عملية السلام واسسها وتستهدف منع قيام دولة فلسطينية حرة وذات سيادة، عن طريق التراجع خطوة الى الوراء في غزة والتقدم عشر خطوات الى الامام في الضفة عبر تكريس الاحتلال وتكثيف الاستيطان والمضي في بناء جدار الفصل العنصري. المؤشرات الاخيرة على تأرجح المبادرة المصرية، برزت من خلال فتور الحماس المصري لها، لدرجة ان نبيل شعث اعلن ان القاهرة جمدتها رداً على التصعيد العسكري الاسرائيلي. هناك من أرجع هذا الفتور الى مرض الرئيس حسني مبارك، او الى وجود خلافات مصرية على المبادرة ومعارضة داخلية لها، او الى بيان الفصائل العشرة الفلسطينية الذي رفض بشكل قاطع أي دور عربي وليس مصري فقط في قطاع غزة، او الى نية الرئيس ياسر عرفات في إفشال المبادرة بقتلها عن طريق احتضانها. كل هذه الاسباب لعبت دوراً في فتور الحماس المصري، اما السبب الحقيقي لهذا الفتور يرجع الى تراجع حكومة شارون عن الوعود التي قدمتها لمصر . فقد أيد شارون بعض الشروط التي طرحتها مصر فوراً ورهن تأييده للبعض الآخر بالتطورات اللاحقة، ووعد بدراسة الشروط الاخرى. وقبل التذكير بهذه الشروط لا بد من الاشارة الى ان السبب الاساسي لتراجع شارون عن وعده لمصر يعود الى المعارضة القوية في حزبه وفي بعض الاوساط العسكرية والامنية وفي اليمين الاكثر تطرفاً داخل الحكومة وخارجها خصوصاً في اوساط المستوطنين الذين بدأوا بحملة شعواء ضد خطة شارون، وكتحصيل حاصل ضد أي دور مصري في قطاع غزة . فقد استطاعت المعارضة لخطة شارون اسقاطها في استفتاء ليكود، واجبرت شارون على اجراء تعديلات عليها افرغتها من مضمونها وجعلت مصيرها معلقأ بالتجاذبات والخلافات داخل ليكود . ومنعت المعارضة داخل ليكود شارون حتى الآن من تشكيل حكومة جديدة تخرج منها الاحزاب المتطرفة ويدخل فيها حزب العمل بدلاً عنها، وهذا هو الشرط الاساسي لاعطاء دفعة اسرائيلية للمبادرة المصرية . الشروط المصرية التي وضعتها القاهرة حتى تقبل بلعب دور في قطاع غزة هي :- 1- التزام اسرائيل بالانسحاب الكامل من غزة، بما في ذلك المعابر والحدود والمطار والميناء واخلاء كل المستوطنات . 2- اجراء انسحاب رمزي من الضفة . 3- الاعلان الاسرائيلي لخطة شارون كمرحلة اولى من خارطة الطريق، لضمان عدم تحول خطة غزة -جنين اولاُ واخيراً. 4- التزام وقف متبادل لاطلاق النار، ووقف كل اشكال العدوان العسكري خصوصاً الاغتيالات والاقتحامات . 5- فتح الممر الآمن بين الضفة وغزة، بحيث يبقى حراً ومفتوحاً بصورة دائمة. 6- فك الحصار عن الرئيس عرفات ومنحه حرية الحركة بين الضفة وغزة كمرحلة اولى. شارون، بعدما اعطى اشارات ايجابية ووعودا بالتزام بعض هذه الشروط، عاد وتراجع عنها. فهو رفض التزام توقيع وقف متبادل لاطلاق النار، بحجة ان مثل هذا الاتفاق سيكون موقتاًُ، ويعطي فرصة ل"الارهاب"الفلسطيني تمكنه من التقاط انفاسه وتجميع وتنظيم قواه والضرب من جديد. وطالب شارون بالاحتفاظ بحق اسرائيل بالدفاع عن نفسها، بما في ذلك حقها بالمطاردة الساخنة والاغتيالات والاقتحامات الوقائية . وعندما سئل مسؤول اسرائيلي كبير رفض كشف اسمه هل تستمر اسرائيل بالعمليات العسكرية في غزة بعد مجيء الخبراء المصريين، فاجاب نعم. واضاف ان اسرائيل ستحرص على عدم تعرضهم للاصابة من خلال ايجاد صيغة تنسيق فعالة بجعل الاماكن المتواجدين فيها غير مستهدفة. والاهم من التصريحات، قامت حكومة شارون منذ عدة شهور بتصعيد محموم لعدوانها العسكري ووسعت من عمليات الاستيطان وسارعت في بناء الجدار مما جعل خطة شارون تظهر على حقيقتها باعتبارها خطة الاستيلاء على الضفة . اعلن شارون في الاسابيع الاخيرة، مراراً وتكراراً ان الدور المصري أمني بحت أي ينحصر في منع تهريب السلاح وتدريب وتأهيل افراد الاجهزة الامنية الفلسطينية واعادة هيكليتها بما يضمن قيامها بالاستحقاقات الواردة على الفلسطينيين في خريطة الطريق ، وان اسرائيل لن تسمح لمصر ان تقوم بدور الوساطة، او تحرف خطة الفصل عن مسارها الاساسي وجوهرها الكامن بانها خط آحادية الجانب ومستقلة عن الخطط الاخرى . كما اعلنت اسرائيل انها لن تتخلى عن مرابطة قواتها على الحدود المصرية - الفلسطينية محور فيلادلفيا الا بعد فترة اختيار لمدى جدية وقدرة المصريين على النجاح في توفير الامن الاسرائيلي. واعلن شارون انه يرفض فك الحصار عن عرفات الذي سيبقى مسجوناً في مكانه لمدة 45 عاماً اخرى. اما بالنسبة الى الممر الامن، فأقصى ما استعد له شارون هو بناء سكة حديد وتسيير قطار ما بين غزة وطولكرم! ما سبق يعني ان الدور المصري المطلوب اسرائيلياً يستهدف دفع مصر للقيام بما عجزت اسرائيل عن القيام به، وما رفضت السلطة الفلسطينية تطبيقه، وهو توفير الامن للاحتلال اولا. ثم تبدأ المفاوضات بعد ذلك اذا بدأت ، وتكون بدون اهداف واضحة ولا ضمانات وبحيث يكون فيها المفاوض الفلسطيني مجرداُ من أي سلاح ، مما يجعل المفاوضات تدور حول نفسها ، ويمكن ان تستغرق مدة من الزمن لا يعرف مداها سوى الله . ان مصر عندما قررت مغادرة سياستها التقليدية والتي جعلتها بمنأى عن التدخل المباشر في غزة انما فعلت ذلك لاسباب اهمها: 1- ان مصر رغم ادراكها ان التدخل في غزة مهمة محفوفة بالمخاطر ، لكن حسابات الربح والخسارة قادتها الى تغليب خيار التدخل لان البديل اسوأ بكثير وهو انسحاب اسرائيلي آحادي يؤدي الى فوضى على حدودها الشرقية. وهذه الفوضى، اذا حدثت، مفتوحة على احتمالات غير مريحة لمصر . تبدأ بانفلات الصراع الفلسطيني - الاسرائيلي من أي ضوابط، بما يزيد من احتمال تورط مصر بهذا الصراع من بوابة تهريب السلاح من مصر الى غزة . 2- ان مصر التي ترى المخاطر الجمة من خطة شارون على القضية الفلسطينية، وعلى الفلسطينيين وارضهم وحاضرهم ومستقبلهم، لكنها ترى في هذه الخطة اللعبة الوحيدة في المدينة، ويجب تقليل مضارها وتحويلها الى فرصة اذا تم ربطها بخريطة الطريق، وبالتالي تريد ان تستغل حاجة شارون لها في ظل ازمته داخل حكومته وحزبه، لاستئناف المفاوضات وعملية السلام واعادة الشريك الفلسطيني مباشرة الى التفاوض عن الفلسطينيين. فجوهر المهمة المصرية هو اعادة تأهيل الشريك الفلسطيني حتى يكون مستعداً لمرحلة لاحقة، ومنع انهيار السلطة او دخول الخلافات الفلسطينية - الفلسطينية الى مرحلة الاقتتال على خلفية الانسحاب من غزة حيث من المحتمل ان كل فريق فلسطيني سيحاول الحصول على اقصى ما يستطيع من المكاسب من الارض والمباني ومراكز النفوذ والسيطرة، اذا لم يتم ترتيب البيت الفلسطيني بما يحقق موقفا فلسطينيا واحدا يستدعي توافقا وطنيا ومشاركة جماعية. واذا حدث اقتتال فلسطيني او استمرت الفوضى الحالية التي تتواجد فيها اجندات فلسطينينة متعددة، فسيؤدي الانسحاب الى انهيار السلطة وهذا آخر ما تريده مصر . 3- مصر تجد الفرصة مواتية امامها لتخفيف الضغط الاميركي عليها بخصوص اجراء الاصلاح الداخلي عن طريق التقدم لتقديم خدمة للادارة الاميركية عن طريق محاولة ملء الفراغ في المنطقة والناجم عن عدم تفرغ الادارة الاميركية لادارة الصراع الداخلي لانشغالها في معركة الانتخابات والملف العراقي، وعدم رغبتها في قيام اوروبا بهذا الدور، لان الادارة الاميركية تشعر ان الدور الاوروبي في مرحلة ما بعد انتهاء الحرب الباردة مرشح لكي يكون منافسا ، اكثر مما كان في السابق بكثير. ففي السابق كان الدور الاوروبي له هامش ولكنه بقي يلعب دور اللاعب الاحتياط الذي يتقدم للعب في الوقت الضائع، او عندما يخرج اللاعب الرئيسي فترة من الوقت الى خارج الملعب لاسباب تخصه . وفي محاولة لتدارك امكان تراجع مصر عن استعدادها للعب دور بعثت الادارة الاميركية ما يشبه"رسالة ضمانات"احتوت على تعهد خاص من واشنطن بدعم الجهود المصرية، في اطار خطة الانفصال الاسرائيلي عن قطاع غزة، وذلك ضمن الالتزام الاميركي بدعم خريطة الطريق، بما في ذلك دعم قيام الدولة الفلسطينية. ولكن الضمانات الاميركية لمصر، ودعم اطراف اللجنة الرباعية لجهودها، والموافقة التي اعطاها عرفات لمصر على كل طلباتها لا تكفي، ما دامت حكومة شارون واقعة تحت سيطرة احزاب واشخاص لا يزال الكثير منهم يؤمن بان اسرائيل تستطيع حسم الصراع مع الفلسطينيين عسكرياً، وكسر ارادتهم على الصمود وعزمهم على دحر الاحتلال وتحقيق الحرية والاستقلال، وتغيير وعيهم وادراكهم بحيث يصبحون على اتم الاستعداد للموافقة على ما تطرحه اسرائيل عليهم. الدليل على ما تقدم ، ان اسرائيل التي اعلنت انها ستنسحب من غزة عمقت احتلالها لها في شمال القطاع وبيت حانون تحديداً . حكومة شارون التي لم تنفذ تعهداتها لادارة بوش بازالة البؤر الاستيطانية العشوائية وغير القانونية حتى في القانون الاسرائيلي من الصعب ان نصدق انها قادرة على الانسحاب الكامل من غزة وغيرها من النقاط الواردة في المبادرة المصرية، لذا نقول ان مصير المبادرة المصرية في يدي الحكومة الاسرائيلية الحالية التي لا يمكن ان تمررها . فهل ينجح شارون في تشكيل حكومة جديدة؟ وهل تكون قادرة على قبول دور مصري لا يأتي على مقاس الشروط الاسرائيلية؟ كاتب فلسطيني.