أثارت خطة شارون الداعية الى الانفصال عن الفلسطينيين واجلاء المستوطنين وسحب الجيش الاسرائيلي من قطاع غزة واخلاء اربع مستوطنات اخرى في شمال الضفة الغربية، ردود فعل قوية اقليمياً ودولياً لما تهدأ بعد ويبدو انها لن تهدأ في وقت قريب وستترك بصمات على الصراع الفلسطيني - الاسرائيلي وأوضاع المنطقة. فالخطة هزّت وضع النظام السياسي الاسرائيلي بقوة ومسّت مكانة شارون السياسة والمعنوية داخلياً وخارجياً ودفع ثمن عدم أخذ موافقة حزبه وشركائه في الحكم قبل تسليمها للرئيس بوش في زيارته الاخيرة لواشنطن في نيسان ابريل الماضي. واعتقد شارون ان مكانته التاريخية، وموافقة الاجهزة الامنية على خطوطها الاساسية، وصداقته مع بوش تكفي لإقرار الخطة في اطار الحكومة وقيادة ليكود. وظن أن جرأته في المواجهة مع الفلسطينيين وبراعته في اغتيال قادتهم كوادرهم ووقتل نسائهم واطفالهم وتدمير بيوتهم وقلع اشجارهم وحبس رئيسهم عرفات قرابة ثلاث سنوات الى ما هنالك من ارتكاباته العنصرية... تكفي للحصول على دعم قواعد ليكود وكوادره والشروع في تنفيذ الخطة وفق التوقيت الملائم له وللرئيس بوش. ويسجل لشارون أيضاً نجاحه في اقناع صديقه بوش وأركانه بأن السلطة الفلسطينية في عهد عرفات قريع تفتقر المواصفات المطلوبة لشريك يشارك في تنفيذ الخطة. ورحب أهل البيت الابيض بالخطة وأثنى بوش على شجاعة شارون وظنّ ان خطته تساهم في تعزيز اوراقه في الانتخابات والرد على اتهامات منافسه كيري بفشل سياسته في الشرق الاوسط، وبخاصة معالجة النزاع الفلسطيني - الاسرائيلي. ومنح بوش صديقه شارون وعداً تاريخياً دونه في رسالة تعهدات خطية تسلمها شارون تضمنت موقفاً أميركياً جديداً بشأن النزاع لا سابق له في عهد الإدارات الأميركية المتعاقبة، شبهه بعض الكتاب العرب والفلسطينيين ب"وعد بلفور"المشؤوم. ولم يتوقع أكثرهم تشاؤماً أن يرقى موقف بوش الى هذا المستوى من الاستخفاف بمواقف العرب شعوباً وحكومات، ودعم لسياسة القتل والتدمير التي يتبعها شارون ضد الفلسطينيين والمدمرة لفكر السلام. لاحقاً أكدت وقائع الحياة أن شارون أخطأ التقدير وفشل في تسويق خطته. بل انه صُدم وارتبكت خطواته عندما خسر استفتاء قواعد الحزب ولم يصدق النتيجة وراح يبحث عن مخرج يحافظ على وحدة حكومته ووحدة الائتلاف الذي تستند اليه ويحفظ له كرامته عند صديقه. وادخل شارون تعديلات نوعية في الخطة مسّت جوهرها وآلية تنفيذها، وجزأها في اربع مراحل: تبدأ باخلاء ثلاث مستوطنات معزولة في قطاع غزة نتساريم وموراغ ورفياح بام. وفي الثانية يتم اخلاء مستوطنات كاديم وغانيم سانور وحوميش في شمال الضفة الغربية، وفي الثالثة تخلى مستوطنات غوش قطيف وكفار دروم في قطاع غزة، وفي الرابعة الاخيرة يتم اخلاء ايلي سيناي ودوغيت. وخضع شارون لضغط معارضي الخطة بزعامة غريمه الوزير نتانياهو ووافق على تأجيل المرحلة الأولى حتى آذار مارس المقبل 2005، واخضاع كل مرحلة من المراحل الاربعة لمصادقة الحكومة. وأبقى شارون مسألة استمرار سيطرة اسرائيل على محور فيلادلفي الفاصل بين الحدود المصرية والفلسطينية غامضاً، ولم يوضح موقفه بشأن تدمير المباني والمنشئات المدنية في المستوطنات أو تسليمها للفلسطينيين ضمن صفقة تضمنها الادارة الاميركية. وبعد صراع حاد داخل حزب ليكود وفي اطار الائتلاف الحزبي اليميني صادقت الحكومة الاسرائيلية يوم 6 حزيران يونيو 2004 على خطة معدلة اقرب الى اعلان نوايا باغلبية 14 وزيراً وعارضها 7 آخرون. فهل سيتم تنفيذ خطة شارون، أم ان مصيرها لن يكون أفضل من مصير الخطط والمبادرات الامريكية والدولية البائس والاتفاقات الفلسطينية الاسرائيلية الكثيرة التي لم ترى النور؟ وهل يمكن للفلسطينيين البناء على خطة شارون وعليهم التحضير لمرحلة ما بعد الانسحاب من قطاع غزة؟ وهل انضمام حزب العمل لحكومة شارون وتأييد الرئيس بوش والقيادة المصرية للخطته الاصلية او المعدلة يوفر ضمانة لتنفيذها؟ لا خلاف فلسطيني على ان اخلاء شارون اي مستوطنة في الضفة او القطاع وسحب الجيش الاسرائيلي من اي جزء من الارض مكسب، سواء تم بشكل احادي الجانب او بترتيبات مسبقة مع المصريين او اي طرف ثالث. والفلسطينيون انصار السلام مقتنعون بأن شارون نجح بمساندة اميركية في جعل خطته المشروع الوحيد المطروح في الساحة، وتهرب من تنفيذ التزاماته الواردة في خريطة وخاصة اخلاء البؤر الاستيطانية"غير القانونية". ويشكون في أن خطة شارون الاصلية او المعدلة ستنفذ ويعتقدون أن نتيجتها الوحيدة قد تكون تقطيع الوقت واستكمال بناء جدار الفصل العنصري في عمق الضفة الغربية. خاصة ان فترة الشهور التسعة التي تفصلنا عن آذار مارس 2005 حبلى بتطورات واحداث لها تاثير في خطة شارون ومجمل الوضع في المنطقة بعضها بدأ يظهور على خشبة مسرح السياسة الاسرائيلية. ولا أحد يعرف مصير خطة شارون اذا فشل بوش في الانتخابات وتبدل سكان البيت الابيض في نوفمبر المقبل. أما قول شارون بأن"خطة الفصل انطلقت والحكومة قررت انه حتى نهاية العام 2005 سننسحب من غزة ومن 4 مستوطنات في الضفة، والقرار يضمن مستقبل اسرائيل وهو جيد لأمنها ومكانتها السياسية واقتصادها ولديموغرافية الشعب اليهودي في ارض اسرائيل"...الخ، فيعكس جزءاً بسيطاً من الحقيقة المتعلقة بالديموغرافية. لكنه يجافيها ويندرج في اطار التمنيات عندما يتحدث عن المستقبل وانطلاق الخطة نحو التنفيذ وعن امن اسرائيل. ولا أحد يضمن نجاحه في تنفيذها اذا صدق والتزم بها خصوصاً ان الأمر يتطلب تصادماً حقيقياً مع معارضي الخطة في ليكود والمستوطنيين وقوى اليمين التي تساندهم. ويعرف شارون ان مصادقة مجلس الوزراء على نسخة معدلة من الخطة لا يؤشر على قوة ولا يعني ان مناورته نجحت وحقق انتصاراً ساحقاً على خصومه، بمقدار ما يعني ان معركة حقيقية قد بدأت داخل معسكر اليمين. ويعرف ان الجولة الاولى من الصراع انتهت في غير صالحه وخرج منها مثخناً بالجراح: تلقى لطمة سياسية ومعنوية قوية في استفتاء حزب ليكود حول الخطة. تمرد عليه صف واسع من قيادة الحزب وممثليه في الكنيست ولم يستطع اتخاذ اجراءات ضد اي منهم. اجبر على التراجع عن خطته الاصلية وادخل عليها تعديلات عديدة جوهرية. لم يتضمن قرار مجلس الوزراء اشارة الى اخلاء مستوطنات. وتشكلت ارضية ملائمة لتوحيد قوى اليمين ضد تنفيذ الخطة. وتحولت حكومته الى رهينة بيد خصومه في اليمين واليسار ولا أحد يضمن استمرار حزب العمل في توفير شبكة الامان. وبغض النظر عن عنجهية شارون ومكابرته ومحاولة الايحاء بأنه لا يزال يمسك بزمام الامور، فحالته الراهنة تشير إلى انه يسابق الزمن ويبحث عن مخرج لكن مازقه يتعمق اكثر كيفما تحرك. وهو مرتبك اسير اقلية ليكودية رباها على التطرف، واسير احزاب يمينية بث فيها روح معارضة الحلول السياسية مع العرب والفلسطينيين وشجعها على التمرد وتحدي القوانين عندما يتعلق الامر بالاستيطان. ويدرك شارون ان تراجع الوزراء نتانياهو وشالوم ولفنات، اركان ليكود، عن التصويت ضد الخطة في اجتماع مجلس الوزراء لا يعني عودة المياه الى مجاريها بين المعسكرين بل الوصول الى تسوية موقتة لن تدوم طويلاً. ولاحقاً قد يحتاج شارون إلى معجزة لضمان بقاء حكومته وبقاءه في ديوان رئاسة الوزراء حتى نهاية ولايته في العام 2007. وأظن ان استنجاد شارون بحزب العمل قد يطيل في عمر حكومته لكنه لا يساعدها في اخلاء المستوطنات، بل يسرع في انفجار المعركة داخل ليكود. ويشير قول الوزير ايتام من"المفدال":"لا يمكن لاي ماكينة تبييض كلمات واحد من اكثر القرارات سواداً في تاريخ اسرائيل... سندعو جميع القوى الى مقاومة الخطة"، الى بداية تشكل جبهة يمينية ضد شارون اضافة للجبهة"اليسارية"المضادة له ولحكومته. وحديث البعض عن تكرار السيناريو الذي نفذه شارون واطاح نتانياهو وحكومته بعد توقيع اتفاق واي ريفر عام 1998 لا يندرج في اطار التمنيات بل قد يتكرر في الشهور المقبلة. ولا احد يعرف مصير الخطة اذا اضطر شارون الى الذهاب لانتخابات مبكرة. وفي كل الأحوال لا مصلحة للفلسطينيين او اي طرف عربي مساعدة شارون على الخروج من المأزق. والتجاوب مع توجهاته في استبدال تنفيذ احادي الجانب بدور مصري واردني لاحقاً إذا أمكن، لا يخدم المصالح العربية العليا. وتعبر خشية بعض الفلسطينيين والعرب من سقوط شارون"المعتدل"وانتصار القوى الاكثر تطرفاً في ليكود وفي المجتمع الاسرائيلي عن سذاجة سياسية في احسن الاحوال. ويخطئ من يعتقد ان موافقة شارون على تجديد دور مصر في عملية التسوية وابداء الاستعداد للقاء رئيس الوزراء الفلسطيني احمد قريع يعبران عن تغيير جوهري في سياسته المعادية للسلام وفي موقفه من خريطة الطريق ومن الحقوق الفلسطينية، أو انها تفسح في المجال للتقدم بمبادرات والقيام بتحركات تخرج عملية السلام من مأزقها وتعيد لها حيوتها. اعتقد ان الصراع الفلسطيني - الاسرائيلي دخل مرحلة دراماتيكية قد تكون مسلية للبعض لكنها بالتأكيد مؤلمة للشعب الفلسطيني وتخلو من امكان تحقيق اي تقدم جدي على طريق التسوية اقله من الآن وحتى ما بعد الانتخابات الاميركية في نوفمبر المقبل وطالما ظل شارون رئيساً لوزراء اسرائيل. وانشغال مصر والعرب وانصار السلام في سبل تقليص خسائر الفلسطينيين ومساندتهم في معركتهم ضد الجدار وايواء المهجرين وتأمين لقمة العيش للجائعين خير من الانشغال في خطة قد لا ترى النور، وإذا رأته لن تحل النزاع. * كاتب فلسطيني.