لا اعرف على وجه اليقين عدد العراقيين الذين ساقهم قدرهم الى سجن ابو غريب من المسجونين والسجانين والزائرين منذ انشائه وضع حجر اساسه عام 1967. غير اني كنت واحداً من عراقيين كثيرين قدر لهم زيارة قريب او صديق معتقل هناك وكنت كلما دخلت الى ذلك المكان الوحشي المحفوف بالاسوار والابراج شعرت بحالة هي مزيج من المهانة والرهبة لا يهوّن منها إلا شعوري بأن وجودي هناك هو لإبداء التضامن والمساندة لمن جئت ازوره وللضحايا الآخرين. كانت المهانة تبدأ بالتأنيب وسوء المعاملة وسط صفوف الانتظار الطويلة تحت الشمس الحارقة او في البرد القارص ولا تنتهي مع ختم الزيارة الذي يضعه حراس متجهمون على ساعد الزائرين ضماناً لعدم هروب السجناء اثناء الزيارة. اما الرهبة فكانت نتيجة ألوف مؤلفة من الافكار المقلقة بعد الاستماع الى قصص الموت والتعذيب التي يهمس بها المسجونون والسؤال الذي يظل يتكرر حتى بعد ايام من الزيارة: ماذا لو كنت انا مكانهم اقبع في واحدة من تلك الزنازين المعتمة افترش فراشاً مليئاً بالقمل والبراغيث وتحت رحمة اولئك الجلادين السفلة. ولم اكن وحدي الذي ينتابه ذلك الشعور. المؤكد ان كل من مرّ بتلك التجربة كان يدرك ان سجن ابو غريب هو واحد من الامكنة الأكثر وحشة وقسوة في عراق صدام حسين الذي لم يكن هو بدوره إلا زنزانة كبيرة للقهر والاستبداد، وبالتالي كان الخلاص من صدام بالنسبة اليهم يعني بالدرجة الاولى الخلاص من رموز القمع والمهانة وعلى رأسها سجن ابو غريب. وعندما اتيحت لي الفرصة بعد سنوات، كرست الكثير من جهدي وعملي حسب المساحة المتاحة لي لفضح تلك الممارسات المروعة في سجن ابو غريب وغيره من مراكز الموت الصدامية والتي توّجها نظامه بحملات تنظيف السجون المقيتة بهدف كشفها ومناشدة الضمير العربي والعالمي لوقفها، وايضاً بهدف تعرية قناع النفاق والخداع الذي ستر به ذلك النظام ممارساته وهو يعمل من خلال الترويع لإطالة عمره وسوق العراق الى المزيد من المغامرات والكوارث. لم يكن مهماً طبعاً تدمير ابو غريب وازالته مادياً. فالسجن بالتالي ليس العنابر والقضبان الحديد التي يحرسها الجلادون والتي يمارسون خلفها كل انواع التعذيب الرهيب والموت بل هو الوطن حين يتحول مكاناً تنتهك فيه الكرامة الانسانية بأشكال شتى ويمتلأ بمواطنيه المكلومين بجروح الروح وندوب العقل والتي لا تشفيهم منها الا حياة جديدة تنبذ النزوع الوحشي للقتل وثقافة الجريمة وتؤسس للحرية والامل. لذلك كان أمل كل عراقي بسقوط نظام صدام ان تزول معه الى الابد كل ممارسات الإذلال والتجاوزات المروعة وان يقدم العراق للعالم مثالاً على إمكان ان يكون مكاناً للحفاظ على الكرامة الانسانية. لكن مأساة تعذيب المحتجزين العراقين على يد سجانيهم الجدد اعاد اليهم ليس فقط ذكريات تلك الايام اللعينة بل الهواجس والكوابيس من ان تظل تتكرر الجريمة نفسها ثانية. هل بإمكان العراقيين أن يصدقوا كلام الرئيس جورج بوش وغيره من المسؤولين الأميركيين بأن ما حدث في سجن ابو غريب من انتهاك بربري لكرامة واجساد السجناء لا يمثل أميركا وانما فئة ضالة صغيرة؟ هل بإمكانهم ان يصدقونهم حين يقولون ان تلك الجرائم لن تحصل بعد الان وان مرتكبيها سينالون جزائهم العادل؟ ربما، لكن تلك لم تعد هي الاسئلة الجوهرية اليوم. فالسؤال الأهم هو كيف يستطيع العراقيون بعد الآن ان يثقوا بأولئك الذين يملأون الجو ليل نهار صراخاً بأنهم جاؤوا لكي يحرروهم من عبء ماضيهم ومن صدام ومن آلة القمع والرعب التي اقامها واوصل بها بلادهم الى الكارثة ولكي يقيموا بدلاً منها نموذجاً ديموقراطياً يشع على المنطقة كلها. فالشعب الذي يرى هدية تحريره تتآكل بسبب هذه الممارسات وغيرها ويجد صعوبة في تصديق اجندة الاحتلال لن يجد بإمكانه ان يضع مصيره ومصير بلده في يد اشخاص لا يأبهون بأدميته ويتجاسرون على كرامته. وبهذا المعنى فلم تكن جرائم تعذيب السجناء العراقيين وسؤ معاملتهم إلا تتويجاً لسلسة الاخطاء العديدة التي ظل الاحتلال يرتكبها والتي ينبغي الآن تفحصها بدقة لكي يكون بالمستطاع ليس تقويم التغيير الذي تحقق وانما الامكانات التي يفتح السبيل امامها مستقبلاً. ثمة حاجة هنا للإشارة الى ان جوهر المشروع الأميركي المعلن لما بعد الحرب هو اقامة عراق في سلام مع نفسه ومع المنطقة بنظام تمثيلي تعددي يتيح المشاركة لكل فئاته توطئة لاقامة نظام ديموقراطي نموذجي في المنطقة. ومن ثم فإن الامر يتعدى إقامة الهياكل السياسية اللازمة لعملية التغيير الى اصلاح وتوطيد البناء السيكولوجي للمجتمع العراقي الذي دمرته سياسات القهر والطغيان الصدامية وتعبث به الآن اخلاقيات الاحتلال. وما الطريقة البشعة التي تعامل بها السجانون الاميركان مع مساجينهم من العراقيين إلا نقيض سافر للتنظير حول نموذج عراقي انساني ديموقراطي من نوع جديد، اذ لا يمكن البدء ببناء سياق ديموقراطي من دون مناخ من الرحمة والكرامة والاحترام للذات الانسانية. في بداية اعادة تشكيل جهاز الشرطة العراقية كان رجاله يتندرون على إصرار المستشارين الاميركيين على ضرورة قراءة حقوق المتهم اي الالتزام بالصمت والاستعانة بمحام على من يتم إلقاء القبض عليه من المشبوهين مذكرين هؤلاء المستشارين بأن واقع العراق مختلف تماماً عما يجري في الافلام الاميركية. وكانت تلك السخرية مفهومة سواء في اطار عمل جهاز شرطة يصعب عليه نبذ عاداته واساليبه القديمة او من جانب مجتمع يتأمل في كيفية مداواة جراحاته النفسية والاجتماعية. غير أن الامر ظل جديراً بالتشجيع باعتباره من اللبنات الاولى في بناء سلطة القانون وحماية الحريات والاخذ بالآليات الديموقراطية. ولم يكن الكشف عن فضائح التعذيب السادي للمسجونين العراقيين على يد المحققين الأميركان إلا مثالاً سيئاً لمهمة تشكيل جهاز الحفاظ على النظام والقانون للدولة الجديدة ومفارقة مثيرة للآسى والسخرية في عملية اعادة البناء الكلي للمجتمع العراقي. من المحتمل ألا تكون الممارسات البشعة للجنود الأميركان في السجون العراقية منهجية ومنظمة، كما قد لا تكون سياسة مركزية غير انها طرحت سؤالاً مهماً آخر عما اذا كانت ممارسات الاحتلال الاميركي قائمة على اي اساس اخلاقي في كسب قلوب العراقيين وحبهم ام انها ترتكز فقط على غطرسة القوة من خلال المغالاة في تطبيق مبادىء قواعد الاشتباك التي انتقل بها الجنود الاميركان من ميادين المعارك الى شوارع وازقة المدن العراقية والان تكشف انهم يستخدمونها داخل السجون ايضا مع معتقلين لا حول لهم ولا قوة. وقائع التعذيب اللاانساني في ابو غريب تكشف ان منهجية الاحتلال تسير نحو اشاعة اجواء الخوف والترهيب وليس كسب قلوب وعقول العراقيين. سيكون من الصعب على اجيال قادمة اخرى من العراقيين نسيان تلك الصور المقززة لعمليات التعذيب السادية في ابو غريب وسيتربط ذلك دائماً في اذهانهم بما كان صدام وزبانيته يمارسونه ضدهم من اعمال خسيسة. لكن من البديهي ان يكون قلقهم الاكبر هو مدى ارتباط تلك الممارسات بنجاح العملية السياسية الجارية والانتقال بالعراق من الاحتلال الى الاستقلال والسيادة ثم الى مجرى العملية الديموقراطية المستهدفة. فلم تعد مشكلة الاحتلال متمثلة في ذلك الفراغ السياسي والامني الذي خلقه بل جاء الآن هذا النفاق والخداع الجديد المتمثل في الفجوة الهائلة بين الشعارات وبين الواقع وحقيقته لكي يعكس المأزق الجوهري للاحتلال. وفي حالة حرجة مثل الحالة العراقية سيكون من التفاهة والعبث ان يجلس اي عراقي بشكل سلبي ويراقب ما يجري وهو يرى احلامه في قيام عراق جديد يحترم ادميته وامانيه تتبدد. ولكن سيكون ايضاً من ضيق الافق والعجالة التعامل مع احداث ابو غريب عبر فورات من الغضب الذي لا يليق بشعب عريق يبحث عن خلاصه من محن تكاد ان تقود بلده العظيم الى الاندثار والتلاشي. المطلوب الآن من العراقيين التعالي على الجراح التي سببها الاذلال والمهانة والتعامل بشجاعة وحكمة مع التهديدات والتحديات الكثيرة التي تنتظرهم على طريق استعادة سيادتهم وحريتهم وكرامتهم. المطلوب الآن من العراقيين ان يعيدوا الإمساك بتلابيب الفرصة التي لا تزال متاحة لتقرير مصيرهم لا ان يدعوها تفلت بسبب احساسهم بجرح الكرامة او وسط اكاذيب الاحتلال النمطية او مجاملة لغضب دعاة التهيج واصحاب الكليشيهات التي يطلقونها من فوق المنابر السياسية والاعلامية. المطلوب الان أن يدفع الاحتلال ثمن الغطرسة والانفراد ويكسب العراقيون ثمن الألم. * كاتب عراقي.