تميز المشهد السياسي العراقي طوال العقود الثمانية الماضية بتحالف شيعي كردي متين نجح، في المحصلة، في خلق مشكلات عويصة للحكومات العراقية المتعاقبة. لا بل ربما، وبشكل غير مباشر، لعب هذا التحالف دوراً أساسياً في تمكين القوات الاميركية من إنجاز عملية اطاحة النظام العراقي السابق بوقت قياسي لم يتجاوز ثلاثة أسابيع. لكن اللافت ان التعقيدات التي ترافق إعادة صياغة الدولة العراقية على أسس جديدة، تزيد العراقيل والمعوقات امام التحالف الشيعي الكردي الذي يبدو، على الأغلب، مرشحاً حالياً للتراجع والانكماش والأزمات. فالعراق الجديد الذي يعيش اختناقاً أمنياً فظيعاً لم يفتح الباب امام تصادم المصالح الاقليمية والدولية فحسب، بل يبدو انه فتح الباب أمام تصادم آخر بين الرغبات المحلية للتكوينات العراقية الاثنية والمذهبية. في هذا السياق قد لا يكون عملياً توقع نشوب صراعات أهلية أو مذهبية أو قومية، لكن المؤكد ان تعاظم حالة الفرقة والتباعد ومعها الصراعات السياسية والثقافية بين تلك التكوينات، تزيد حدة الصعوبات التي تواجه العراق في المستقبل المنظور. هكذا، يؤكد اكثر من مراقب سياسي ان انفجار الخلافات بين الشيعة والأكراد، خصوصاً في ظل احتمالات تورط السنة العرب فيها، سيهدد كيان الدولة العراقية برمته. بل يمكن ان يفضي الى نزاعات وتوترات اقليمية غير قليلة. ويضيف هؤلاء ان الحالة اصبحت تستدعي قيام حوار سياسي صريح بين الطرفين بغية منع أي تطور غير متوقع، خصوصاً في هذه الفترة التي تسبق اجراء الانتخابات العامة وكتابة الدستور الدائم، وذلك بالاستفادة من ان الطرفين لا يزالان يشعران، رغم كل شيء، بحاجة ماسة الى الابقاء على خيوط التحالف بينهما. فالشيعة والاكراد نجحوا خلال الاعوام الثلاثة الماضية في بناء تفاهم مشترك مع الاميركيين مؤداه اعادة بناء العراق وفق أسس مغايرة لأسس البناء الأول كما أرسي في مطلع العشرينات من القرن الماضي. لكن تفاقم الخلافات بين الطرفين يمكن ان يهدد هذا التفاهم ويعرضه للانتكاس، ما يعني ان الاميركيين قد يتراجعون عن فكرة تخصيص مواقع أساسية لهما في رسم صورة العراق المستقبلي، مفضلين اعادة مقاليد السلطة والثروة الى قبضة طائفة مذهبية وقومية واحدة. الى ذلك، يتخوف الاكراد من ان يفضي أي خلاف مع شيعة العراق الى استعداء ايران وتشجيعها على زعزعة الأمن في المناطق الكردية. لكن مع هذا، لا تخفي الاوساط الثقافية والسياسية الكردية شعورها بان الحلفاء القدامى، الشيعة، بدأوا يشكلون حجر عثرة أمام نيلهم حقوقهم، خصوصاً مع معارضتهم إدراج قانون ادارة الدولة العراقي الموقت في القرار الأخير الرقم 1546 الذي صدر عن مجلس الأمن. في المقابل، يشعر الشارع الشيعي بأن تراث التحالف الشيعي الكردي ينبغي المحافظة عليه. فالشيعة، رغم كثرتهم العددية، قد يعجزون عن مواجهة التطورات المستقبلية من دون السند الكردي. لكن، في المقابل تشعر الاوساط الثقافية والسياسية الشيعية، بأن الاكراد لم يعودوا في الزمن الأميركي الراهن حلفاء يمكن الوثوق بهم، خصوصاً مع دعوة قادتهم الى المصالحة الوطنية ونبذ سياسة اجتثاث البعثيين الذين تركز ثقلهم البشري طوال العقود الثلاثة الماضية في وسط العراق وغربه. ومقابل المخاوف المتبادلة التي يحرص الطرفان على عدم الاعلان عنها، يميل الطرفان الى استعادة زمن شراكتهما في التعرض للاضطهاد طوال العقود المنصرمة. لكن هناك أيضاً إحساساً لديهما بأن الظرف العراقي الراهن يشكل فرصة لا تعوض للحصول على ما ضاع من حقوق، حتى لو جاءت هذه الحقوق على حساب الطرف الآخر. والمؤكد ان مسارعة المرجع الشيعي الاعلى آية الله علي السيستاني، قبل أيامو إلى إرسال مبعوثين عنه الى صلاح الدين لطمأنة القادة الأكراد الى انه ليس في صدد معارضة حصولهم على الفيدرالية في إطار عراق موحد، جاءت توكد على حقيقة التجاذبات المتبادلة. فالسيستاني يحرص على إظهار وقوفه مع الحق الكردي في الفيدرالية، لكنه يشدد في الوقت عينه على انه غير مستعد للتنازل عن معارضته قانون إدارة الدولة الموقت او حتى الموافقة على إدراجه في قرارات دولية. في المقابل، يستبد بالشيعة حذر شديد من رغبات كردية دفينة بالاستقلال والانفصال وتهديد ايران من خلال تحريك إثنيتها الكردية. تماماً كما يستبد بالأكراد خوف طاغ من رغبات شيعية دفينة بالهيمنة الدينية والمذهبية على مقاليد الحكم في حال أجريت انتخابات قد تقطع نتائجها بأنهم يشكلون الاكثرية. وفي هذا السياق، تخشى الاوساط الكردية من ان يكون القبول الشيعي بخلو الحكومة الانتقالية من أي تمثيل حقيقي لرجال الدين الشيعة، مرتبطاً بقرار نجفي خفي مؤداه تأجيل المعركة الكبرى مع بقية التكوينات العراقية، بمن فيهم الأكراد، الى ما بعد الانتخابات المنتظرة بعد نحو سبعة أشهر. الى ذلك، يتخوف الأكراد من تصاعد وتيرة التدخلات الايرانية في الشأن العراقي عبر القناة الشيعية. وفي هذا الصدد، يعتقد بعض الاكراد ان الدافع الحقيقي وراء مسارعة السيستاني الى اعلان معارضته ادراج قانون ادارة الدولة في نص قرار مجلس الامن الرقم 1546، والعامل الاساسي وراء تفاقم مشكلات الزعيم الشيعي الشاب مقتدى الصدر، هو إيران وتدخلاتها. ويتحفظ الشيعة عن النزعة الاستقلالية التي بدأت تدب في اوصال الحركة السياسية الكردية في العراق مع انهيار النظام السابق. وتخشى اوساط في المجلس الاعلى للثورة الاسلامية وحزب الدعوة ومرجعية السيستاني وحركة الصدر، من تعاظم علاقات التحالف بين الاكراد والولايات المتحدة، خصوصاً مع تأكيد واشنطن انها معنية باحترام هذا التحالف والعمل على تعزيزه. لكن، ورغم هذا كله، يمكن القول ان الخلافات الدفينة الراهنة قد لا تتحول الى حالة توتر وصراع ومواجهات مباشرة سياسية او عسكرية، على الأقل في الوقت الراهن. وهذا لا يلغي ضرورة الشروع في حوار صريح ومحادثات بناءة، سيما مع اتجاه الأمن نحو التدهور، ومحاولات أطراف وقوى إقليمية اللعب بنار خلافات الطرفين.