على رغم تعقيدات الأجواء السياسية في العراق، هذه الأيام، وكثرة الأطراف التي تناهض او التي تحاول ان تناهض سلطة الاحتلال الأميركي، الواضح ان الأحزاب والمنظمات والتجمعات الإسلامية، السنّية، هي اكثر الأطراف فرضاً لنفسها على الساحة السياسية العراقية، خصوصاً لجهة الفاعليات المسلحة في المناطق التي تنتشر فيها التجمعات والأحزاب ضد القوات الأميركية. في هذا الإطار يمكن القول ان غلبة التيارات الإسلامية الشيعية في شوارع النجف وكربلاء والحلة، منذ اطاحة الرئيس العراقي المخلوع صدام حسين في التاسع من نيسان ابريل الماضي، لا تشكل ظاهرة حديثة ولافتة في الحياة السياسية العراقية، لأن هذه التيارات ظلت فاعلة ونشطة ومنافسة للأحزاب والمنظمات العلمانية، طوال العقود الثمانية الماضية، على رغم ان الثورة الخمينية في ايران عام 1979 مدّت الإسلاموية الشيعية في العراق بقوة دفع جديدة. لكن ما يلفت في تفاصيل هذه الصورة هو نهوض التيار الإسلامي السياسي في المناطق السنّية العربية من العراق: الرمادي والفلوجة وبغداد وتكريت والموصل. فهذا التيار الذي اعتبره كثيرون على مدى العقود الأربعة الماضية، في عداد الأموات، خصوصاً مع تراجع دور حركة الاخوان المسلمين في العراق، نهض من رماده مع اول سقوط النظام العراقي السابق، في حركة يمكن تفسيرها بأنها تعبير عن مخاوف السنّة العرب الذين امتلكوا ناصية الحكم في العراق منذ العهد العثماني، مروراً بالعهد الاستعماري البريطاني ووصولاً الى عهد صدام حسين الذي ركّز كل ثروة الدولة ووظائفها وسلطتها في ايديهم. وما زاد من اهمية نهوض الإسلاميين السنّة في العراق انه يأتي في مقطع زمني بالغ الأهمية، تشهد فيه حركة التشدد الديني انتقالاً نوعياً من مربعها الشيعي، المتمثل بإيران، الى مربعها السنّي المتمثل بشبكة القاعدة ونشيج كبير من الحركات الإسلامية السنّية. هذا بالطبع اضافة الى التربة الخصبة التي ساعد صدام حسين في تهيئتها امام تداخل لافت بين الحركتين الإسلامية السنية والقومية العربية في صورتها البعثية، ما خلق، على الأقل في العراق، امتزاجاً يصعب فصل اجزائه بين ما تقوم به بقايا البعثيين الموالين لصدام حسين والإسلاميين في الفلوجة والرمادي وبغداد. وحتى في حال استبعاد حصول مثل هذا التمازج، فالواضح ان تزايد نشاط الإسلاميين السنّة ضد الأميركيين هو تعبير عن صعود دور الإسلاميين على حساب تراجع دور القوميين في العراق، او عن اهلية الإسلاميين لملء الفراغ الإيديولوجي الذي احدثه غياب حكم الرئيس العراقي المخلوع نتيجة السمات المذهبية المشتركة بين الطرفين من جهة، واشتراكهما في الدفاع عن استمرار قبضة طائفة واحدة على مقاليد الحكم في العراق. والواقع ان الإسلاميين السنّة، بزعامة شيخهم الديني الدكتور احمد الكبيسي، المتحدر من عائلة كبيرة تنتشر في اطراف مدينة الرمادي، غرب العراق، او اياد السامرائي زعيم الحزب الإسلامي العراقي، او اسامة التكريتي زعيم حزب التحرير الإسلامي العراقي، اثبتوا براعة في استيعاب عدد من الكوارد البعثية من ابناء منطقتهم. فهذا الاستيعاب، اياً تكن اسبابه، قد يكون تعبيراً عن انتهازية حزبية، لكن الأكيد انه تعبير أوضح عن إلفة جغرافية وفكرية، بل وحتى مذهبية بين اتجاهين سياسيين عاشا في ود ووئام صامتين طوال عقود في الأعظمية وحي التكارتة في الكرخ وأزقة الفلوجة والرمادي. وقد لا نبتعد عن سياق الموضوع اذا ما لفتنا في هذا الخصوص الى التوترات والعمليات المسلحة التي تشهدها هذه المناطق في الوقت الراهن. فعلى رغم ما يقوله الأميركيون من ان عناصر من بقايا النظام السابق تتسلل الى المساجد وتستخدمها مرابض لمهاجمة الجنود والآليات والدوريات العسكرية الأميركية، الواضح ان الإسلاميين المتمثلين في الحزب الإسلامي العراقي تأسس عام 1959 بزعامة اياد السامرائي، وحركة الوحدة الوطنية العراقيةالمتحدة تأسس بعد انهيار النظام العراقي السابق بزعامة الشيخ احمد الكبيسي، وحركة الأخوان المسلمين تأسست في النصف الأول من خمسينات القرن الماضي بزعامة مرشدها اسامة التكريتي، هم الناظم الرئيس لهذه النشاطات التي يصفها مؤيدوها ب"المقاومة"، بينما يصفها الأميركيون ومن يؤيدونهم ب"التخريب البعثي السابق". والواقع ان بنية الإسلام السياسي في العراق شهدت تحولاً ملموساً وسريعاً بعد سقوط النظام السابق. فهذا النوع من الإسلام الذي اشتهر بطابعه الدعوتي الإصلاحي السلمي في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، عاد اليوم مدججاً بدعوات عنفية تدعو الى "الجهاد" و"القصاص العادل" و"الخلافة الإسلامية" و"طرد المحتلين بقوة السلاح"، فيما تترجم اقوالها الى افعال عبر مواجهات واشتباكات يومية مع الجنود الأميركيين. صحيح، هناك اسباب كثيرة تدفع اهالي الفلوجة وتكريت والرمادي في اتجاه هذا التحول، ومنها الوجود العسكري الأميركي المباشر، وعدم إلمام الأميركيين بتعقيدات المجتمع العراقي، وتداعيات شبكة القاعدة وثقافتها التي امتدت الى اوساط اسلامية عراقية. كذلك انخراط اعضاء من الشبكة المحظورة في مقاومة الأميركيين في العراق في فترة صدام حسين وبعدها. لكن مع هذا، يظل السبب الرئيس هو الخوف الداخلي الذي يستبد بالشريحة السنّية العربية في العراق، اسلامييهم وغير اسلامييهم، من ضياع مقاليد "الدولة" من ايديهم في خضم تزايد ادوار اطراف اخرى في العراق المستقبلي كالشيعة والأكراد. استطراداً، تعود الجذور الأولية لظاهرة الإسلام السياسي في العراق الى المكانة العريقة للعراق في الحضارة الإسلامية، ودور بغداد الرئيس في هذه الحضارة، اضافة الى الدور الكبير لمدينتي النجف وكربلاء في تاريخ التشيع. لكن جذورها المعاصرة نمت في احضان الدولة العراقية الحديثة بعدما وجدت حركة الأخوان المسلمين، ومعها الكتلة السنية في الموصل وبغداد والرمادي والفلوجة، ان الدولة العراقية اصبحت مهددة من تزايد دور المعارضة الشيعية في الخمسينات، خصوصاً بعد تأسيس حزب الدعوة الإسلامية. والواقع ان الاخوان العراقيين أحسوا في تلك الفترة بضرورة دعم الدولة السنّية العراقية، لأنها في المحصلة النهائية تعبير عن امتلاكهم ناصية التسلط الاقتصادي والسياسي. وهذا، ساق الاخوان المسلمين، في ما بعد، الى التشدد في نبذ العنف في التعامل مع السلطة، والحرص على الاحتفاظ بالطابع الدعوتي الإصلاحي السلمي لحركتهم. في المقابل، تنبهت الدولة العراقية الى حقيقة هذا التحالف غير المرئي، فلم تبخل في رعاية غير مباشرة لحركة الاخوان من طريق السماح لها بنشاط شبه علني والترشح لانتخابات مهنية في اطار جمعيات المعلمين والطلبة والمحامين. وكان طبيعياً حينما تعرضت هذه الموازين الى الخلخلة بعد الحرب الأخيرة، ان يواصل السنّة العرب وصف صدام حسين بأنه نموذج الاستبداد، لكنهم في المقابل، بدأوا في التعبير عن مخاوفهم في شكل عنيف عبر مواجهة الأميركيين الذين جاؤوا وهم يحملون معهم فكرة تغيير طبائع الدولة العراقية وتوفير فرصة التكافؤ امام جميع المكونات من دون تفضيل طرف قومي او مذهبي على طرف آخر. والواقع ان الحركة الإسلامية الشيعية تحركت في هذا الوسط وفق ضابطين اثنين: الأول، محاولة فصل نفسها عن ايران والنموذج الإيراني لإقناع الأميركيين بأن الشيعة العراقيين لا يمكن ان يمهدوا لأي تغلغل ايراني في كيان الدولة العراقية في حال حصلوا على دور اكبر في حكم العراق. والثاني، تجنب المواجهات المسلحة مع الجنود الأميركيين وتأكيد اعتراضاتهم على الوجود الأميركي في اطار ما يصفونه بأنه مقاومة السلمية. هذان الضابطان يضفيان اليوم على الشارع السياسي الشيعي في العراق هدوءاً لا يتجاوز اقصى درجات توتره عن تظاهرات وتجمعات وخطابات دينية. فالشيعة الذين ذاقوا الأمرَّين من الطبيعة المذهبية الأحادية للدولة العراقية من جهة، ومظالم صدام حسين من جهة ثانية، ليسوا في عجلة من امرهم، بل يفضلون انتظار ما يمكن ان يسفر عنه المستقبل القريب، خصوصاً على صعيد الجهود الأميركية لتعديل طبيعة الدولة والسماح للشيعة بلعب دور اساس فيها. اما الحال على صعيد الشارع السنّي، فهي مختلفة كلياً. فالإسلاميون السنّة يشعرون ان الزمن لم يعد يعمل لمصلحتهم بعد زوال النظام السابق. وأن الوجود الشيعي البارز في الجنوب والوسط، والوجود الكردي في الشمال، قد لا يفضيان إلاّ الى توفير فكي كماشة لتفتيتهم في المستقبل، خصوصاً مع توافر الدعم الأميركي. هذه الحال، الجديدة في مضامينها، خلقت قلقاً هائلاً في ذهن السنّة العرب، بل تشوشاً في اختيار الأسلوب الأنسب لمخاطبة الأميركيين والتعامل مع التطورات الجديدة. وما لجوء بعض قطاعاتهم في الرمادي والفلوجة وبغداد الى العمليات المسلحة، سوى التعبير الحقيقي عن هذا القلق أو التشوش الذي يؤدي في حالات منه الى شكل من التعاون مع البعثيين السابقين. هل يمكن ان تستمر الحال على ما هي عليه؟ الأكيد ان الأمر منوط اولاً بالإسلاميين على مختلف مذاهبهم، وثانياً بالأميركيين. فالإسلاميون، الشيعة والسنّة، في حاجة الى حوار اساسه، لا كيفية مواجهة قوات الاحتلال الأميركي والبريطاني، بل كيفية التعايش الأهلي المشترك في ما بينهم في عراق المستقبل. كذلك الأميركيون المعروف عنهم افتقارهم الى معرفة دقيقة وواقعية بتكوينات العراق الداخلية، مطالبون بإقامة حوار صريح مع ممثلي الطرفين لمساعدتهما في تجاوز الخلافات وتطمينهما الى ان العراق الجديد لن يتعارض مع مصالح اي مذهب وفئة دينية او قومية عراقية. كذلك هم مطالبون بمعرفة حقيقة اساسية مفادها ان المشكلات الحاصلة في مدن غرب العراق ووسطه غير نابعة من بقايا البعثيين، بل نابعة بالدرجة الأولى من خوف الإسلاميين السنّة العرب في تلك المناطق من ضياع حصتهم السياسية والاقتصادية والثقافية في العراق على حساب تزايد حصص الفئات والشرائح الأخرى. * كاتب كردي عراقي