دخل مجلس الحكم العراقي خلال الاسبوع الماضي مرحلة صعبة من التجاذبات السياسية مع شروع اعضائه في مناقشة مسودة قانون ادارة الدولة. اكثر نقاط الخلاف سخونة تتركز على موضوعين: الجهة المؤهلة لاستلام السلطة السيادية من الاميركيين في الاول من تموز يونيو المقبل، والفيديرالية التي يطالب بها الاكراد في اطار عراق موحد. يؤكد اكثر من عضو في المجلس ان النقاشات صعبة. ومع ذلك، يشدد الجميع على عدم دقة وصف الصورة داخل المجلس بأنها اختلافات غير قابلة للحل، ولا يمكن ان تمهد إلا لحرب اهلية وطائفية في العراق. فما يشهده مجلس الحكم من تجاذبات وخلافات، نابع من تعقيدات المواضيع المطروحة، الشأن الكردي ومستقبل العراق، مكانة المرأة في الحياة السياسية، وطبيعة الدولة مثلاً... كما انه نابع من حقيقة ان النقاشات تحتدم في بلد دمرته الضائقة الاقتصادية والمعيشية ومزقته الحروب والعقوبات والعزلة وسياسات النظام السابق. استطراداً، يشعر الشيعة الذين يندفعون الى واجهة العراق السياسية للمرة الأولى منذ اكثر من ثمانين عاماً، بأن تعاونهم مع الاميركيين ونجاحهم في الحفاظ على الامن والهدوء في مناطق نفوذهم جنوبالعراق، واخيراً موافقتهم على تقديرات المبعوث الدولي الاخضر الابراهيمي الخاصة بعدم امكان اجراء الانتخابات قبل الاول من تموز، امور تستعدي حصولهم على ثمن سياسي. وفي هذا الاطار، يعتقدون ان الثمن المطلوب في المرحلة الحالية هو موافقة الطرفين، الاميركي والعراقي، على استمرار مجلس الحكم بشكله الحالي أي بغالبيته الشيعية. وموافقتهما ايضاً على تسلم مجلس الحكم للسلطات السيادية الى حين اجراء انتخابات مباشرة. اما اذا اراد الاميركيون او بقية العراقيين تأهيل المجلس لمثل هذا التسلم عبر توسيعه، فالاجدى، في رأيهم، الحفاظ على معادلة النسب والحصص المعمول بها حالياً في هيكلية المجلس. وفي خصوص السلطة التنفيذية بعد تسلم السلطات، يعتقد الشيعة بأن الاتفاق اذا ما تم على رئيس واحد فلا بد ان يكون شيعياً. اما اذا جرى تشكيل مجلس رئاسي فإنهم يرفضون صيغة من ثلاثة اعضاء: شيعي وكردي وسني عربي لان الميزان الطائفي داخل المجلس في ظل قيادة ثلاثية سيميل لمصلحة الطرف الآخر. الى ذلك، ترفض القوى الشيعية تشكيل مجلس رباعي او خماسي بسبب صعوبات تقسيم المقاعد بين ممثلي الاطراف الشيعية. لهذا تدفع تلك القوى في اتجاه تشكيل مجلس من سبعة او تسعة اعضاء تكون فيه اربعة او خمسة مقاعد للشيعة، ما يسمح باشراك ممثلي مختلف القوى الشيعية. وفي محور الشأن الكردي، بدأت القوى السياسية الشيعية منذ اشهر تبتعد نسبياً عن تحالفاتها السابقة مع الاحزاب الكردية، معلنة معارضتها لصيغة الفيديرالية التي يطالب بها الاكراد. والواقع ان تلك القوى ترى في اقامة النظام الفيديرالي على اسس قومية او حتى جغرافية خطراً على ثقلها السكاني داخل العراق. ففي حالة الفيديرالية القومية اكراد وعرب سيزداد الوزن المذهبي والقومي للاكراد، بينما الفيديرالية الجغرافية شمال ووسط وجنوب ستؤدي الى قيام ثلاثة كيانات محلية: سنيتان في الشمال والوسط، وشيعية في الجنوب. الى ذلك، يعارض الشيعة اعادة ضم كركوك ومدن كردية اخرى مثل خانقين وسنجار وكفري ومخمور وجلولاء الى الخريطة الادارية لكردستان العراق. فهذه المناطق تضم من جهة نسبة لا يستهان بها من الاكراد والتركمان الشيعة، كما انها توفر للاكراد، في حال ضمها الى مناطقهم، شرياناً اقتصادياً بالغ الحيوية. ومن جهة ثالثة تفضي عملية الضم الى توسيع رقعة التجاور الحدودي الكردي العراقي مع ايران، وهذا لا يخدم المصالح الاستراتيجية والجغرافية الايرانية. اما السنة العرب، وبينهم صاحب المشروع المطروح للنقاش في مجلس الحكم عدنان الباجه جي، فإنهم يدعون الى الاحتفاظ بالمجلس. لكن الافضل، في رأيهم، توسيعه على ان يتم شطب الاعتماد على مبدأ النسب الطائفية. وبالنسبة الى الرئاسة التنفيذية، يرون ضرورة اللجوء الى مجلس رئاسي ثلاثي يكون لكل من التكوينات الثلاثة ممثل واحد فيه. وفي الوقت عينه، يلح ممثلو السنة داخل مجلس الحكم على ضرورة النص صراحة على فصل الدين عن الدولة ومنع رجال الدين من تولي مناصب رئاسية، اضافة الى مساعدة المرأة في لعب دورها الطبيعي في الدولة والمجتمع. والواقع ان السنة العرب لا يعارضون الفيديرالية في الظرف الراهن نظراً الى حسابات تتعلق بشراكتهم المذهبية مع الاكراد ولخشيتهم من ان يذهب هؤلاء الى تحالف خفي مع الشيعة. لكن اكثر ما يعارضونه هو توسيع مفهوم الفيديرالية وصلاحياتها وضم كركوك ومناطق اخرى الى كردستان العراق، ما يجعل الاكراد على بعد نحو مئة كيلومتر من بغداد. والارجح ان اوساطاً سياسية وثقافية سنية عربية بدأت تستوعب حقيقة ان الغالبية السكانية في العراق هي للشيعة، وحقيقة ان يقوم اللاعبان الجديدان على مسرح السياسة في العراق: الاكراد والشيعة، بلعب دور بارز. لكنها تخشى ان تفضي الغلبة الشيعية الى تمهيد الطريق امام رجال الدين الشيعة للاستحواذ على مراكز الحكم، ما يزيد من احتمال جمهورية اسلامية في العراق على غرار ايران. والواقع ان هو السر الذي يدفع بالسنة العرب الى تعزيز روابطهم مع الاكراد. اما الاكراد فإن هدفهم المركزي هو تحقيق الفيديرالية اولاً، واقامة عراق ديموقراطي يضمن ديمومة هذا الحق ثانياً. وفي هذا السياق يلح الاكراد على ضرورة تدوين مطالبهم في قانون ادارة الدولة والدستور المستقبلي. وما يزيد من اصرارهم انهم تعرضوا لصنوف الغدر من جراء ابقاء الحكومات العراقية السابقة الحقوق الكردية مجرد تعهدات شفوية. ويعتبر الاكراد ان مطالبتهم بتخصيص جزء من الثروة النفطية العراقية للمناطق الكردية ليست نابعة من فكرة ان هذا ثمن لتدفق النفط من حقول كردستانية. وانما من حقيقة ان المناطق الكردية تم تدميرها خلال نصف القرن الماضي، وان اعادة بنائها اقتصادياً واجتماعياً تحتاج الى مصدر للثروة. الى ذلك، لا يبدي الاكراد اهتماماً كبيراً بتفاصيل هيكيلية مجلس الحكم، لكنهم يشددون على ضرورة ان لا تقل النسبة الكردية في عضويته عن خمسة وعشرين في المئة حتى في حالات توسيعه. كما يرون ضرورة فتح الابواب امام المشاركة الكردية في صنع القرار المركزي وفي المناصب الحساسة، مؤكدين ان الفيديرالية في كل اصقاع الارض تعني امتلاك علم وجيش محلي وقوة امنية تابعة للمناطق. والواقع ان اكثرية القوى العاملة داخل مجلس الحكم او خارجه تعارض التوجهات الكردية الى فيديرالية جغرافية قومية. لكن الخلاف على الفيديرالية وابعادها لم يعد في الاسبوع الماضي بين هذه القوى، بل اصبح خلافاً بين الأكراد وسلطة الائتلاف الموقتة ومسؤولها بول بريمر. واللافت ان الاكراد الذين شاركوا بفاعلية في حرب حرية العراق، بدأوا يواجهون باعتراضات وتحفظات من جانب الاميركيين. لكن سياسيين اكراداً يؤكدون ان الخلاف هو مع بريمر وليس مع الولاياتالمتحدة، معتبرين ان السر في تغير مواقف بريمر هو ضغوط تمارسها قوى شيعية عراقية.