المشهد أبدي. انه لوحة مقدسية. من بعيد ترينا الكاميرا أبنية من حجارة بيض، مئذنة وربما كنيسة، والكاميرا لا تبارح المكان وكأن عدستها دخلت في التقاط مشهد لم يتغير منذ قرون. المشاهد لا يدري لماذا توقفت الكاميرا، لولا دوي الآليات والجرافات مما يُفهمه انه ليس أمام بطاقة تذكارية... ها هي الكاميرا تخرج من سباتها، لترينا صفيحة من باطون رمادي تحاول حجب "ضواحي" المشهد. ها هي الصفيحة تصبح عائقاً بين أعيننا وجزءاً من المشهد الذي توارى. نشعر فجأة أننا لم نر المشهد وقتاً كافياً، فننصب أعيننا على ما تبقى، لكن سرعان ما تتوالى صفيحة ثانية وثالثة ورابعة... اختفى المشهد بحجارته البيض وأبديته. توقفت الكاميرا على الواقع الجديد: جدار رمادي شاهق. الأبد الجديد... فيلم المخرجة الفرنسية - الاسرائيلية سيمون بيتون الذي سيعرض في مهرجان كان في الأسبوع القادم يدعى: "جدار". وعلى ساعة ونصف الساعة تجوب الكاميرا في زواياه. تتكلم مع العديد ممن تصادفهم. تأخذنا الى المصنع الذي يعد صفائحه. الى الجنرال الاسرائيلي الذي يفنّد حسناته. الى ضحاياه الكثيرين. لكنه، في الأخير، يظل فيلماً شخصياً، انسانياً. لأول مرة تذهب بيتون الى هذا الحد في تصوير معاناتها الشخصية عبر معاناة الآخرين. لكنها، هي المخرجة السياسية، لا تنسى السياسة. هذا الجدار هو وليد طبقة سياسية اسرائيلية عاشت ماضي الانزواء والغيتو والانفصال عن المجتمع. هذا الجدار ليست مهامه حماية الشعب الاسرائيلي، بقدر ما يريد تهجير عشرات الآلاف من الفلسطينيين عبر جعل حياتهم جحيماً: مصادرة الأراضي، قطع لقمة العيش، قطعهم عن ذويهم... كيف يمكن لحياة أن تنمو في مثل هذه الأجواء؟ مؤيدو السياسة الاسرائيلية في العالم سيهاجمون هذا الفيلم، الذي لا يتحدث عن العنف الفلسطيني الذي "أعطى كل الذرائع" لتشييد الجدار. بعض مؤيدي القضية الفلسطينية سيجدون ان الفيلم لا يظهر القمع الوحشي الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني، كما يعطي حصة الأسد لإسرائيليين رافضين، أو على الأقل، غير متحمسين للجدار الذي يحظى بنوع من الإجماع على "ضرورته" داخل المجتمع الاسرائيلي، والفيلم يذكر ذلك. كما تصور بيتون شلالات الدم. فهذا الحائط الرمادي لا يحتاج الى سيل دماء كي يُظهر عمق المأساة، مأساة عمّال فلسطينيين يبنون الجدار لكي يعيلوا عائلاتهم لكنهم يرفضون أن تصوّرهم الكاميرا، كي لا يتعرضوا الى القتل بتهمة الخيانة الوطنية. ومأساة مراقب العمل اليهودي العراقي الذي ما زال يحن الى قريته في منطقة أربيل حيث الأراضي كانت تدرّ، دون جهد، كافة الخضار والثمار. ومأساة الفلسطينية سيسيل التي لم تعد تدري أية لغة أو أي منطق تستخدم لتقنع الجندي الاسرائيلي بأن عليها عبور هذه الطريق. ومأساة الاسرائيلي الذي بدأ يبني علاقة صداقة مع جيرانه الفلسطينيين قبل أيام على اندلاع الانتفاضة الثانية. وكاميرا سيمون بيتون تتوقف لدقائق عدة أمام مشهد الفلسطينيين وهم يحاولون تسلق الجدار: كهول، نساء، رجال وقد حملوا أطفالهم، عيون بائسة وبين صفيحتين رماديتين صوت يقول: "في الله..." بينما نسمع موّالاً فلسطينياً يرنّم: "جنة الله عنا... وعيسى وموسى واللي عرّج عالسما عنا...". هذه المآسي إن جُمعت غدت مأساة بيتون نفسها. فهذا الجدار يمر في جسدها وفي عقلها، يريد ان يضع حداً لماضٍ عاشته وأحبته، لهويات مبعثرة ومثمرة. هذا الجدار ليس وليد حضارات ألفتها، هي التي أمضت حياتها ذهاباً واياباً بين فلسطين واسرائيل. من ستحاور بعد اليوم؟ الجدار؟... هل أنا مجنونة؟ تسأل طبيب غزة النفساني الذي يطمئنها الى ان المنطقة جنت. ساعة ونصف الساعة من الحزن والشفافية والجمال أرادتها بيتون لفيلم دون أية تنازلات. يتكلم أيضاً عنا، نحن أبناء الشرق الأوسط الذين لم يعودوا يجدون مكاناً لهم. ويُعيد الى الذاكرة مشهد اليهودي المصري، في فيلم "اسكندرية ليه" ليوسف شاهين، الذي وهو يرحل عن الاسكندرية أمام الزحف النازي، يقول: "اسكندرية بالنسبة لي كل حياتي، مش بس أهلي وناسي اللي عاشوا هنا، لكن طفولتي وأفكاري كلو نابع من هنا... وأنا زي المطلوب بين أن أرمي حياتي وذكرياتي كلها ورايا... وأسرح في البلاد...".