منذ اللحظة التي عرفت فيها سيمون بيتون ان اسرائيل تبني جداراً يفصل مناطق من الضفة الغربية في فلسطين عن فلسطينالمحتلة منذ العام 1948، والتي حملت منذ ذلك الحين اسم اسرائيل، قررت ان تحقق فيلماً عن بناء هذا الجدار. ف"نحن لا نملك - تقول سيمون بيتون الآن - اي فيلم توثيقي يرينا بناء جدار برلين". وفي المقابل نملك ألوف الأشرطة عن هدمه، بالطبع... لذلك وقبل ان يحين موعد الهدم - اذا حان طبعاً! - كان لا بد لسينمائي من ان يصور البناء. وفي الحقيقة لم يكن ثمة من هو افضل من سيمون بيتون للقيام بالمهمة. فهذه الفرنسية من اصل مغربي، والتي تحمل الجنسية الإسرائيلية في الوقت نفسه الذي ترفض كل ممارسات الدولة الصهيونية، وترى حتى في اتفاقيات اوسلو إلحاق أذى بالفلسطينيين وحقوقهم الوطنية والتاريخية، سبق لها ان حققت 15 فيلماً تسجيلياً للتلفزة حول امور تتعلق بالصراع الفلسطيني - الإسرائيلي. ومن بين افلامها واحد عن محمود درويش، وأفلام عدة عن كبار المغنين العرب. اضافة الى فيلم كان من اوائل الأشرطة التي فضحت ممارسات الجيش الإسرائيلي القمعية ايام الانتفاضة الأولى. سيمون بيتون تتكلم العربية والعبرية بطلاقة وتعلن انتماءها الى الهويتين معاً... ولا تخفي عداءها للدولة الصهيونية. وهذا كله أهّلها لأن تسارع الى العمل على هذا الفيلم الذي تغوص، من خلاله، في عمق القضية عبر هذا الجدار الذي تراه، في نهاية الأمر فاتحة لجعل اسرائيل وفلسطين "غيتو" مزدوجاً، لعله يكون اسوأ من كل "الغيتوات" الأوروبية السابقة. على عكس ما يحدث عادة في مثل هذا النوع من الأفلام، تبني سيمون بيتون فيلمها انطلاقاً من فكرة اساسية هي انها لا تخاطب متفرجاً يجهل القضية ككل وعليها هي في فيلمها ان تخبره بالحكاية من ألفها الى يائها. المتفرج الذي تتوجه إليه بيتون يعرف حكاية فلسطين وحكاية الصراع. لذا فإن ما يتعين قوله له هنا هو: ماذا بعد الآن؟ ما معنى هذا الجدار - ليس امنياً وجغرافياً فقط، بل سيكولوجياً ايضاً -؟ وهي لكي تفعل هذا، صورت عشرات الساعات من التحقيقات والمقابلات، ابقت منها في نهاية الأمر اكثر قليلاً من ساعة ونصف الساعة هي زمن عرض الفيلم. وخلال هذا الزمن تتجول بنا كاميرا سيمون بيتون على طول الجدار ومن حوله، وتقول لنا، كل ما يجب ان يعرفه عن حائط السجن الكبير هذا... ولكن ليس على لسان راوٍ ما... بل على لسان اصحاب العلاقة انفسهم: بدءاً بالمسؤولين الإسرائيليين، وصولاً الى اهل القرى العربية الذين تضررت بعض اراضيهم الزراعية وسلبت منهم لضرورات بناء ذلك الجدار. وفي خضم ذلك كله تخبرنا سيمون بيتون ان هذا الجدار الذي يتكلف بناء كل كيلومتر منه مليونين من الدولارات، الفلسطينيون هم العمال الذين يقومون ببنائه، ما يجعلهم - بحسب ما تؤكد لنا - ضحايا مرات ومرات: مرة لأنهم فلسطينيون سلبت منهم بلادهم، ومرة لأنهم يضطرون الى القيام بهذا العمل لأنهم لا يجدون اي عمل آخر، ومرة ايضاً لأنهم - في حال لم يعرفها التاريخ إلا ايام الاحتلال الألماني لفرنسا وبولندا وغيرهما - يبنون بأيديهم سجنهم الكبير، فيكتفون بأن يكونوا عمالاً مسترقّين عند جلاديهم ولا تجابههم عند اخوانهم، الضحايا مثلهم، سوى اللعنات. سيمون بيتون تتوقف في فيلمها عند هذه النقطة بذكاء شديد... غائصة في البعد السيكولوجي من خلال ما يقوله الفلسطينيون انفسهم حول هذا الأمر... لكنها في الوقت نفسه، لا تجد بداً من استجواب ضحايا آخرين، هم هذه المرة ضحايا "حملهم" الدائم لتاريخهم. وهم هنا من طينة اولئك الإسرائيليين الذين تثير لديهم عملية بناء الجدار، أسوأ الذكريات عن الغيتوات الأوروبية. وامثال هؤلاء، في لهجة استسلامية واضحة لا يكفون عن إبداء املهم في ان يكون بناء الجدار مجرد عملية امنية عابرة. غير ان كاميرا بيتون ترد عليهم هنا بما يخيب املهم: "الجدار لا يقام لكي يكون موقتاً. ذلك انه صار اساسياً ليس فقط لأمن اسرائيل بل لسيكولوجية طبقتها الحاكمة، حتى وإن كان طابعه التأبيدي، يشاكس دعوات قديمة لليمين الإسرائيلي تتعلق بضرورة ألا تكون اسرائيل دولة ذات حدود نهائية". بالنسبة الى هؤلاء يمكن الجدار ان يكون حدوداً نهائية في بعد ناسف لتلك الإيديولوجيا. ومع هذا، فإن هذا البعد الإيديولوجي ليس هو البعد الذي يهم سيمون بيتون ان تتوقف عنده مطولاً. وتقول: "انا في شكل عام اردت من فيلمي ان يعطي المتفرج وقتاً ليرى ويتأمل... ذلك ان ما يحبطني منذ بعض الوقت هو ان التلفزيون لا يوفر للمتفرج مثل هذا الوقت. صحيح ان العالم كله شاهد الجدار وهو يبنى وشاهد صوره على شاشات التلفزة ثم... لا شيء. تحول الأمر الى خبر سياسي وإلى سجال بين شارون وحلفائه. اما الآن وبعد العروض الأولى للفيلم والردود المهمة التي تلتها صار في امكان سيمون بيتون ان تقول انها تشعر بالإثارة، لأن بعض المتفرجين، ومن بين الأكثر اطلاعاً على القضية الفلسطينية، يبدون كما لو انهم يشاهدون صور الجدار للمرة الأولى في حياتهم".